محمد السيد عبد الرازق
ألقينا الضوء من قبل على بعض الأمور التي يتخذ منها الإنسان مركزًا لهم ولحياتهم، وتبين أن ما سبق لا يصلح أن يكون مركزًا لحياة الإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض، وقد تحدثنا من قبل عن: المال، العائلة .. وفي هذا المقال نستأنف الحديث عن بعض الأمور التي يتخذها بعض الناس مركزًا لحياتهم..
أولًا: العمل:
إن الحرص على العمل أمر طيب، بل إن الله عز وجل أمرنا بالسعي بحثًا عن الرزق وبيَّن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن خير الطعام هو ما كان مما اكتسبه الإنسان بيديه، فيقول صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبى الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) [رواه البخاري].
ولكن المشكلة تكمن حينما تتمركز حياة الفرد حول العمل، (فإن الأشخاص الذين تتمركز حياتهم حول العمل يتحولون إلى مدمني عمل مع مضي الوقت، ويضحون من أجل ذلك بالصحة والعلاقات والأشياء الأخرى الجميلة في الحياة) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفن ر.كوفي، ص (158)].فالإنسان قد يخسر حياته إن جعل بؤرة تركيزه الوحيدة هي عمله، ويحكي لنا ستيفن كوفي عن أسرة تفككت بسبب انشغال رب الأسرة بجمع الأموال عن الاهتمام بزوجته وأسرته فيقول: (يحكي أحد زملائنا القصة التالية: منذ عدة سنوات أعلن أحد الأشخاص لزملائه وجيرانه أن هدفه للعام القادم هو أن يكسب مليون دولار، كان هذا الرجل من رجال الأعمال المبدعين الذين يؤمنون بالحكمة القائلة "أعطني فكرة جيدة وأنا أكسب مليونًا".
عمل هذا الرجل على تطوير وتسجيل منتج مبتكر له علاقة بالرياضة البدنية، ودار في كل المناطق يبيعه، أحيانًا كان يأخذ أحد أولاده معه لمدة أسبوع خلال هذه الرحلات اشتكت زوجته إليه من أخذ الأولاد معه لأنهم بعد عودتهم من الرحلة يصبحون أكثر إهمالاً لدروسهم وواجباتهم المدرسية، ولأن الأطفال يرون أن هذا الأسبوع مجرد إجازة فإن ذلك يمنعهم من القيام بما يجب أن يقوموا به في نهاية العام.
أعلن هذا الشخص أنه حقق هدفه وكسب المليون دولار، ولكن بعد ذلك بقليل طلق زوجته وأدمن اثنان من أبنائه المخدرات، بينما خرج الثالث ولم يعد، باختصار تفككت العائلة تمامًا) [الأهم أولًا، ستيفين كوفي، ص(201)].
وعلى النقيض من ذلك، هذا أب فاز بأسرته لأجل أنه آثر حب أولاده على حب المال و العمل، فيحكي لنا ستيفن كوفي فيقول: (وأنا أعرف أبًا كان على وشك اصطحاب أبنائه إلى زيارة لسيرك حيوانات سبق أن وعدهم بها، وعندما جاءت له مكالمة هاتفية للذهاب إلى عمل هام رفض، وقال لزوجته: إن العمل سوف يأتي مرة أخرى على عكس الطفولة التي لن تعود، وظل أطفاله طوال حياتهم يذكرون لأبيهم هذا الموقف كدليل على ما يُكنُّه لهم من حب وإعزاز) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفين كوفي، ص(158)].
وعندما يكون العمل هو مركز الحياة ومحورها، يخيم اليأس على الحياة في نهاية المطاف، فهذا متقاعد قد (جلس يقلب دفاتر ذكرياته شدة الحنين إلى الماضي أراد الخلوة مع نفسه، لقد سرقته الأيام والسنين دون أن يشعر بها.
لقد أصبحت حياته كلها أرقام ومعادلات وحسابات وكشوفات، سخَّر كل وقته لعمله وطموحاته وانجازته فقط، لم يشعر بمرورها كان كالساعة المبرمجة تحسب كل دقيقة في حياته.
حتى أسرته لم يكن له وقت معهم فوقته مضغوط، فقد أوكل ذلك إلى زوجته، فكانت خير من يدبر شئون تلك الأسرة، فاستلمت الزوجة زمام الأمور الأسرية.
ولكن فجأة مرت علية الأيام مسرعة حين لم يكن مستعد لها، معلنة أنه قد حان الرحيل من تلك الأجواء المليئة بالأرقام والحسابات التي لا تنتهى بانتهاء اليوم والليلة.
لقد كان القرار صدمة في حياته، إنه التقاعد، أحس بأن الدنيا انتهت بالنسبة له؛ لان الأرقام لعبته والمعادلات متعته والرسومات هي تخطيط حياته، فلا يعرف غير ذلك، أعتاد على روح العمل والحركة والدوام الرسمي.
اتصل به الآخرون كي يباركوا له التقاعد، وبأنها فكرة أكثر من رائعة لكي يرتاح من إرهاق العمل بعد تلك السنين، الكل سعيد في أسرته لهذا القرار؛ لأنهم يرون بأن من حقه إن يرتاح بعد تلك السنين، ويهتم بصحته؛ لأنه كبر فبعد الجهد والعمل الشاق لابد له من الراحة، ولكن في قرار نفسه هناك شعور مختلف.
لم يمضى سوى أيام له في المنزل وأحس بأنه في جو غريب عليه، كأنه استيقظ من نوم عميق، الكل له حياة خاصة وله اهتمامات خاصة، لايعلم شيئًا عن خصوصياتهم ولا مشاكلهم.
لقد كان مشغولًا عنهم طول تلك السنين، واعتادوا على عدم وجوده، لقد أصبح غريبًا في داره، الكل مشغول بأموره الخاصة، منهم من في مدرسته أو جامعته أو أعماله، يخرجون بعد أخذا الإذن من الأم؛ لأنهم اعتادوا على وجوده أكثر النهار خارج المنزل في اجتماع أو مؤتمر أو خارج البلاد في مهمة عمل.
لايعرف مراحل تعليمهم بالضبط إلى ما تحدثه به الأم، أتكل على أمهم بتلك النواحي، يخبرونه بالنتائج، وكانوا دائما يحصدون النجاح وعليه بشراء الهدايا وجلب الأموال).
تخيل أنك هذا الرجل، تمضي حياتك بين جدران العمل، ثم تتقاعد لتجد الفراغ القاتل أنيسك، والوحدة الموحشة رفيقك؟! إذًا فليس العمل مركزًا حقيقيًّا نبني عليه رسالة حياتنا.
الثاني: الممتلكات:
ويتخذ كثير من الناس ممتلكاتهم مركزًا لحياتهم، بحيث يشعرون بالأمان والقوة من خلال هذه الممتلكات، (فقد تكون القوة الدافعة لأناس كثيرين هي الممتلكات التي لا تعني فقط الأشياء الملموسة مثل الملابس الفاخرة والمنازل والسيارات والمجوهرات ولكن أيضًا الشهرة والمجد والتميز الاجتماعي، ويدرك الكثير مدى ضعف هذا العنصر الذي قد يختفي بسرعة حيث يتأثر بعوامل كثيرة) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفن كوفي، ص (158-159)].
ومثل هؤلاء الناس تكون حياتهم مضطربة ومعرضة للخطر في حالة ضياع هذه الممتلكات التي كانوا يملكونها، (ولطالما سمعنا عن أشخاص ارتكبوا جريمة الانتحار بسبب ضياع أموالهم في المضاربات المالية، أو بسبب تقلب سياسي سحب عنهم الأضواء) [العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفن كوفي، ص (159)].
وما أعظم المثل القرآني، والقصص الرباني، حين يخبرنا أن الممتلكات تضيع من صاحبها بين عشية وضحاها، فها هو قارون، قد آتاه الله {من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة} [القصص: ٧٦]، حتى صارت تلك الممتلكات والكنوز هي محور حياته ومركزها، فشعر أنها مصدر القوة ، فتجرأ لسانه على أن يقول: {قال إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: ٧٨].
وصار حلم الجميع أن تكون لهم تلك الممتلكات؛ ظنًا منهم أنها تمنحهم القوة وترفع شأنهم، فقالوا: {ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} [القصص: ٧٩].
ثم يأتي القرآن ليضع النقاط عى الحروف والأمور في نصابها، ويعلن نتيجة الحياة المرتكزة على الممتلكات والكنوز، ويذكر بالعواقب الوخيمة: {فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} [القصص: ٨١].
إذًا فحتى الممتلكات لا تصلح أن تكون مركزًا لرسالة الإنسان في الحياة، ولا حتى العمل، وللحديث بقية...