فاطمة رضا
يزداد اضطلاع الأطفال في مجالات إبداعية وإنتاجية كثيرة. ومع نهايات القرن العشرين، لمعت أسماء لصغار في عالم الإنترنت، في الدول الغنية كما الفقيرة. وكأن التكنولوجيا الحديثة جاءت لـ «تساوي» بينهم، على الأقل، في تكوين المهارات والقدرة على التعبير بواسطة وسائل لم تكن متاحة في السابق.
ربما كانوا يجيدون استخدام الورقة والقلم، لكن انتشار إنتاجهم كان متعذّراً، فقد كان بروز الأطفال في مجالات أدبية، مثل الرواية، موضع تندّر. ومع اكتسابهم المهارات «الجديدة»، راحوا يخوضون في الميادين التي كانت حكراً على الكبار. وبوجود وسائل النشر اليسيرة والتساهل في مشاركتهم البالغين مجالات إنتاجهم، بات حضورهم معززاً.
وقد أنشئت مهرجانات عالمية للأفلام التي ينتجها الأطفال، إعداداً وتصويراً وتوليفاً وإخراجاً. وثمة برامج تدرّب الصغار على صوغ أفكارهم ورؤاهم بالصورة، أي بوسيلة التواصل العصرية. وهو أمر يوقظ فيهم شغف البحث وحب التعبير بوسائل مختلفة.
ويبقى السؤال عن تأثير ملكات الأطفال الجديدة على صراع الأجيال. في الماضي، كان في وسع التلميذ التفوق على أستاذه، لأن الحياة لا تزال أمام الأول... ولكن، عندما يكون التلميذ هو البالغ والأستاذ هو الطفل... ما هي فرص تفوق الثاني على الأول؟
يخرج من باب غرفته حاملاً الكومبيوتر في يده. يوصل شريط الشاحن بالكهرباء، ويمد طرفه الآخر إلى جانبه من دون أن يصله مباشرة إلى الكومبيوتر بانتظار أن تعلن البطارية عن حاجتها للشاحن، ويتمركز على الكنبة نفسها الأقرب إلى المفتاح الكهربائي. إلى جانبه هاتفه الخليوي والـ Ipod يبدأ بشبكهما إلى الكومبيوتر بهدف الـUpgrade. يبتسم ابتسامة خفية مجرد أن يرى جدته تقترب منه، ويوسع لها مكاناً من دون أن يقول أي كلمة، فيبدو يوسف أكبر بسنوات من سنينه الاثنتي عشرة في تفهمه لمزاج جدته رجاء.
تجلس رجاء، تتأمل الشاشة من دون أن تطلب أي شيء، بانتظار أن ترى ذلك الشباك التي باتت تعرفه جيداً يظهر على شاشة الكومبيوتر. يراوغ يوسف بضع دقائق، قبل أن تفقد صبرها فتطلب منه بحياء «هل خالتك أونلاين؟». السؤال الخجول للجدة الخمسينية، لا يلبث أن يتحول كلمات متدفقة لا يـستطيع حـفيدها اللـحاق بـها، لمـجرد أن يكون الرد إيجابياً.
تبدأ رجاء بتلاوة حديثها وعلى يوسف أن يترجم ما تقوله طباعة على شاشة الكومبيوتر وإرساله إلى خالته (أخت جدته) وفاء، قل لها: «إن الحرارة هنا في دبي وصلت إلى 38 البارحة واسألها عن الطقس في لبنان». هل أجابتك؟ ماذا قالت؟ طيب اسأل سناء (أختها الثانية) هل هي أونلاين؟ دردشة رجاء التي تعيش وأولادها في دبي مع أخواتها من لبنان، تمر من خلال قنوات يوسف الناطق باسم جدته، وفي لبنان الواقع لا يختلف كثيراً، فأليسار (21 سنة) هي من تتولى نقل أجوبة والدتها وفاء، ولين (15 سنة) أجوبة سناء. مجموعة من الأطفال تشبك الأهل في ما بينهم، الأهل الذين فاتهم قطار العلم التكنولوجي من جهة بات هاجساً لديهم أن يلتحق أولادهم بهذا الركب من دون أي تأخر.
يجد الأولاد في محادثة ذويهم، فرصة من أجل استخدام الكومبيوتر من دون «عداد الساعة المسلط» على رؤوسهم من أجل بدء الواجبات المدرسية، والتي أصبحت أخيراً تعتبر الطريق المباشر و «الشرعي» من اجل استخدام الانترنت. فالكومبيوتر واكسسواراته من ضرب سريع على المفاتيح، وإبحار في عالم الانترنت، وقدرة الأولاد على الحصول على معلومات مختلفة بضربة أزرار إلى جانب صور وموسيقى وفيديو، يمنح الأهل شعوراً كبيراً بالفخر، يكاد لا تشوبه شائبة إلاّ في أحيان قليلة مع الخوف مما يمكن أن يدخل إليه الولد على الشبكة العنكبوتية ولا يناسب سنه.
في لبنان، أكانت التكنولوجيا والانترنت معروفة ومنتشرة إلى حد كبير في أوساط من تتراوح أعمارهم بين ثلاثين وستين سنة أم لا، فإن استخدام هذه الفئة التكنولوجيا تتفاوت مع تفاوت اختصاصاتهم وميادين عملهم، مع أن هذا الاستخدام لا يزال في طوره الأول في لبنان، فالعدد الكبير لانتشار الخليوي، مثلاً، لا يعني بالضرورة أن هذا الجهاز يُستخدم لأكثر من إجراء المكالمات الهاتفية. فقلة من اللبنانيين تستخدم هواتفها التي تحمل خدمة الـWap أو الانترنت لهذه الغاية، لا بل هناك شريحة كبيرة جداً من اللبنانيين لا سيما من قطع منهم الخامسة والأربعين، لا تستخدم خدمة الرسالة القصيرة، فترى الهاتف المتطور الذي تحمله ليلى (52 سنة) يحوي أكثر من 150 رسالة قصيرة كمعدل وسطي لرسائل غير مقروءة، وهي بمعظمها إعلانات، ولكنها لم تفتح أياً منها لجهلها بذلك.
وتبقى في انتظار أحد أولادها ليمحو هذه الرسائل أو يطّلع عليها. وتعليم ليلى دخول قائمة المحتويات لهاتفها يبدو شبه مستحيل. وكلما حاول أحد أولادها أن يدرّسها ألف باء هاتفها، تنتهي محاولته إما بصراخ الأولاد الذين يفقدون الأمل وإما بصراخها تتهمه بقلة الصبر.
يشكل الأهل والولد والتكنولوجيا معادلة صعبة، لا سيما إذا كان الأهل من الجاهلين بعمل هذه الأدوات والوسائل، حتى ولو كانوا متعلمين. وتصعب الحالة أكثر مع أهل غير متعلمين في كلا المجالين. وتكبر عزيمة الشريحة الأخيرة أكثر فأكثر من أجل تربية أبناء يماشون التطور ويكونون ملمين بكل ما يلزمهم من أجل تأمين مستقبل جيد لهم في عالم يتحول رقمياً.
وتعتبر الألعاب الإلكترونية من الوسائل الأولى التي يعتبر الأهل أنها تيسر لهم مجاراة أولادهم، وما أن يشتروا أياً من هذه الألعاب، التي تكون أحياناً أغلى مما تحمله موازنة العائلة، حتى تنشأ الهوة وتتسع بينهم وبين أطفالهم. فإذا استطاع الأب مجاراة ابنه في اللعبة، فإن الأم تسبح منبوذة من المجموعة، ولا سيما إذا كانت لا تحسن لفظ اسم اللعبة أو اللاعبين. يصرخ علي (7 سنوات) في وجه والدته «هيدي إكث بوكث (اكس بوكس) وهذه ريثلينغ (ريسلينغ، أي مصارعة)، مث كيك بوكغثينغ (لا كيك بوكسينغ)؟ واللاعب الأقوى هو جون ثينّا أوكي، ما اثمه جول مينا أو ما بعرف ثو بتقولي (واللاعب الأقوى هو جون سينا واسمه ليس جول مينا)... ويلتفت إلى والده بغضب محركاً يديه بعد أن أدخلت «هذه الأم» التي لم تتقن حتى الآن، اسم «فرد العائلة الجديد» مع أنه مر على وجوده معهم أكثر من أسبوعين. قهقهة الوالد من جهة والوالدة من جهة ثانية، التي أصرت أن تستفز علي أمام جارتها كي تظهر لها مدى «إلمامه» باللعبة وإتقانه شروطها... «وكمان شاطر كتير على الكومبيوتر. عليك أن تري كيف يلعب، إنه يغلب الكومبيوتر». وضعت الأم طفلها موضع اعتزاز بما يقوم به، فأخذ يتملق والدته بكثير من الكلام، حتى بعد انتهاء الاستعراض أمام الجارة. تملق يتخلله كثير من «قلة الأدب» لم يعد باستطاعة أم علي أو أبيه الحد منها، فلا يمكن التعامل مع الولد بازدواجية الاستعراض أمام العامة، والمحاسبة في الكواليس.
الألعاب الإلكترونية، تتسلل من كل حدب وصوب إلى المنازل، ومن لا يملك القدرة على شراء إحداها، يرسل أولاده إلى الانترنت كافيه، من أجل اللعب. ومنهم من يعلم بأن التكنولوجيا وأدواتها لا تقتصر على لعبة، وأن في تفاصيلها الكثير من العلم والفن، تماماً كتلك الـــسهرة التي جمعت يعقوب (15 ســنة) وأخاه ابن الســـابعة بوالديهما، سهرة مبهرة كما وصفها الوالد، «استعدنا فيها أغاني الأيام الجميلة، عبر اليوتيوب»، والد يعقوب من العارفين بالتكنولوجيا، حتى أن زملاءه في المكتب يعتبرونه مرجعاً في كثير من تفاصيل هذه التقنية.
ولكن الأمر لا يخلو من أن يؤنّبه يعقوب، في كثير من الأحيان، لاتصاله بالأخير سائلاً عن كيفية لصق صورتين متقابلتين على الصفحة نفسها من أجل طباعتها.
«نبرة عالية» غالباً ما ترافق ردّ أحد أبناء الجيل التكنولوجي الصاعد، على سؤال من يكبره سنّاً، وكثيراً ما تترافق هذه النبرة باستخفاف، يجد فيه هؤلاء الطريقة المثلى للتخلص من طلب «تعليم» مقدّم من أمه أو أبيه أو أي من أفراد العائلة. ويأتي الرد: «أنت لن تتعلم، لقد فات الأوان». عبارة فات الأوان من ولد لم يبلغ سن الرشد بعد، إلى ذويه، تخلّف حسرة ما في قلب هؤلاء الذين يقومون، على الأقل، بكل ما يلزم، وأحياناً بما يفوق قدراتهم المادية من أجل أن يصل ابنهم إلى ما هو فيه من معرفة.
دار الحياة