أدهش أقرانه بدخول المدارس النظامية على كَبَرٍ وتجاوزه جميع المراحل دون كلل أو ملل
تعهدته والدته بالرعاية والحفظ.. وتنقل بين كبار شيوخ دمشق
اختصر تفسير القرطبي في خمسة أجزاء.. وابن كثير في جزئين
القاهرة - محمد عبدالعزيز
نشأ في أسرة رقيقة الحال، لأب كان يعمل جزارًا، وأم حافظة للقرآن الكريم كانت تقوم على تحفيظ الصغار التنزيل الحكيم، وله العديد من الإخوة الأشقاء وغير الأشقاء، وعلى الرغم من رقة حال أسرته لم يحل ذلك دون طريقه القرآني، وكانت خطواته الأولى على يد والدته.. والتي كان لها فضل كبير على مسيرته القرآنية التي قادته إلى أن يكون شيخًا لقراء دمشق والشام.. هذا هو الشيخ محمد كريم راجح الذي نتعرف إلى رحلته القرآنية عبر السطور التالية..
في قرية "كَفْر حَوَر" التي تبعد نحو خمسين كيلو مترا عن العاصمة السورية دمشق ولد الشيخ المقرئ والفقيه اللغوي والأديب محمد كريِّم بن سعيد بن كريم راجح في العام 1344هـ، الموافق 1926م لأبوين صالحين، فكان والده على الرغم من أنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب على جانب كبير من الصلاح والتعفف، أما والدته رحمها الله فكانت امرأة صالحة تُقرئ التنزيل الحكيم للصغار.. والتحق الشيخ دون الخامسة من عمره بالكتَّاب، وتعلم الخط والإملاء، والجمع والطرح والضرب والقسمة، وظل مداومًا على الكتَّاب حتى بلغ الثامنة من عمره وقد تعلم أساسيات القراءة والكتابة وحفظ قدرًا من القرآن الكريم.. وكان من شيوخه في هذه الفترة المبكرة ياسين الزرزور، محمد الزرزور، أديب الصبَّان، أبوراشد اللبني.. ومن ثم دخل مدرسة (وقاية الأبناء للجمعية الغراء) وبقي فيها عامًا واحدًا فقط، حيث انصرف عنها لشدة وصرامة أساتذتها، وكانت هذه المدرسة ـ كما قال الشيخ لاحقًا ـ "مدرسة نظامية يغلب فيها تعليم الدين لكن بأسلوب ضعيف".
أمارات النجابة
في الثانية عشر من عمره التحق الشيخ للعمل في المطبعة الهاشمية ليواجه متطلبات الحياة، وكان من عجائب القدر، أن طبع فيها تفسير الجلالين (للإمامين المحلي والسيوطي)، فوقعت في يده ملزمة فيها تفسير سورة الأنبياء، وتحديدًا الآيات: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ).. قرأها شيخنا مرة، ومرتين، وثلاثًا، فأعجب بما تحمله الآيات من قصة سيدنا إبراهيم غاية الإعجاب، وتعلَّق بها أشدَّ التعلق، وأخذ يكرر قراءة السورة حتى حفظها عن ظهر قلب.. عاد بعدها في المساء إلى منزل والديه، حيث تلقته أمه المعلمة الصالحة وقص عليها ما كان، مبديًا رغبته الشديدة في حفظ القرآن الكريم كاملا.. وهو الأمر الذي شجعته عليه كثيرًا.
وأخذ الشيخ في حفظ القرآن على طريقة صحائف، وكان يحفظ من تلقاء نفسه، إلى أن ساقه القدر إلى جامع القاعة، وكان إمامه وخطيبه فضيلة الشيخ حسين خطاب رحمه الله ـ شيخ قراء دمشق لاحقًا ـ فاتَّصل به ولازمه، وأتمَّ عليه حفظ القرآن الكريم، كما حفظ عليه ألفية ابن مالك في النحو، ونهاية التدريب للعمريطي وهو نظم لمتن "غاية التقريب في الفقه الشافعي للإمام أبي شجاع"، كل هذا وعمر شيخنا بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة، أتم حفظ القرآن الكريم كاملا في سنة وشهر.
ولأن الشيخ حسين خطاب -رحمه الله- تفرَّس في شيخنا أمارات النجابة والذكاء فأخذه إلى الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي احتواه في مدرسته التابعة لجمعية التوجيه الإسلامي، فانقطع الشيخ إلى العلم في هذه المدرسة منذ العام 1940م، ولازم شيخها ملازمة تامَّة إلى أن توفَّاه الله، وكان قد أتقن القراءات العشر، وحفظ الشاطبية في مدة وجيزة.
وعن هذه الفترة يقول الشيخ راجح: "حفظت القرآن منذ مراهقتي، وطلبت العلم أثناء ذلك، وكان شيخي الأول فضيلة شيخ القراء الشيخ حسين خطاب، بعده العَلم الفرد الشيخ حسن حبنكة، ثم انتسبت إلى جامعة دمشق، فحملت الإجازة في العلوم الشرعية، ثم إلى كلية التربية فحملت الدبلوم العامة، ثم كنت مدرسًا في "بصرى" الشام، ثم مفتيًا في ناحية "إزرع" من جنوب دمشق، وتنقلت في أكثر من مسجد خطيبًا، وشغلت منصب الإمامة لمساجد متعددة".
مسيرة وعزيمة
حفظ الشيخ الشاطبية والدرة والطيبة، وبمضامّينها جميعًا أتقن القراءات العشر الصغرى والكبرى، ولم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره بعد، وتصدَّر للإقراء وهو في هذه السن المبكرة مجازًا من شيوخه، ناهيك عن تمكنه في العلوم الأخرى من تفسير، ونحو، وبلاغة، وفقه، حيث تفقه في المذهب الشافعي على عدد من العلماء ربما يغني عن الإطالة من تعدادهم تصدُّر الشيخ حسن حنبكة رأس القائمة، حيث كان رحمه الله من كبار الشافعية في عصره.. وفي منتصف الخمسينيات عنَّ للشيخ أن يتم دراسته النظامية فالتحق بالإعدادية، والبكالوريا الشرعيتين وأتمهما، ثم دخل كلية الشريعة وتخرج فيها، ثم دخل كلية التربية في جامعة دمشق وتخرج فيها أيضًا.. وهذا أمر أدهش أقرانه ومتابعيه، فانقطاع الشيخ عن الدراسة، ثم التحاقه بمدرسة الشيخ حسن حبنكة العلمية ودراسته على كبار العلماء شتى أنواع العلوم، ومن ثم دخوله المدارس النظامية على كبر سنه، وتجاوزه لجميع المراحل، دون كلل أو ملل، بل وتخرجه من كليتين جامعيتين.
وبعد تخرجه، عُيِّن الشيخ إمامًا في أحد مساجد دمشق، وكان في أثناء ذلك تزوج وأنجب ثلاثة أولاد، وكان يعيش معهم في قبو لا تتجاوز مساحته خمسين مترًا، ويعاني حالة من الفقر، إلى أن جاءه أحد طلابه وهو الآن الدكتور محمد دلول، ورشحه مدرسًا في المدرسة المحسنية، فتحسنت حالته المادية، لكنه تركها في السنة التالية لظروف خاصة، فدخل مسابقة درس الفتوى وعقد له اختبار فكان الأول على جميع المتسابقين، فعيَّن مدرسًا دينيًا وحصل على مرتَّب كبير، وتنقل بعدها بين الإمامة والخطابة والتدريس، وتنقل في خطابة الجمعة بين عدد من مساجد دمشق وجوامعها الكبيرة التي تغصُّ بالمصلين، كما كان يلقي دروسه ما بين المدارس والمساجد، وذلك منذ بداية طلبه للعلم، حيث درس في معهد الفتح الإسلامي، في قسم التخصص (التفسير) البحر المحيط لأبي حيان، والفقه المقارن، والتجويد، كما درس في دائرة الفتوى، وفي مجمع الشيخ أحمد كفتارو التجويد، والتفسير، والفقه المقارن.. كما درس في جامع المنصور يوميًا بعد الفجر عددًا من الكتب في التفسير والحديث والفقه والسيرة، والمواعظ والرقائق وغيرها..
وعن ذلك يقول الشيخ: "عملت أستاذًا في قسم التخصص في معهد الفتح الإسلامي، وأستاذًا في مجمع الشيخ أحمد كفتارو، ووفقني الله إلى اختصار تفسير القرطبي في خمسة أجزاء، وتفسير ابن كثير في جزئين، كما اختصرت شرح النووي على صحيح مسلم، وكذلك تفسير مختصر للقرآن الكريم.. وقد تلقيت "الشاطبية" و"الدرة" على شيخنا شيخ القراء الشيخ أحمد الحلواني الحفيد، كما تلقيت "طيبة النشر" على شيخنا عبدالقادر قويدر العربيلي، رحمهما الله تعالى".
نصيحة للشباب
وعلى الرغم من تقدم الشيخ في السن، وهو الآن في سن السابعة والثمانين، لا يخلو منزله من دروس العلم.. ونختم بتوجيه للشيخ حفظه الله يقول فيه: "إن القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه، فإذا وجد العقل الذكي، واللغة السليمة، والإخلاص لله أمكن أن يستنبط من القرآن الكريم معاني في غاية العجب، وذلك من معجزات القرآن.. وأود أن أضع في أذن كل مسلم أن الذي أخرج الأوائل من ظلمات الشرك وبراثنه هو القادر على أن يخرجهم من أضاليل الشياطين اليوم، إنه القرآن وإنها السنة، لا القصص الخرافية التي يصفق لها العامة، فعلينا أن نرفع العامة إلى مستوى الإسلام لا أن نهبط معهم إلى مستوى الخرافات، فنكون كما قال الله تعالى: (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
محمد كريِّم راجح.. المقرئ والفقيه اللغوي والأديب
- التفاصيل