محمد السيد عبد الرازق
تحدثنا في المقال السابق عن مركزية الإنسان في الحياة، والناس تتخذ مركزيات كثيرة، وفي هذا المقال نلقي بالضوء على بعض الأمور التي يتخذ منها الناس مركزًا لهم ولحياتهم، ونرى هل تصلح كمركز لحياة الإنسان الذي جعله الله خليفة له في الأرض أم لا..

المال:
إن المال من الأشياء التي يتخذ منها كثير من الناس مركزًا لحياتهم، بل يجعلونها المركز الرئيس الذي تنبع منه كل أفعالهم وتصرفاتهم وقراراتهم.
هؤلاء الناس نراهم دائمًا يعتبرون أن الأمان الاقتصادي هو السبيل لتحقيق كل شيء، ولا شك أن في كلامهم بعض الصواب، فالمال ضروري لتحقيق الاستقرار الأسري، وتوفير الاحتياجات الأساسية، ولكن المشكلة هل المال غاية في حد ذاته أم أنه وسيلة؟ إن المال وسلة بلا شك.
وهل كل من جمع المال حقق السعادة؟ بل إن كثيرًا ممن جمعوا الأمال لم يجدوا السعادة وما تحققت أمانيهم، وأعظم مثال على ذلك "كرستينا أوناسيس" تلك الفتاة اليونانية، ابنة المليونير المالي المشهور "أوناسيس" ذلك الذي كان يملك المليارات، والجزر، والأساطيل.

هذه الفتاة مات أبوها، وقبل ذلك ماتت أمها، وبينهما مات أخوها، وبقيت هي الوريثة الوحيدة ـ مع زوجة أبيها ـ لهذه الثروات الطائلة.
لقد ورثت عن أبيها ما يزيد عن 7.5 مليار جنيهًا، فتاة تملك أسطولًا بحريًا ضخمًا، تملك جزرًا كاملة، تملك شركات طيران، كم من إنسان يتمنى أن يكون مثل هذه المرأة! أنت تعلم أنه لو وزعت ثرواتها على مئة فرد، لأصبحوا من كبار الأثرياء.

إليكم فصول قصتها العجيبة، أما أمها: فقد ماتت بعد حياة مأساوية، كان آخر فصولها الطلاق، وأما أخوها: فقد هلك بعدما سقطت به طائرته، التي كان يلعب بها، وأما أبوها: فقد اختلف مع زوجته الجديدة التي هي "جاكلين كندي" زوجة الرئيس الأمريكي السابق "كندي"، تلك الزوجة التي تزوجها بملايين الدولارات، يبحث عن الشهرة فقط، ليقال: إنه تزوج بزوجة الرئيس الأمريكي "جون كندي".

ومع ذلك فقد عاش معها في شقاء دائم، تصور أن من بنود عقد الزواج: ألا تنام معه في فراش، وألا يسيطر عليها، وأن ينفق عليها الملايين حسب رغبتها، ومع ذلك فقد اختلفت معه، وعندما مات، اختلفت مع ابنته.

وبعد وفاة أبيها تزوجت برجل آخر يوناني، وعاش معها شهورا ثم طلقها أو طلقته، ثم تزوجت من رجل شيوعي روسي وعاشت معه بعد الزواج في روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمه، فقد جلست تخدم في بيتها ـ بل في غرفتيها، وعاشت معه سنة، ثم طلقها بل طلقته.

ثم بعد ذلك أقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم. أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة!

وآخر فصل من فصول المسرحية الحقيقية، تزوجت برجل فرنسي، ثري من أحد أكبر رجال الصناعة، وبعد فترة يسيرة أنجبت بنتا، ثم طلقها بل طلقته.

ثم عاشت بقية حياتها في تعاسة، وهَمٍّ، وأخيرًا وجدوها ميتة في شقة بالأرجنتين، لا يعلمون هل ماتت ميتة طبيعية، أم أنها قتلت، حتى إن الطبيب الأرجنتيني قد أمر بتشريح جثتها، ثم دفنت في جزيرة أبيها!! [السعادة بين الوهم والحقيقة، د.ناصر العمر، ص(5-6)، بتصرف].

فجمع المال أمر هام يجب أن نحرص عليه، إلا أنه لا ينبغي أن يصير مركز اهتمامنا، ورحم الله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقد وضع المال في مكانته وعرف قدره فقال: (يا حبذا المال أصون به عرضي وأرضي به ربي) [أدب الدنيا والدين، الماوردي، ص(417)]، فما جعل المال سوى وسيلة لكفاية النفس وصيانة العرض وإرضاء الرب.

العائلة:

إن نبينا صلى الله عليه وسلم أوصانا أن يرعى كل رب أسرى أسرته وعائلته، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، ولكن هل المقصود من  ذلك أن يجعل الإنسان عائلته أو أسرته هي مركز حياته فيعيش فقط للأسرة أو للعائلة.

إن (الذي يجعل من أسرته محور حياته بأسرها، يأتي عليه يوم وهو يرى أنه لم يجن من ذلك أرباحًا تتناسب مع ذلك البذل الخرافي الذي بذله حين جعل أسرته محور اهتماماته ومركزها.

وكثيرٌ من الآباء يشكو من هجران أولاده له، ودور المسنين تعج بآباء وأمهات فقدوا قيمة الحياة، لما انتهى دورهم مع أسرهم وعائلاتهم، فها هي سيدة مسنة تدعى أم محمد، تحكي فقدانها لقيمة الحياة بعد عقوق ابنها فتقول:

(سخَّرت حياتي لأجله، وحولت قارعة الطريق والأرصفة إلى مباسط متنقلة قاومت فيها حرارة الشمس تارة، وشدة البرد تارة أخـــرى، والكثيــــر مــن المضايقات؛ من أجل أن أؤمــن له قوت يومه وجميع طلباته).

وبعد أن خنقتها العبرة، زادت: (بعد أن تخرج ابني في الجامعة، وحصل على وظيفة حكومية، فوجئت بتهربه من مسؤولياته تجاهي، وتهكمه من مهنتي، قبل أن يطالبني ببيع البيت الشعبي الذي ورثَّنا إياه والده المتوفى بحجة رغبته في تجهيز نفسه للزواج فوافقت على الفور، وانتقلنا إلى شقة مستأجرة).

واكتشفت أن ابنها طالبها بعد فترة بالخروج من الشقة والتوجه إلى دار المسنين بحجة ضيقها، وكي يأخذ راحته مع شريكة المستقبل، واليوم، تستجدي (أم محمد) أهل الخير لتؤمن قوت يومها، بعد أن تجرد ابنها من كل معاني الإنسانية، ولم يرحم كبر سنها أو يرأف بمرضها) [الرؤية الملهمة، د. محمد العطار].

إن الإنسان عندما يتخيل نفسه وقد تطاول به العمر، وبلغ الستين أ والسبعين، وقد بذل قصارى جهده من أجل عائلته، وضحى بكل شيء من أجل سعادتهم، ليجد أن مركز حياته لم يكن هو الأساس، ولكن متى؟ بعدما فات الأوان.

(وحتى إن كانت روح المودة والقربى قوية ومستمرة بين أفراد العائلة، ولكن ربما تفقد تلك العائلة أو أحد أفرادها في أي وقت لسفر أو مرض أو موت، فكيف تبني رسالتك على أساس قد يضيع منك في أي وقت؟!

ولذا؛ لا تصلح الأسرة وحدها أن تكون مركز اهتمامنا الرئيسي وإنما لابد من حسن رعاية الأسرة بلا إفراط أو تفريط.

لاشك أن الزواج علاقة وثيقة وميثاق غليظ جعله الله تبارك وتعالى بين الرجل والمرأة، فقال جل وعلا: {ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لأيات لقوم يتفكرون} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى الرجل بزوجته، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله) [رواه الترمذي وصححه الألباني].

فإحسان الرجل لزوجته أو الزوجة لزوجها أمر أوجبته الشريعة ولكن لا ينبغي للرجل أن يمركز حياته ويمحورها حول الزواج وكذلك الحال بالنسبة للمرأة.

وإلا ستكون المشاعر قائمة على النمط الذي يعامل به كل منهما الآخر، وستكون العلاقة معرضة لتقلبات مزاج ومشاعر الطرف الآخر.

وذلك لأن (الزواج مهما بلغت أهميته فإنه أيضًا وسيلة لتحقيق العفة والسعادة والاستقرار، ولكنه ليس بغاية يحيا من أجلها الإنسان) [صناعة الهدف، هشام مصطفى، صويان بن شايع الهاجري].

وتأمل كيف يمكن للطلاق أن يؤثر سلبًا في الأزواج المنفصلين (فقد وصل الحال إلى إنشاء ملجأ للمطلقين بدولة تونس؛ لإعادة تأهيلهم من حالات الاكتئاب التي تصيب الكثير منهم، بينما يقدم بنك (أوجاكي كيوريتسي) الياباني قروضًا للتخفيف من آلام الرجال المطلقين).

وربما يفقد الإنسان زوجته أو أحد من أولاده، ويصيبه من القلق والاكتئاب ما يصيبه، فكيف يمكن أن يكون الزوج مركز الحياة وأساس الرسالة؟!

والآن عزيزي الشاب، يمكنك أن تجلس لساعات وتتفكر ما هي مركزيتك في الحياة، وما هو الشيء الذي يستحق أن تجعله مركزًا ليحاتك، ومنه تنبع تصرفاتك وأفعالك وقراراتك، وما هو الشيء الذي تسعد في نهاية حياتك أنك اتخذه مركزًا لها.. ابدأ رحلة التفكر إلى أن نستكمل في مقال قادم بإذن الله.

JoomShaper