إبتهال قدور
إن قضية عزل الثقافات المتعددة للأمم، والاستعاضة عنها بنمط ثقافي واحد تتشكل على أساسه الأجيال، لم تعد قضية تمس العالم العربي بمفرده  ..
إذ أن العديد من دول العالم المتقدم بدأت تحتج على نفس المشكلة، مبدية استغرابات لاتختلف في أبعادها عن استغراباتنا، طارحة تساؤلات لاتبتعد في طبيعتها عن تساؤلاتنا، بل لعل تلك التساؤلات والاستغرابات تخلق شكلاً من أشكال التقارب بين العالم العربي والكثير من تلك الدول!
وتأتي الخطورة من كمية، ونوعية، وتسارع وتيرة المظاهر التي يتم إغراقنا بها في مختلف المجالات، الى درجة تفقدنا فرصة الحكم عليها واختيار مايناسبنا منها، والعملية واضحة حتماً لدى من يحيطون بعلوم التشكيل الثقافي للأفراد، فهم بلا شك يدركون أن الفرد يتشرب كل المرئيات والمسموعات من حوله تماما كما تمتص الاسفنجة السوائل بدون تمييز ..فيتشكل بذلك رصيده الثقافي..هذا الرصيد الذي سيسكن أعماقه البعيدة، ثم يصبح المصدر الأساسي لتوجهاته، وسلوكياته، ونظرته للأمور، وطبيعة حكمه على مختلف القضايا!


فالقضية متشعبة ومتفرعة الى الحد الذي يجعلنا غير قادرين على تحديد طرف أو جهة واتهامها بأنها المسؤولة عن تشويه ثقافة أبنائنا ..

اتهمنا أجهزة الإعلام وقررنا أنها قضية ضبط وتنظيم يُسأَل عنها الأهل، واتهمنا البيت وقررنا أنها قضية قدوة حسنة على الآباء تقديمها لأبنائهم ، واتهمنا المدرسة وقررنا أنها قضية مسؤوليةٍ أخلاقيةٍ تقع على عاتق إدارة المدرسة، ولربما اتهمنا الرفيق والصديق وقررنا أنها قضية تنظيم علاقات واختيار المناسب منها..الى آخر ماهنالك من مصادر تؤثر على تشكيل هذا الفرد، الذي يهبه لنا الخالق سبحانه وتعالى على هيئة عجينة لينة، تقع علينا مسؤولية صياغتها وتحديد ملامحها!

ولكن …هل تساءلنا يوماً عن أثر الشارع ؟!! لربما نعم، إلا أنني أجزم بأننا لم نول هذا المؤثر الحجم الكافي لسبب بسيط، وهو أننا لم نكن نتخيل أن يبلغ الشارع بتأثيره هذا الحجم الذي يبلغه اليوم..

لقد عاد الشارع اليوم أفضل متنفس للشباب، بل لعله أصبح المكان الأكثر ترفيها،ً وتنويعاً،ً وإمتاعاً لكلا الجنسين .. بمقاهيه الممتلئة دائماً، ومطاعمه المحجوزة لمناسبة أو لغير مناسبة، ومُجَمعاته التجارية التي تتنافس في إبرازعروض بضائعها..تشجيعاً للاستهلاك، وطرقاته التي تم الاتفاق على تخصيصها ميداناً لاستعراض آخر موديلات السيارات، وآخر الحركات البهلوانية التي لاتخلو من خطورة، والتي يقوم بها قائدو وقائدات العجلات ..

وفي كل تلك الأماكن يتشكل جانب كبير وواسع من ثقافتنا: نوعية المشروبات، انتشار التدخين والأرجيلة، التي راحت تجتذب النساء بقدر ماتجتذب الرجال، طريقة اللباس وآخر صيحات الموضة والألوان تزهو بها الفتيات، آخر قصات الشعر، آخر التسريحات، آخر خطوط الماكياج وفنون التجميل.. علماً بأن عالم التجَمّل هذا لم يعد حكراً على الأنثى، لأن الذكر راح ينافسها فيه بشكل يلفت النظر، مضيفاً الى خصوصياته آخر العبارات الرمزية المتداولة - فاللغة أيضاً عادت تحتمل التقليعات- وآخر فنون الغزل وطرق “المعاكسات” التي تستخدم بطريقة فظة، خالية من أية رومانسية أو رقة ترضي تطلعات الأنثى السليمة !

وهنا نلاحظ كيف يتعدى عالم الذكورة على عالم الأنوثة، وعالم الأنوثة على عالم الذكورة، فلا تبقي هذه الاعتداءات إلا بقايا قليلة من الخصوصية لا تكاد تميز كلاهما عن الآخر!!

ولعل هذا الهوان يهون أمام أجناس جديدة بدأت تجد أن من حقها الظهور علناً وعلى غير استحياء في شوارعنا، إنها تلك التي يطلق عليها الجنس الثالث والجنس الرابع .!!

إذاً.. منظومة ثقافية جديدة تطل برأسها علينا، معلنة انهيار زمن كان حصراً على جنسين متكاملين من البشر.. ألا يحق لنا أن نتهم هذا الشارع بنشر ثقافة انهيار المسلمات!؟

وهي ثقافة  في منتهى الخطورة، إذ تدمر لدينا مقاييس تقييمنا للأمور، وتوجد لدينا خللاً في القدرة على تصنيف ماهو طبيعي وماهو شاذ، وتباعد بيننا وبين العامل الأخلاقي الذي يمنحنا ميزتنا الانسانية .

إنها  المنظومة الشاذة التي تريد اختراقنا وإقناعنا بعدم شذوذية الشاذ، كما تريد تدمير مناعاتنا وترويضنا لتقبل كل مايأتينا من وراء الحدود ..

ولعل بروز هذه المخاطر الثقافية بشكل لافت للنظر، هو ما استثار مخاوف المشرع في دولة الكويت فوافق على إجراء تعديل على المادة 198 من القانون رقم 16، والهادف الى اعتبار التشبه بالجنس الآخر ضرباً من ضروب الفعل الفاضح، والمعاقبة عليه بحبس سنة وغرامة ألف دينار..

ويحمل هذا التعديل البَنّاء - من جملة ما يحمل - رسالة ضمنية تقر بحقنا في مواجهة حكيمة، وغربلة متأنية لما يحمله الشارع من ثقافة دخيلة، تعتدي على أصالتنا وقيمنا بشكل سافر.

فهذا حق تمارسه اليوم العديد من دول العالم التي بدأت تستشعر شراسة الهجوم الذي يعرضها لخطر الانسلاخ عن  ثقافاتها وتراثها ..

فالمتمسكون بأصالة تراثهم ، وصفاء ثقافتهم، وخصوصية قيمهم، لايترددون في اتخاذ وسائل وأساليب  متقاربة لتثبيت مبدأ دفاعي ناجع أمام الهجمة الثقافية الأحادية، ويشكلون لذلك الكثير من اللجان والجمعيات والهيئات، ويُفعّلون أجهزتهم لتتمكن من المقاومة السلمية المناسبة لما اتفق على تسميته غزواً ثقافياً..غزو حريري الملمس يتسرب إلينا بهدوء مريب أحياناً، وبصخب مزعج أحياناً أخرى، متخفياً وراء مصطلحات جمالية خادعة كالحضارة، والتقدم، والمدنية والرقي …!

ومما يزيد الأمر خداعاً، هو استعانة هذه الثقافة الدخيلة المشينة، بمروجين ومدافعين من داخل المجتمعات، يحاولون إقناعنا بأن اتباعها هو أمر لامفر منه، إذا ما كنا نريد أن ننأى بأنفسنا عن صفة التخلف، و وصمة التقوقع التي ستلحق بنا عاراً يعزلنا عن الطبقة الراقية.. داخل مجتمعاتنا، وعن المجتمعات المتقدمة.. خارج مجتمعاتنا !

ولكن ثقافة الشارع تضع اليوم المتمسكين بأصالة مجتمعاتهم أمام صرخة ثقافية مصيرية تقول: من للشارع العربي يحد من جنونه؟؟

 

 

I B T E H A L . C O M

JoomShaper