علاقة بريئة
إنه موضوع ذو أهمية خاصة.
بل ويكتسب الحديث عنه أهمية مميزة في عصرنا الذي نعيش فيه.
حيث تجد الفتاة نفسها وجهًا لوجه أمام جنس آخر، يأخذ التعامل معه أكثر من شكل ووجه، في مجال الجامعة، أو في معاملات الحياة العامة من بيع وشراء وغيره، أو بعد الجامعة مباشرة في الوظائف، أو حتى بداخل العائلة الواحدة.
تجعل هذه المواقف السابقة كلها فتاتنا الجامعية تتساءل حائرة:
هل الواجب في حقي الانعزال تمام الانعزال عن الشباب؛ سواء في الجامعة على وجه الخصوص وفي غيرها؟!
هل هناك حدود وضوابط في التعامل مع الشباب؟!
هل هناك ما يُسمى بالصداقة بين الجنسين؟!
تلك أسئلة لاشك أنها تدور في ذهن كل فتاة محافظة، مؤدبة، يشغل بالها الصواب والخطأ، والحلال والحرام، واللائق وغير اللائق.
طرفان ووسط:
هذه القضية تناولها الكثير من الناس، ممن منَّ الله عليهم بالالتزام أو ممن يحاربون دين الله تعالى ويسعون في الأرض فسادًا.
الطرف الأول:
فهناك طرف من الناس غالوا وتشددوا، وظنوا أن المجتمع الإسلامي يجب أن ينقسم إلى عالم للرجال وعالم آخر للنساء، يعيشون على أرض واحدة، ولكن هذا في عالمه وذاك في عالمه.
الطرف الثاني:
هذا طرف أراد من المرأة أن تزاحم الرجال في كل شيء، ونادى بإذابة الحواجز بينهم في التعامل تمامًا، فأرادوا المرأة رجلًا بين الرجال، سائرين على درب الغرب حذو القذة بالقذة، في الغث والثمين، وليتهم نادوا بالثمين منه، وظلموا والله المرأة؛ فهم لم يراعوا ما ميزها به الله تعالى في نفسها وبدنها ومشاعرها، ونسوا أن الله خلق الرجل رجلًا والمرأة مرأة، فنادوا بتحرير المرأة وهم ظلموها.
فأرادوها الفتاة بجانب الفتى، ولا حرج أن تصافح الفتاةُ الفتى، ولا غرو أن تخرج معه، أو تجلس بجواره، ولا حرج ...
(هذه العلاقة لا تتعدى الصداقة والزمالة البريئة: هذا ما يُقال، ولكن ما يدري كلٌّ من الطرفين أن الآخر لن يطور هذه العلاقة ولو من طرف واحد؟
ذلك أن اجتماع الشاب والفتاة وإزالة الحواجز بينهما وكثرة احتكاكهما يؤدي حتمًا إلى الألفة، والألفة الطويلة لابد وأن تؤدي إلى التعلق القلبي، الذي يبدأ خفيفًا ثم ينمو كلما طال الزمن، حتى يشتد ليصبح الفراق بعدها مستحيلًا، وبهذا تتطور العلاقة التطور الطبيعي بين أي شاب وفتاة إلى أن يكون حبًّا تغذيه مشاعر المراهقة، ويزينه الشيطان، ويساعد عليه عدم التمييز بين عاطفة الحب والإعجاب، ويكبره وينميه متعة التجربة الجديدة)[شباب جنان، د.خالد أبو شادي، ص(128)].
وسطية الإسلام:
كلا الطرفين ظلم المرأة، فالطرف الأول فهم الدين لا كما جاء بل كما أراد هو، والطرف الثاني نحى الدين جانبًا وظن أنه ينصر المرأة ولكنه كان يجهز على أنوثتها وآدميتها.
أما الإسلام فقد جاء ـ كما تعودنا دومًا ـ بنظرة راقية في التعامل مع هذه القضية، تتلخص هذه النظرة في أمرين اثنين:
أولهما:
أن جميع البشر؛ رجالًا ونساء، تربطهم وشيجة تعلو كل الروابط، هي رابطة الأخوة الإيمانية، فكل من انتمى إلى الإسلام فهو أخ لك، سواء أكان ذكرًا أو أنثى، فهذا هو الأصل العام للعلاقة بين الناس جميعًا؛ فليس الرجال والنساء في دين الله تعالى مجتمعين منفصلين، سواء أكان انفصالًا مكانيًّا أو معنويًّا؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
ثانيهما:
من أجل مراعاة الاختلاف بين الرجل والمرأة في التكوين والفطرة، ولتحقيق الاستقرار والعفة والفضيلة في المجتمع؛ وضع الشرع ضوابط للتعامل بين الرجال والنساء، لا يتخطاها رجل ولا تتخطاها امرأة.
وبالجمع بين أصل الأخوة الإيماني، وبين ضوابط التعامل بين الرجل والمرأة؛ نخرج بنظرة الإسلام الرفيعة للمرأة وتكريمه لها وتشريفها، لا معاملتها معاملة الأثاث والمتاع كما يحدث في الغرب.
الضوابط الحاكمة:
أولًا ـ تحريم المصافحة:
وهي السلام باليد؛ أي لا تلامس يده يدها، فلا يصح منكِ فتاة الإسلام أن تصافحي شابًّا بيديك في الجامعة أو خارجها مادام يحل له الزواج منكِ؛ فقد حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من ذلك أيما تحذير فقال: (لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)[صححه الألباني].
وليس هذا تخلفًا ورجعية؛ فهل حكم الله يا غالية هو تخلف ورجعية؟! فإن الله تعالى شرع لنا هذه الأخلاق القويمة كي تستقيم دنيانا ونفوز بآخرتنا.
ثانيًا ـ تحريم الخلوة:
فلا تصح لكِ الخلوة بأحد الشباب ولو في مدرج الجامعة أو في محل للبيع؛ فتكوني أنتِ وهو وحدكما في مكان واحد، وإن أمنتِ جانبكِ أنت فلا تأمني جانبه هو؛ فقد حذرنا من ذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فقال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) [متفق عليه].
ثالثًا ـ الخضوع بالقول:
فحينما تتحدثين إلى شاب أو رجل أجنبي عنكِ لحاجة من بيع أو شراء أو ماشابه فقد نهاكِ الشرع عن ترقيق الكلام والتغنج فيه؛ فهذا يفتح بابًا للفتنة كبير ولا ريب؛ خاصة إن صادف شابًّا في قلبه مرض، فإن ابتسمت هذه تحرك قلبه، وإن تحدثت هذه ظن بها الظنون.
فقد قال المولى سبحانه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، يقول السعدي رحمه الله: (في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فتلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع { الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}؛ أي: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه؛ لأن قلبه غير صحيح، فإن القلب الصحيح ليس فيه شهوة لما حرَّم الله، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب؛ لصحة قلبه وسلامته من المرض.
بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد يدعوه إلى الحرام يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد.
فإن الخضوع بالقول واللين فيه في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم مُنع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال أن لا تلِينَ لهم القول) [تفسير السعدي، ص(663)].
رابعًا ـ غض البصر:
لقول الله تعالى للجنسين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30-31]؛ فغض البصر يعصم الإنسان من الزلل، ويعصم القلب من الدخن، ويحفظ العقل من خاطرة السوء.
أطهر مجتمع على ظهر الأرض:
إنه مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كنا ذكرنا نظرة الإسلام لعلاقة الرجال والنساء باللفظة والعبارة، فتعالي نتطلع إلى مجتمع الصحابة وهو يطبق أصل أخوة الإيمان مع مراعاة الضوابط الحاكمة كما أراد الله تعالى بوسطية لا إفراط فيها ولا تفريط.
كانت المرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعامل بالبيع والشراء مع النساء والرجال، وكانت كذلك تخرج للجهاد تسقي وتداوي الجرحى، وكانت المرأة تستفتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وكانت ترد على الخلفاء من بعده وتعقِّب.
ولكن المشاهد كذلك في المجتمع الأول، أن كل ما يدور من أحاديث بين الرجال والنساء لم يأخذ شكل المسامرة والمزاح والتسلية، وإنما كان كلامًا للحاجة، فإن مثل هذه الأحاديث بين الرجال والنساء التي تشابه كلام الرجال وأحاديثهم مع بعضهم البعض تذيب كل الفوارق بين الجنسين، حتى إنك لتجدين في وسط التعليم الجامعي المزاح باليد بين البنات والبنين، وهذا لا يقول به عاقل.
إذًا كيف أتعامل مع الرجال:
إذا أردتِ أن تعرفي الصورة الصحيحة للمعاملة فيجب عليكِ مراعاة الآتي:
أولًا: ألا تتعدى النظرة نظرة الأخوة الإيمانية، أي أخوة الدين، لا نظرة صداقة؛ فإن الصداقة تقتضي كثرة المخالطة والملازمة.
ثانيًا: تجنبي المحاذير السابق ذكرها؛ وهي المصافحة والخلوة والخضوع بالقول وإطلاق البصر.
ثالثًا: أن يكون الكلام لحاجة؛ كالبيع والشراء أو الاستفسار الضروري؛ لا على سبيل التسلية والتقارب والمزاح.
فهذا المزاح وهذه المسامرة لا يصح أبدًا أن تبتدر من فتاة الإسلام؛ لأنها مفتاح لباب شر ولاريب (فالشاب يجد في هذه العلاقة الراحة والتسلية؛ إذ ينشرح صدره وينسى همومه وهو يأنس بهذه المحادثات والمناقشات.
هو لا يبحث عن حل ولا يهمه أن يصل إلى دواء، وإنما يريد أن يفرغ همه فحسب، وليس أحسن من فتاة يفضفض لها، وليس مهمًّا أن تكون هذه الفتاة جميلة وإنما هي كفتاة ستوصله إلى مراده وتحقق غايته من تسلية النفس والاستئناس الفطري بالجنس الآخر، سواء أكان ذلك وجهًا لوجه، أو عبر الهاتف، أو عن طريق الشات، وهذا الأُنس مركَّب في طبع الرجل تجاه المرأة، وطبع المرأة تجاه الرجل؛ لأن شهوة أساسية من شهوات الرجل تجاه النساء: شهوة المجالسة والمحادثة.
ويقابل ذلك عند الفتاة تحقيق الشعور بالذات، وزيادة الثقة بالنفس؛ نتيجة لطلب الشخص صحبتها، كل هذا في إطار من التظاهر والتجمل والتأنق والتمثيل) [شباب جنان، د.خالد أبو شادي، ص(129)].
في قصتها عبرة:
أختم نصحي إليكِ بهذه القصة، وهي لإحدى الفتيات التي ظنت أن العلاقة بريئة، فبدأت الطريق جاهلة نهايته؛ نترك لها التعبير عن مشاعرها، تبث إليكِ همومها وأحزانها، ناصحة ألا تسيري على دربها؛ تقول: (أنا فتاة في التاسعة والعشرين من عمري، تعرفت على شاب أثناء دراستي الجامعية، كانت الظروف كلها تدعونا لكي نكون معًا رغم أنه ليس من بلدي، تفاهمنا منذ الوهلة الأولى، ومع مرور الأيام توطدت العلاقة بحيث أصبحنا لا نطيق فراقًا.
وبعد انتهاء الدراسة عاد إلى بلده، وعدت إلى أسرتي، واستمر اتصالنا عبر الهاتف والرسائل، ووعدني بأنه سيأتي لطلب يدي عندما يحصل على عمل، وبالطبع وعدته بالانتظار.
لم أفكر أبدًا بالتخلي عنه رغم توفر فرص كثيرة لبدء حياة جديدة مع آخر، عندما حصل على عمل اتصل بي ليخبرني أنه آت لطلب يدي، وفاتحت أهلي بالموضوع وأنا خائفة من رفضهم، ولكنهم لم يرفضوا.
سألني أبي فقط إن كان أحد من أهله سيأتي معه، ولما سألته عن ذلك تغير صوته، وقال: إنه قادم في زيارة مبدئية، شيء ما بداخلي أقنعني بأنه لم يكن صادقًا؛ وأتى بالفعل وليته لم يأتِ؛ لأنه عاد إلى بلده وانقطعت اتصالاته.
وكلما اتصلت به تهرب مني، إلى أن كتبت له خطابًا، وطلبت منه تفسيرًا، وجاءني الرد الذي صدمني، قال: لم أعد أحبك، ولا أعرف كيف تغير شعوري نحوك، ولذلك أريد إنهاء العلاقة!
أدركتُ كم كنت مغفلة وساذجة؛ لأنني تعلقت بالوهم ست سنوات، ماذا أقول لأهلي؟! أشعر بوحدة قاتلة، وليست لدي رغبة في عمل أي شيء) [مجلة سيدتي، العدد 158، نقلًا عن وهم الحب، عبد العزيز المسند، ص(6)].
أهم المراجع:
1. تفسير السعدي.
2. شباب جنان، د.خالد أبو شادي.
3. أميرة في الجامعة، هيام محمد يوسف.
4. وهم الحب، عبد العزيز المسند.
مفكرة الإسلام