محمد الزعيم
أن تتنبأ بالمستقبل القريب لشعب ما، ليس بالأمر الصعب أبدًا، وخاصة إن كان حديثك عن الثلاثين عامًا المقبلة، حيث إن تلك الفترة ستكون محكومة بالجيل الذي يكوِّن نفسه بينما تُكتب هذه المقالة الآن، ويدخل على عقل كل فرد منه مليارات المدخلات التي ستؤثر في مخرجات تفكيره وسلوكه وعمله وأثره.
وعندما نشير هنا إلى المستقبل، فإننا لا نقصد أبدًا ما يتبادر إلى الذهن من الشكل العمراني للدولة والعمل بل إلى شيء مختلف تمامًا، رغم أنه ذو تأثير مباشر في النقاط السالف ذكرها، وهو المستقبل البنيوي الفكري ومستقبل اهتمامات وتوجهات وثوابت هذه الفئة التي ستسيطر على المشهد لحقبة قادمة.
عن هذا الموضوع نشر الدكتور وائل الشيخ أمين قائلاً: «قبل فترة بسيطة جمعني لقاء ببعض الشباب الأفاضل، ودار حديث عن بعض الثوابت والقطعيات التي صارت محل نظر، فوجئت أنهم يرونها أيضًا وجهات نظر قابلة للنقد والتغيير، قلت حينها في نفسي: يبدو أننا نخطئ عندما نحاور أو نحاضر فنظن أن المتلقين يؤمنون إيمانًا كاملًا بما نراه قطعيًّا بديهيًّا، ولذلك فإننا ننطلق منه ونبني عليه إلى ما وراءه، هذا ما يسمى بـ(لعنة المعرفة).ما توقعت أننا بحاجة إلى التأكيد مرارًا، ما توقعت أننا بحاجة إلى التأكيد مرارًا وتكرارًا على الثوابت. المعركة اليوم على الهوية وصلت إلى حد غير معقول، وتحتاج إلى جهود استثنائية، فليس بعد الهوية شيء»
في الحقيقة إن الكلام عن هذه الظاهرة لا يستوعبه منشور أبدًا والنقاش في معالمها ليس مكانه التعليقات والردود على وسائل التواصل الاجتماعي. فكانت محاولة تحليلٍ لبعض النقاط في هذه المقالة التي سنأخذ بها الشباب السوري المتأثر بالثورة السورية نموذجًا للقياس.
الشباب السوري و ثورة الاهتمامات
لا شك أن الشباب الذي انخرط بالثورة وأعمالها بشكل مباشر أو غير مباشر أو حتى تأثر بها، قُدِّر له أن يخوض تجربة مميزة من النادر أن ينفتح التاريخ على مثلها في كل وقت.
معالم تلك التجربة تبدأ من الحياة التي يفرضها جو القمع الاجتماعي الذي ألِفه الجيل السابق وتفتّحت عليه أعين أطفالهم (شباب اليوم)، حيث كان أقصى طموح الشاب أن يكمل تعليمه الجامعي ويحظى بفرصة عمل ذات قيمة مالية واجتماعية، ويكمل حياته بزواج ناجح وينشئ أسرة سعيدة.
فجأة ودون تمهيد مسبق (عند الأغلبية العظمى) تتفتح عيون الجيل على مطالب الحرية والكرامة والعدالة والحقوق السياسية والاجتماعية للمواطن، وتبدأ الثورة على نظام آل الأسد وعلى نمط الحياة السابق بالكليّة، ثورة على الأحلام المحدودة التي ذكرناها، ثورة على القمع الاجتماعي الذي امتد إلى داخل الأسرة لينشئ أطفالاً محطَّمين ضيقي الأفق وإلى داخل مدارس «طلائع البعث» و«شبيبة الثورة» الذي أَوكل إليها نظام البعث توجيه الأحلام، وتوحيد الخيالات، وإطفاء كل شمعة أمل في عقل الطفل. ثورة على الخطاب الديني التخديري الذي يقصر الدين على الشعائر في المسجد والأخلاق الحسنة.
هل من مشكلة في ذلك؟
مبدئيًّا لا، ثم تأتيك «لكن» الهدَّامة لما قبلها لتقول لك: نعم هناك مشكلة، وظهرت تلك المشكلة جليَّة بعد طول الأمد وتفرق الكلمة، تطورت هذه الحالة الثورية تطورًا عاطفيًّا محضًا تلبَّس بلباس العقل والتحرر عند الكثير ممن شارك في التجربة المميزة المذكورة لتشمل ثورة على ثوابت ما كان ينبغي أن يُمس منها شيء.
وهذا مع الأسف يعود إلى سلاح ذي حدين يميز الثورة السورية، وهو اشتمال التحرريين الثوريين فيها على جميع الفئات الفكرية والاجتماعية، وهو أمر أعطاها قوة هائلة في بادئ الأمر ثم ضعفًا وتنازعًا هائلًا مع طول الأمد. فعدم وجود قيم فكرية مشتركة تربط الفئات الثورية أضعف الثورة وأصابها في مقتل سياسي واجتماعي وعسكري.
الثورة العاطفية على ما لا ينبغي الثورة عليه
كما ذكرنا تشكلت ردة فعل ثورية عند هذه الفئة على كل ما كان في الفترة السابقة، واعتُبرت كل معالم المرحلة السابقة للثورة معالمَ «كانت سبب المصيبة»، ويجب التخلص منها وشمل ذلك قيمًا عريقة وأعرافًا كريمة وثوابتَ دينية واجتماعية أساسية في بنية المجتمع السورية.
– فعلى الصعيد الاجتماعي، لم يفرق الكثيرون بين الحرية المنشودة في الثورة وبين حرية انتهاك الأعراف الاجتماعية المختلفة، ولم تكن لديهم الملكة اللازمة لترك السيئ منها بالفعل والتمسك بالحسن الذي يحافظ على هوية المجتمع.
– على الصعيد الديني والفكري (وهو الأخطر): شهدنا عند الكثيرين زوالًا شبه تام لتوقير العلماء وكلامهم، وصرنا نرى الكثير من التجرؤ على الراسخين في العلم من أعلام المجتمع السوري. وهذا للأمانة عارض طويل الأمد يمكن انتظار زواله مع الزمن منه إلى حالة وسط من التقدير الطبيعي المطلوب بين التقديس والتجرؤ.
أما الخطير في المسألة هو الثورة على المنهج العلمي-الديني في الشام الذي كان يؤتى من جميع أنحاء العالم لتلقيه فصرنا نرى دعاوى التحرر منه و(الانطلاق بالبحث الحر والتعلم الذاتي) بحجة أنه «ليس لأحد وصاية على عقلك حتى يلزمك بطريق معين بالتعلم» فأورث ذلك حالة من اللامنهجية المفرطة في التعلم والقراءة رغم أن ذلك كان موجودًا بالفعل في خطاب البعض وأتباعهم قبل الثورة إلا أن انتقاله للشباب كان مصاحبًا للثورة فكان من معالم المرحلة رغمًا عنها.
ولما كانت وسائل التواصل الاجتماعي تمثل أيقونة ثورات الربيع العربي وأغلب مستخدميها من الشباب، كان للمشكلات السابقة مرحلة أخرى من التفاقم، حيث إن التأثير النفسي العالمي لوسائل التواصل أصاب هذه الفئة من الشباب أيضًا، وخاصة في وجود محتوى فكري/ديني سريع وجاهز وسهل، يُشعر المتلقي بأنه في غنى عن الكتب ومجالسة العلماء والمفكرين وأخذ العلم/الفكر عنهم، وكذلك وجود محتويات تلبي جميع الرغبات وخاصة «»غير التقليدية» و«التنويرية» التي ظهرت مصاحبة كذلك للربيع العربي وكان للشباب السوري حظ وافر من تأثيرها.
وتأثيرات على أصعدة أخرى يطول الكلام عنها.
ماذا بعد؟
أدى ذلك كله إلى واقع فكري شبابي آخذ بالتعقيد بشكل متزايد، وينبع تعقيده من محورين:
– محور الشباب: إلى جانب تأثر الشباب بالواقع الشبابي العالمي- والذي من معالمه: العبثية واللامسؤولية والميل نحو التسلية واللعب – تشكل جيل من المثقفين الثوريين المشاركين «بحرية» في كل شيء دون بناءٍ فكري، منهجي أو علمي ثابت.
– محور النّخب المؤثرة، وهي بشكل عام ثلاث نخب:
النخب السياسية: بسبب انعدام التجارب السياسية، وضعف المحاولات السابقة للثورة، كان هناك ضياع في البوصلة السياسية للحركة الثورية، أدى إلى اضطراب دائم في مواقف وتوجهات نخبنا السياسية المؤثرة، والذي بدوره أورث اضطرابًا طبيعيًّا عند النخب المتأثرة بهم من الشباب.
النخب الاجتماعية: الثورة على بعض القيم والأعراف الاجتماعية جعل ماهية النخب الاجتماعية (القدوات) تتغير في أعين الشباب وبالتأكيد فإن القيم التي تبثُّها هذه النخب تلعب دورًا كبيرًا في تحديد أهداف وغايات الشاب في حياته وتكوينه الفكري.
النخب الدينية والخطاب الديني (المشكلة الأكبر): فيما حافظ العلماء على أسلوبهم ومنهجهم الذي لا مكان له على وسائل التواصل الاجتماعي برزت كثير من النخب الدينية والدعوية، التي توجَّه خطابها للشباب ومما يُلحظ فيها بنية الخطاب على ما يُسمّى بـ«الرقائق»، وذلك في تلبية ضمنية لرغبات الشباب الذي يريد محتوى سريعًا جاهزًا لا يحتاج لجهد لفهمه ودراسته والبحث عنها، ورغم أن هذه الطريقة محمودة لدورها في جذب الشباب، فإن تلبية ميل النفس إلى السهولة دائمًا جعل من ذلك عادةً فكرية يصعب التخلص منها الآن، حيث يتجنب الشباب تلقائيًّا أي خطاب يحمل شيئًا يسيرًا من الصعوبة ويتطلب جهدًا بسيطًا في البحث والتمحيص والمتابعة، وليس الأمر مقصورًا على الرقائق بل إن تماهي الخطاب الديني/ الدعوي/ الفكري لكثير من المتصدرين جعل ماهية المادة المطروحة متوافقة دائمًا مع التحولات الفكرية الطارئة «الثائرة على الثوابت»، وذلك بتجنب طرح أي مادة بمحتوى أو بأسلوب يذكر الشباب بالأسلوب القديم الذي «ثرنا» عليه ولأغلب المؤثرين في هذا نية حسنة في حرصهم على كسب الشاب وعدم خسارته، لكن في هذه المداراة سلبيات لا تخفى، منها تمكن هذا النوع من رفض الثوابت وفي الخطاب المنهجي من نفوس الشباب أكثر فأكثر.
المغالاة نحو طرف آخر
في مقابل ما سبق تتبع فئات من الشباب مناهج دينية/فكرية مغالية في التسمك بثوابت وأنماط تفكير وتحليل يلزم عليها انفصالهم الروحي والفكري والعملي عن المجتمع؛ مما يأتي بمخرجات مشابهة لا تقل ضررًا عما ذُكر في توصيف الحالة السابقة.
من الصفات الفكرية لهذا الطرف
– الحرص الشديد على الهوية، وهذا من الإيجابيات.
– التمسك بظاهر النصوص ولو على حساب غياب اليقين بدعوى (التسليم).
– غياب الخطاب المقاصدي بشكل شبه تام.
– عدم تلقي العلوم الدينية إلا عن الموافقين في المنهج وترك الآخرين إلا عند الاضطرار.
– التجرؤ على نتاج فكري- عقائدي- اجتماعي كبير للحضارة الإسلامية بدعوى مخالفته لمذهب اعتقادي معين، ونبذ الاستفادة منه تمامًا.
– الضعف الشديد في العلوم الإنسانية والاقتصاد.
– اعتزال السياسة وميادينها وذم من يشتغل بها.
هل من حل؟
لمحاولة إصلاح هذا الواقع يجب أن تسير عجلة الحلول على طريقين:
– طريق الشباب: على الشباب أن يعي أنه في واقع مشكِل لا بد من تصحيحه بسلوك المسارات التأسيسية الصحيحة للخروج بعلم وفكر سليم، وإدراك أن المنهجية لا تعني التقيد بمسلك يجبرك على أن تردد ما لا تقتنع به وأنها الخيار الوحيد لبناء الفكر السليم، الذي يأتي يستطيع حامله التأثير والتغيير.
– طريق المؤثّرين: التخفُّف من رهبة «تنفير الشباب» وبالتالي التقليل من خطاب الرقائق سواءً في الدعوة أو الفكر والانتقال إلى مرحلة من الخطاب المنهجي المبسط مبدئيًّا والتوعية إلى أهمية ذلك. إضافة إلى محاولة إصلاح المشكلات المنهجية عند الشباب بدلًا من السباحة مع تيارها دون أن نشعر يشار إلى أن بعض المدارس انتقلت بالفعل إلى شيء من التدريس المنهجي عن بعد لبعض للعلوم الإسلامية والرد على الشبهات لكن تدور الكثير من إشارات الاستفهام حول الماهية والمآلات لبعض مباحث تلك المنهاج الذي سكت عن التعليق عليها كثير من المختصين، لأنه لا بديل أفضل حتى الآن.