محمد السيد عبد الرازق
انطلقنا في المقال السابق حول الحديث عن الرؤية وأهميتها، واليوم ننطلق في جولة أخرى نستهلها بتجربة واقعية يحكيها لنا أحد أكبر رواد التنمية البشرية في العالم..
تجربة واقعية:
ويحكي لنا ستيفين كوفي عن تجربة خاضها بنفسه حينما أتى مدير إحدى شركات النفط، وقال له: (ستيفن، عندما أوضحت الفرق بين القيادة والإدارة في الشهر الثاني فإنني أعدت النظر في الدور الذي أقوم به كرئيس لهذه الشركة، وأدركت أني لم ألعب أبدًا دور القيادة.
لقد كنت غارقًا لأذني في عملية الإدارة، لقد دخلت إلى مدى عميق في الإدارة وغارق تحت أشكال التحدى الحاسمة وتفاصيل المشاكل اليومية، ولذا قررت الانسحاب من الإدارة، حيث إني أستطيع تكليف أناس آخرين بالقيام بذلك، فأنا أريد أن أقود حقًا شركتي.
وكان أمرًا صعبًا فلقد مررت بالآلام المصاحبة لعملية الانسحاب؛ لأنني توقفت عن التعامل في المزيد من الأمور العاجلة والمؤثرة التي كانت تبدو صحيحة أمامي والتي أعطتني شعورًا بالقدرة على الإنجاز إلى حد ما، ولم أشعربالرضا؛ حيث بدأت الصراع مع مشاكل التوجيه وقضايا البناء الحضاري والتعمق الشديد في تحليل المشاكل والتعلق بالفرص الجديدة.

وقد عانى آخرون من مشاكل الانسحاب من مناطق الراحة التقليدية من عملهم، لقد فقدوا السهولة بالعمل التي أعطيتهم من قبل، فهم لا يزالون يريدون أن أكون قريبًا منهم للتجاوب معهم والمساعدة في حل مشاكلهم يومًا بيوم.

ولكنني أصررت فقد كنت مقتنعًا تمامًا أني في حاجة إلى ممارسة القيادة وقمت بذلك فعلًا، واليوم فإن كل عملنا أصبح مختلفًا، وأصبحنا أكثر تناسقًا مع بيئة عملنا، لقد ضاعفنا دخلنا وزادت أرباحنا أرعب مرات ودخلت مرحلة القيادة الفعالية.

وأصبحت مقتنعًا أن الآباء غالبًا ما يدخلون في متاهة نموذج الإدارة والتفكير في الإدارة والكفاءة والتعلميات بدلًا من  التوجيه والهدف ومشاعر الأسرة، وفي حياتنا الشخصية فإننا نفتقد كثيرًا جانب القيادة) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفين كوفي، ص(143-144)].

ولذا نقول لك: تأكد تماما أن انطلاقتك في الحياة ستكون أقوى، ونجاحاتك أعظم، وسوف تتمكن من قيادة حياتك بسرعة نحو ما تريد، عندما تتوفر لديك رؤية واضحة في الحياة.

عن الفوائد نتحدث:
وحتى تحوز الفوائد وتحقق أقصى ما يمكن حيازته منها لابد وأن تدرك أولًا أهمية التكامل بين القيادة والإدارة.

وفي هذا يقول ستيفين كوفي:
(فالقيادة هي الشق الأول في الإبداع وليست هي الإدارة، فالإدارة هي النصف الثاني من عملية الإبداع.

والإدارة هي البؤرة الأساسية الممكن رؤيتها بوضوح وهي الوسيلة التي استطيع بها أن أنجز أشياء معينة، أما القيادة فإنها تتناول الجزء الظاهر للعيان، وما هي الأشياء التي أريد أن أنجزها.

والإدارة هي الكفاءة في تسلق سلم النجاح، بينما تحدد القيادة ما إذا كان السلم الخاص بها يستند على الحائط المناسب) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفين كوفي، ص(141)].

ميزان الذهب:
إن الرؤية الملهمة، تعد بمثابة ميزان الذهب، الذي يقدم لنا المعيار الصادق الدقيق لمدى نجاحنا، ومقدار تقدمنا نحو تحقيق أهدافنا، وترجمة رسالتنا.
ويتحقق ذلك بأن (تبدأ منذ اليوم بتصور وتخيل نموذج لما ستكون عليه حياتك كإطار مرجعي وقاعدة تضبط على محكها كل أمورك، ويمكن اختبار كل جزء من حياتك وسلوكك اعتبارًا من اليوم والغد وفي الأسبوع المقبل أو الشهر القادم على ضوء ما يهمك حقًا بالدرجة الأولى...، كما أن كل يوم في حياتك سوف يسهم بطريقة مجدية في الرؤيا التي كونتها عن حياتك بشكل عام.

ويعني ذلك بطبيعة الحال وبوضوح ماذا سوف يكون عليه مصيرك، وسوف تدرك إلى أين أنت متجه وذلك حتى تستطيع أن تفهم بشكل أفضل وضعك الحالي، وهو الأمر الذي سوف يمكنك من وضع خطواتك دائمًا على الطريق الصحيح.

وقد تجد نفسك قد دخلت بطريقة سهلة لا يمكن تصديقها إلى مصيدة النشاط والانغماس في الحياة والعمل الشاق المستمر نحو سلم النجاح الذي قد تكتشف في نهاية الأمر أنه لم يكن مستندًا إلى الحائط المناسب، ومن الممكن أن لا يؤدي انغماسك في العمل وانشغالك إلى نتتائج مجدية وفعالة) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفين كوفي، ص(136-137)].

إذا فالرؤية الملهمة معيار صادق، نتعرف من خلاله على مدى جدوى ما نقوم به من أدوار، ونقيس به مدى قربنا أو بعدنا عن تحقيق رسالتنا في الحياة.

فالبدار البدار إلى قطع مسافات الحياة وفق رؤية واضحة، ونحذرك أن يأتي عليك زمن قد اشتعل رأسك فيه شيبًا واحدودب ظهرك، وأنت تستعيد ذكريات الماضي الضائع، وتقطر كلماتك ندما: (لقد ضاع عمري هباء، لقد انجزت الكثير ولكن لم أكن أريد حياتي بهذه الطريقة، لم يكن ذلك العمل هو طموحي).

إنها كلمات تفيض صراحة وموضوعية وحيادًا في النظر إلى الأمور، ولكن بعد فوات الأوان، فلو كانت رؤية ذلك العجوز واضحة ماثلة أمام عينيه، وهو في سن الشباب، ثم عاير إنجازاتها على أساسها، لم يكن ليمر به العمر دون جدوى.

قرار عجيب:
تعد جامعة هارفرد من أهم وأعظم جامعات الكرة الأرضية، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق، يسعى البشر بمختلف ألوانهم وجنسياتهم وتخصصاتهم أن يحظوا بفرصة الالتحاق بها.
هب أن أحد الطلبة أتيحت له منحة دراسية في تلك الجامعة، فقبلها ولكن بعد التحاقه، قرر ترك الدراسة في تلك الجامعة العريقة؟! لا ريب أن الجميع سيتنتابهم الدهشة، وربما وصفه البعض بالجنون، من ذلك القرار العجيب.

ولكن قبل أن تتسرع بإطلاق الأحكام عليه، لابد أن نعلم أن الحكم الصائب على ذلك القرار لا يكون من منطلق وجهة نظرنا، ولكن بوضع القرار في ميزان الرؤية الذهبي.

قد يتبدل الحكم لو علمنا أن هذا الطالب يدرس الرياضيات في تلك الجامعة العريقة، ولكن رؤيته كانت تتلخص في إنشاء شركة عظيمة للبرمجيات والحواسيب الآلية.

وفي غضون سنوات قلائل بعد اتخاذ ذلك القرار، أصبح يمتلك ذلك الشاب نواة تلك الشركة، شقة صغيرة من أربع حجرات بالطابق الثامن من أحد المباني بمدينة ألبو كيرك في ولاية نيو مكسيكو.

هل تعلم ما هي هذه الشـركة؟ إنها شركة مايكروسوفت، وهذا الطالب هو أغنى رجل في العالم لسنوات طويلة، إنه بيل جيتس.

لقد كان بالطبع قرارًا صائبًا نابعًا من رؤية واضحة المعالم، فحين كان (بيل جيتس في السنة الدراسية الثانية في جامعة هارفارد وعمره 20 سنة قال: عندما يصبح عمري 30 سنة سأصبح مليونيرًا، وأكون قد استطعت إدخال الكومبيوتر في كل بيت.

وعندما بلغ عمره 30 عامًا كان مخطئا بأمر واحد فقط، لم يصبح مليونيرا، بل أصبح مليارديرًا) [كيف أصبحوا عظماء، د.سعود الكريباني، ص(29-30)].

لقد أدرك جيتس أهمية أن يكون لدى الإنسان رؤية في حياته، لذلك كان يقول: (الرؤية مجانية، لذلك، فإنها ليست ميزة تنافسية بأي طريقة أو شكل) [اضغط الزر وانطلق، روبين سبكيولاند، ص(125)].

طاقة بلا حدود:
وإن كانت الرؤية الواضحة تمنحنا الإطار المرجعي الذي نقيم من خلاله أداءنا ونقيس مدى تقدمنا، ونحدد خيارات حياتنا وقراراتنا، فكذلك تعطي الرؤية طاقة من الإلهام اللامحدود، تلك الطاقة التي يقول عنها ستيفين كوفي:

(عندما نتحدث عن (إلهام الرؤية) فإننا نتحدث عن طاقة عميقة ودائمة، تنبع من إبصار شامل، قائم على المبادئ، والحاجات، والملكات، يذهب إلى أبعد من حيز الزمان والمكان، إن هذه الرؤية تقوم على مبدأ أزلي لرؤية الزمن، بمعنى العصور، أو مدى الحياة أو أبعد من ذلك، إنها تدخل إلى عمق وجودنا وهويتنا ورسالتنا، إنها التحقق من العطاء المتميز الذي نستطيع تقديمه، والذكرى الطيبة التي نحب أن نتركها وراءنا، إنها توضح الهدف، وتعطي الاتجاه، وتمنحنا القوة لإنجاز ما يتجاوز مواردنا.

نحن نسميه (إلهامًا)؛ لأن هذه الرؤية ستصبح قوة دافعة، وبالتالي تصبح طابع حياتنا، إنها منسوجة في كياننا، لدرجة أنها تصبح القوة الدافعة وراء كل قرار نتخذه، إنها الطاقة الداخلية، إنها التفاعل الداخلي الذي يحدث عندما تندمج حاجاتنا الأربع الأساسية بشكل كبير، إنها الطاقة التي تجعل الحياة مغامرة، أو هي نعم التي تشتعل داخلنا بفعل الطوارئ، والتي تدفعنا إلى أن نقول لا ـ بهدوء وثقة ـ للأشياء الطارئة والأقل أهمية في حياتنا) [إدارة الأولويات الأهم أولًا، ستيفن ر. كوفي، ص152].

ثم يضرب مثالًا بالزعيم الهندي غاندي، فيقول: (انظر إلى غاندي على سبيل المثال، الذي جاء من خلفية متواضعة فقيرة، مليئة بالحقد، والخوف، وعدم الأمن، بصفة أساسية لم يكن يحب أن يكون مع الناس، بل وحيدًا، لم يحب أن يعمل كمحام، ولكنه أوجد وبالتدريج علاقات تحقق مكاسب لكل طرفين متصارعين وكان في ذلك سعادته.

ولكن بمجرد أن رأى عدم العدالة ضد الشعب الهندي نبتت الرؤية في عقله وقلبه، ومن هذه الرؤية نبتت فكرة إيجاد مجتمع تجريبي حيث يمارس الجميع فيه قيم المساواة، لقد رأي كيف يمكنه مساعدة الشعب الهندي في تعديل رؤيتهم لذواتهم كأفراد أقل من البريطانيين المحتلين إلى رؤية القيمة العالية لهذه الذات.

عندما اعتمد غاندي على الرؤية الداخلية، اختفت نقاط الضعف، إن وجود الهدف والرؤية قد حققا نمو الشخصية والتطوير، لقد أراد أن يحب الناس ويخدمهم، وأن يكون معهم، كانت رغبته الأولى هو أن يسترد كيان أمته، نتيجة لذلك استطاع في النهاية أن يجعل انجلترا تركع، وتحرر أمة من ثلاثمائة مليون مواطن.

في نهاية حياته، قال غاندى: (إنني مجرد شخص عادي بمواهب دون مواهب الشخص العادي، ليس لدي شك في أن أي رجل أو امرأة يمكنه تحقيق ما حققته متى بذل نفس الجهد، وزرع نفس الأمل والإيمان)، إن قوة الرؤية الملهمة أقوى بكثير من قوة ما زرع بداخلنا من أفكار، بل تستخدم هذه القوة بشكل يعيد هيكلة الشخصية.

إن قوة الرؤية المشتركة تشحن الأفراد لكي يتجاوزوا الصعاب والسلبيات التي تستهلك وقتنا وجهدنا مما يقلل من مستوى جودة الحياة، إن الإلهام الذي تقدمه تلك الرؤية التي تحدثنا عنها هو عبارة عن قوة تحويل ودفع ذات تأثير بالغ في وقتنا وعلى جودة حياتنا) [الإهم أولًا، ستيفين كوفي، ص(152-154)].

إذًا فهي الرؤية الملهمة تخرج من كنوزها الكثيرة وفوائدها العظيمة، فهي التي تصنع لنا النجاح، وتمنحنا السعادة، وتساعدنا في تقييم حياتنا، وتحديد خياراتنا، بل وتمنحنا طاقة هائلة لنجاح مستمر وسعادة دائمة وفاعلية أكيدة.

فكما يقول الدكتور عبد الكريم بكار: (الناس ذوو الإنجاز العالي لديهم ما يشبه الهوس بهدف معين، والحقيقة أن الإنسان بمجرد أن يحدد لنفسه هدفًا واضحًا تقفز إمكاناته قفزة إلى الأعلى، ويزداد نشاطه، ويتيقظ عقله، وتتحرك دافعيته، وتتولد لديه الأفكار التي تخدم أغراضه) [149بصيرة في التراث والماضي والتاريخ والمستقبل وطبائع الأشياء، د.عبد الكريم بكار، ص(53)].

ولكن لكل بناء أساس، وبناء الرؤية الملهمة لابد أن يرتكز على أساس متين، وجذور قوية وعميقة، ألا وهي الرسالة الفعالة، المبنية على القيم والمبادئ والتي من خلالها يصوغ كل واحد منا رؤيته.

فلنستجمع الفكر والكيان إذن، لنرى كيف نرسم رسالة حياتنا، ونحدد أركانها، حتى ننطلق بها لتحقيق رؤيتنا، وصياغة أهدافنا، والوصول إلى الفاعلية والنجاح.

المصادر:
الرؤية الملهمة د. محمد العطار.
العادات السبع للناس الأكثر فاعلية ستيفن كوفي.
كيف أصبحوا عظماء د.سعد سعود الكريباني.

JoomShaper