عبدالكريم الملا
إن أشد ما يعانيه الشباب.. التناقضات التي يجدها في الاسرة والمجتمع، بين الممارسات الحقيقية والقيم المعلنة سواء من قبل الأب والأم أو المعلم أو المسؤولين. فالتناقضات تزعزع الثقة في النظام العائلي والاجتماعي، فالأطفال يتلقون قيمهم أساساً من المنزل والمدرسة ويسمعون من آبائهم وأمهاتهم عن الصدق والأمانة والعدل بين الناس والاحترام وبر الوالدين وغير ذلك من القيم العظيمة، فنجد الأب يمنع ابنائه التدخين بحجة انه مضر وهو يدخن، وعن هذا الأمر يحدثني أحد الآباء بأنه أرسل ابنه لشراء علبة التدخين، فلما رجع وجد رائحة التدخين تفوح منه، فقال له هل دخنت قال الابن: لا. فقلت لماذا تكذب علي؟ ولماذا تدخن أصلا؟ ألم أمنعك من التدخين!!! فضربه ضربا شديدا عقاباً له على فعل هو يفعله. فتأمل مدى التنافض بين سلوك الأب والقيم التي يعلمها لأبنائه.. ويشتكي أحد التلاميذ من أبيه أنه ينفق كل ماله على الزوجة الثانية التي يصفها بالصغيرة والجميلة ويوفر لهم جميع وسائل الراحة فالمدارس الخاصة من نصيب أبناء الثانية، والمطاعم والمتنزهات والسفرات وكل ما يحبونه من وسائل الراحة، ونحن أولاد الزوجة الأولى (القديمة) ليس لنا أي شيء من ذلك غير السب والشتم والضرب. فكيف نضرب بقيمنا عرض الحائط؟؟!!.
وعندما يطرق أحد الباب أو يتصل بنا نقول لأبنائنا قل للمتصل: إني غير موجود أو نائم، وغير ذلك من المواقف قد نقوم بها ونعتقد أنها أمور عادية، ولكن في الواقع تزعزع الثقة بينه وبين والديه وتهدم هذه القيم والمبادئ، ومن هنا نطمس هويتنا وقيمنا الاسلامية والعربية. وإذا انتقلنا إلى بعض المدارس نجد عجباً فيأتي رسام من خارج المدرسة ويرسم لوحة جميلة وعند حضور المسؤولين وأولياء الأمور نقول لهم: إن الطالب.. هو الذي رسم هذه الرسمة، ويقف المعلم الذي يعلم طلابه الصدق والإخلاص في العمل وتحمل المسؤولية؛ نجده يخلص في التدريس الخصوصي ويأتي بالمذكرات والأوراق المهمة ويدربهم ويعلمهم ويبذل قصارى جهده، حتى يوصلهم للنجاح، ولكن إذا تأملت تدريسه داخل الفصل يكون بعيداً كل البعد عن هذه القيم من إخلاص وتحمل للمسؤولية. والمصيبة عندما نجد بعض المعلمين يساعدون الطلاب على الغش فى الاختبار وتكون هناك بعض المحسوبية لمجموعة معينة من الطلاب، إننا بذلك حطمنا شخصية الطالب، وبينا له أنك ما تقوم به من جهد وتعب وتحمل للمسؤولية، كل ذلك تضييع للوقت فقد ينجح غيرك وهو غير مستحق لذلك، وبذلك حطمنا فيه قيم تحمل المسؤولية والمبادرة والاجتهاد والأمانة.
إن من أسباب الحيرة لدى الشباب التناقضات.. فلا يستطيع أن يتخذ أي قرار وأن يتحمل المسؤولية بل يصل إلى أنه يشك في قيمه ومبادئه، فيخرج جيل ضعيف الهوية، لذلك ذم الله تعالى هذه الصفة فقال: ((يا أيُها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون. كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) [الصف:2 — 3 ]. وأكثر التناقضات أثراً في نفوس الشباب وتدميراً لها تناقض الأقوال والأفعال، عندما تكون صادرة من الآباء والمربين والقادة والموجهين.. ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: "من أعظم أسباب الحيرة التي يعانيها الشباب المسلم اليوم، هو التناقض في المجتمع الذي يعيش فيه، تناقض بين ما ورثوه وبين ما يعيشونه، وبين ما يُلقّنونه تلقيناً وبين ما يطلبه علماء الدين؛ هذا التناقض العجيب الذي سلط عليهم ومنوا به، هو السر في هذه الحيرة المُردِية.. هناك عقائد آمن بها كمسلم ولد في بيت إسلامي في أسرة إسلامية، ونشأ على كثير من العقائد وتلقاها بوعي أو بغير وعي، ثم إنه نشأ في بيئة دينية تؤمن بمبادئ الإسلام، وقرأ التاريخ الإسلامي ـ إذا أكرمه الله بذلك وتسنّت له هذه الفرصة الكريمة ـ وكان سعيداً بوجوده في بيئة واعية دينية، ثم سيق إلى دور ثقافة يسمع فيها من أولئك الأساتذة الذين يجلُّهم كل ما ينقض ما أبرمته البيئة، وكل ما غرسته في قلبه وعقله من التربية الإسلامية، أو يقلل قيمته على الأقل، فيقع في تناقض عجيب، وصراع فكري عنيف، وفي ارتباك نفسي.
"إن إزلة عملية التناقض في الأجيال القادمة تحتاج إلى قناعة قوية لإرجاع الشباب إلى هويتهم، ولابد من وجود قناعة قوية لدى الجميع وهي جعل القيم والمثل ميزاناً لمعايير السلوك والأخلاق فتعتبر من الأمور المهمة في إزالة التناقض، كما أنّ التزام وسائل التوجيه في البيت والمدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام بالربط بين الأقوال والأفعال، والحقائق والواقع، أمر مهم في إزالة التناقض. ولا يتحقق ذلك إلا بعد بناء خطة واضحة الأهداف والوسائل، والتقويم المباشر لجميع الفعاليات والبرامج التربوية، ولا بد من جهد جماعي يتصف بالتربية المستمرة لجميع الأعمار، تكون شاملة للجيع بدون استثناء؛ للعامل والمعلم والمهندس والأب والأم، ودور إعلامي قوي وبمشاركة جميع الوسائل المتاحة من القنوات الفضائية والإذاعية والصحف والمجلات وأجهزة التواصل الاجتماعي وغير ذلك.
لن نستطيع أن نتقدم شبراً إلى الأمام إلا بعد توفير أجواء من الحرية، الحرية في الرأي والفكر، والحرية في الإرادة والاختيار، والحرية في الرفض والقبول، والحرية في مواجهة الأخطاء والتصدي لها، والانحرافات ومعاقبتها.
التناقضات في حياة الشباب
- التفاصيل