محمد السيد عبد الرازق
إنها شهقاتك وزفراتك، إنها أيامك ولياليك، إنها ساعة العمر تناديك
إنها أيامك المجموعة وأنفاسك المعدودة وسنينك المحدودة، إن ذهب بعضها وشيك أن تذهب كلها..... إنها أوقاتك.

خواطر شاب:

ففي كل يوم تشرق شمسه عليه، يتبعها غروب يؤذن بالذهاب، ثم يتبعه سكون الليل مذكرًا بما طوى من القرون.
وفي كل مرة يشيع جنازة تذكره كم ودَّع من شباب عانقتهم الأماني، خانهم ريب المنون.
وعند كل ذكر للأمم السابقة قصها ربنا في كتابه، يشعر بالخشوع يسري في جسده، يا الله كم من الأمم طُويت منذ آلاف السنين؟ لم يبق منها شاهد وبقي كتاب ربنا في طيه عبر وآيات تُرَدد كل حين، طورًا تلاقي معرضًا أو يهتدي فيها الفطين.

وهنا تساءل الشاب:
يا عمر من يثني عنانك كيفما يبغي تكون؟
يا وقت من ينهاك عن طي الليالي والسنين؟
فأتاه الجواب:
إنه لا أحد، فالعمر يُقطع والوقت يجري، وجنة الرحمن تنادي: يا شباب، لا تشغلنكم الأماني، انتبهوا لمر الليالي، واستعدوا للمنون، فأنا مقر سعد للعاملين.
فهيَّا أيها الشاب تيقظ قبل فوات الأوان وبادر بإمساك عنان وقتك، مستغلًا أياه فيما ينفعك في دنياك وأخراك، متذكرًا قول الإمام ابن القيم طيب الله ثراه: (فأول منازل العبودية اليقظة وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، ولله ما أنفع هذه الروعة، وما أعظم قدرها وخطرها، وما أشد إعانتها على السلوك فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سبي منها) [مدارج السالكين، ابن القيم، (1/123)]، وأنا أعينك بإذن الله على استغلال وقتك وإدارك غايتك؛ من خلال تلك النقاط العملية:
1- هدفك أولًا:
وتلك هي نقطة البداية والانطلاق، إذا أردت أن تستثمر وقتك في هذه الحياة، وهي أن تضع لك هدفًا في هذه الحياة تسعى إليه وتعيش من أجله، وتنسج من هذا الهدف ثوب حياتك الذي سوف ترتديه إلى أن تلقى الله جل في علاه.
(فاربأ بنفسك أيها المؤمن أن تشذ عن هذا الكون، بأن تعيش في هذه الحياة وأنت ابن يومك، لا تحدد هدفك، ولا تملك رسالة أو رؤية واضحة لحياتك؛ وعندها تحس بالغربة والوحشة، ثم تصاب بالاكتئاب وأنت ترى الناجحين يحققون الآمال والإنجازات وأنت لا تزال تراوح مكانك.
إن الفرق الأساسي بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية؛ أنه وحده الذي يمتلك القدرة على وضع الأهداف وتحقيقها، فإذا لم يحدد الإنسان هدفه في الحياة؛ فإنه لا يستحق إنسانيته بعد أن أضاع حياته في أكل وشرب ونوم)[صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز، صويان شايع الهاجري، وآخرون ص(75)].
وإذا ما حددت وقتك بدقة؛ فتيقن بإذن الله أنه لن يبق وقت ينفق في الفراغ أو فيما لا يفيد؛ لأن (تحديد الهدف وإدارة الوقت متلازمان تمامًا، فلا يمكن أن تحقق واحدًا دون الآخر؛ فالشخص الذي حدد أهدافه في الحياة هو الشخص الوحيد القادر على إدارة وقته بكفاءة واقتدار، بحيث يحقق أقصى استفادة منه.
فإدارة الوقت لا تعني استغلاله وفقط، إنما تعني الاستفادة القصوى من الوقت في تحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف، فليس المهم أن تتقدم بسرعة، بل المهم أن يكون تقدمك في الاتجاه الصحيح.
(فلا يكفي أن ننشغل؛ السؤال هو: ما الذي يشغلنا؟)[قوة الأهداف ... اقتباسات إدارية للانتقال إلى مستويات أعلى في الحياة، كاثرين كارفيلس، ص(53)]، فتحديد أهدافنا هو الذي يمكِّننا من ترتيب أولوياتنا، بحيث نستطيع توزيع ما نملك من وقت على الأنشطة اليومية التي تصب في تحقيق هذه الأهداف تبعًا لأهميتها بالنسبة لنا.
خير الخيرين:
ومما فات يتبين لنا أن الذي لا يملك أهدافًا واضحة؛ فإن بساط وقته ينسحب من تحت قدميه سريعًا، ودعني أفاجئك وأقول: حتى لو كان هذا الوقت يذهب في أهداف نافعة، أتدري لماذا؟
لأن تلك الأعمال وإن كانت نافعة، لكن لا تعمل في اتجاه أهداف محددة، وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، إنما العاقل من يعرف خير الخيرين وشر الشرين)[مجموع فتاوى ابن تيمية].
(وإنما نعني بعملية وضع أهداف الحياة أن تضع تصورًا كليًّا شاملًا لجميع جوانب حياتك، في تكامل وتناسق، تمامًا كالذي يرسم لوحة فنية رائعة متناسقة الألوان، أو يكتب "سيناريو" مُحكَمًا لقصة سعيدة.

ثلاثية السعادة والنجاح:

أما الآن، فلكي نتمكن ويتمكن كل منا من كتابه سيناريو حياته؛ فينبغي أن نحدد سويًا الطرق الأساسية والعلامات التي ترشدنا إلى الوصول إلى النجاح المنشود في هذه الحياة، وهي كالآتي: الرسالة، الرؤية، الهدف.
عن الرسالة نتحدث:
وهنا لاشك أنك حينما قرأت المسارات الأساسية لصياغة النجاح المنشود تساءلت، ما الرسالة؟ فنقول: إن الرسالة هي المهمة الكبرى أو الدور الأكبر الذي يعيش الإنسان من أجل تحقيقه في الحياة، أو في كلمة واحدة: [الرسالة = الحلم الحقيقي]، فالرسالة هي غاية الفرد، والمجال الذي سيتميز فيه، والجمهور الذي سيعامله، وبعبارة أوضح: هي الغاية النبيلة التي سيحيا الإنسان من أجلها.
مثال: إن رسالتي في الحياة أن أصل إلى رضا ربي سبحانه وتعالى، إن رسالتي إنشاء مؤسسة تخدم الشباب المسلم وتوظف طاقتهم... إلخ.
عن الرؤية نتحدث:
أما الرؤية يا شباب هي أقصـى صورة واقعية يمكن من خلالها تحقيق الرسالة على أكمل وجه، أو في كلمة واحدة: [الرؤية = الطموح]؛ فالرؤية صورة يرسمها المرء لنفسه بعد عشر سنوات مثلًا.
مثال: إن رؤيتي أن أمتلك شركة استيراد وتصدير من أكبر الشركات في الشرق الأوسط.
عن الأهداف نتحدث:
أما بالنسبة للأهداف فهي تلك النتائج الواقعية التي يريد الإنسان تحقيقها، وهي تشمل ثلاثة أنواع من الأهداف:
(1) النوع الأول: أهداف قصيرة الأجل، وهي الأهداف التي يحققها الإنسان في فترة قصيرة، تتراوح في الغالب من يوم إلى سنة؛ ومثال ذلك النوع من الأهداف: الحصول على دورة في المستوي الأول في اللغة الإنجليزية.
(2) النوع الثاني: أهداف متوسطة الأجل،وهي الأهداف التي يحققها الإنسان في فترة متوسطة، تتراوح في الغالب من سنة إلى خمس سنوات؛ ومثال ذلك: حفظ كتاب الله أو الحصول على دبلوم في فرع من فروع العلم.
(3) النوع الثالث: أهداف طويلة الأجل، وهي الأهداف التي يحققها الإنسان في فترة طويلة، تتراوح في الغالب من خمس سنوات إلى خمس وعشـرين سنة أو أكثر؛ ومثالها: الحصول على درجة الدكتوراه في مجال تخصصك العلمي، وتُطْلَق كلمة الرؤية غالبًا على الأهداف طويلة الأجل، وقد تشمل أيضًا بقية أنواع الأهداف)[مستفاد من صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز، صويان شايع الهاجري، وآخرون، ص(92-95)].
2- استفد من تنظيم الوقت:
فإذا وضعت هدفك في الحياة وأدركت قيمته؛ فقد قطعت أولى خطواتك نحو الاهتمام الصحيح بساعات عمرك ولحظاته، فلن تضيع شيئًا منها في أمور تعطلك عن هدفك أو تقلل من احتمالية وصولك إليه.
ولهذا؛ كان سلف هذه الأمة من أشد الناس حرصًا على أوقاتهم، لعلمهم أن صاحب كل رسالة سامية لا ينبغي له إلا أن ينفق أغلى ما لديه وهو وقته في رسالته السامية، والآن دعنا أيها الشاب ندخل سويًا إلى بستان همتهم وحرصهم على أوقاتهم الماتع نقطف من أزهارهم ونرى كيف صنع اهتمامهم بأوقاتهم بركة في عمرهم وعملهم:

ابن الجوزي:

يقص علينا ابن الجوزي رحمه الله كيف استفاد من وقته في حضور مضيعي الأوقات والبطالين: (لما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير؛ كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمن، فصرت أُدافع اللقاء جهدي، فإذا غُلبت قصَّرت في الكلام لأتعجل الفراق.
ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد[الكاغد: وهو القرطاس أو الورق، وهي لفظة فارسية معربة، انظر: تاج العروس، مرتضى الزبيدي، (1/2239)]، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي!)[صيد الخاطر، ابن الجوزي، (1/225)].

حتى في الختام:

وهذا أبو يوسف يعقوب الأنصاري، يستغل وقته حتى في لحظاته الأخيرة، يحكي لنا حكايته إبراهيم بن الجراح الكوفي فيقول: (مرض أبو يوسف، فأتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم، ما تقول في مسألة؟
قلت: في مثل هذه الحالة؟!
قال: ولا بأس بذلك، ندرس لعله ينجو به ناج.
ثم قال: يا إبراهيم، أيهما أفضل في رمي الجمار ـ أي في مناسك الحج ـ أن يرميها ماشيًا أو راكبًا؟
قلت: راكبًا.
قال: أخطأت.
قلت: ماشيًا.
قال: أخطأت.
قلت: قل فيها، يرضى الله عنك.
قال: أما كان يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وأما ما كان لا يوقف عنده؛ فالأفضل أن يرميه راكبًا.
ثم قمت من عنده، فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمة الله عليه)[الوقت أنفاس لا تعود، عبد الملك القاسم].

همة الإمام النووي:

إنه الحافظ الشافعي الإمام النووي رحمة الله عليه، عجيب مع ما نسمعه عنه أن نعلم أن تُوفي وعمره 45 عامًا، والأعجب أن نعلم أنه كتب في تلك السنوات مئات الكتب، وحصَّل فيها العديد من العلوم، فقد كان لهمته من اسمه أوفر الحظ والنصيب، فهو النووي صاحب الهمة النووية في جوانب العلم المختلفة.
قال ابن العطار في ترجمته: (وذكر لي الشيخ أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا؛ درسين في الوسيط، ودرسًا في المهذب، ودرسًا في الجمع بين الصحيحين، ودرسًا في صحيح مسلم، ودرسًا في اللمع لابن جني، ودرسًا في اصطلاح المنطق لابن السكيت، ودرسًا في التصريف، ودرسًا في أصول الفقه تارة في اللمع لأبي إسحاق وتارة في المنتخب لفخر الدين، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين، وكنت أعلِّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي)[تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي، ابن العطار، (1/2)، وانظر: طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، (1/98)].

بعد الكلام..

هيا قد آن الأوان، فماذا تنتظر، هيا بادر قبل أن يأتيك فقر منسي أو غنى مطغي أم مرض مقعد، واصنع من نفسك فارسًا جديدًا يقود لحظاته محققًا بها أهدافه، وردد خلف الحادي:
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدًا        ولم أقتبس علمًا فما هو من عمري
المصادر:
صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز صويان شايع الهاجري.
تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي ابن العطار.
الوقت أنفاس لا تعود        عبد الملك القاسم.
كيف تخطط لحياتك         د.صلاح صالح الراشد.
قوة الأهداف ... اقتباسات إدارية للانتقال إلى مستويات أعلى في الحياة، كاثرين كارفيلس.
تهذيب مدارج السالكين      ابن القيم.

 

 

مفكرة الإسلام

JoomShaper