نبيل شبيب
خلال 8 ساعات ( بين يومي 10و11/3/2009م) قتل 16 شخصا في الولايات المتحدة الأمريكية و16 شخصا في ألمانيا، معظمهم من الناشئة، والقاتل شاب أمريكي هنا وناشئ ألماني هناك. حادثتان متزامنتان في العالم الغربي، الأمريكي والأوروبي، ومتشابهتان في المجرى والأسلوب والحصيلة والأسباب، كما أنهما متماثلتان من حيث أنهما يعبران عن ظاهرة مستشرية، وليس عن مجرد أحداث استثنائية.
تنامي انتشار الظاهرة المرعبة
في ولاية آلباما الأمريكية كان عمر مرتكب الجريمة يوم 10/3/2009م 28 عاما، وقد قتل عددا من أقربائه ثم عددا ممن لا يعرفهم من قبل، قبل أن ينتحر. بدأ بإضرام النار في منزل كانت توجد فيه أمه وعشيقته، ووجد رجال المطافئ لاحقا جثتيهما متفحمتين تحت أنقاض المبنى ببلدة كينستون الصغيرة، وانتقل إلى بلدة سامسون المجاورة فاقتحم أكثر من منزل وأطلق النار على من وجدهم وكان بعضهم أطفالا، وتابع جريمته في أحد المتاجر وإحدى محطات الوقود، وانتهت جولته الدموية في مصنع كان يعمل فيه سابقا، فانتحر فيه.
بعد 8 ساعات بدأت جريمة مقاطعة فينندن بمدينة شتوتجارت، ولم يتجاوز عمر مرتكبها 17 عاما، فهو من الناشئة وفق القانون الألماني، وقد اقتحم صباحا إحدى المدارس وقتل فيها تسعة من التلاميذ وإحدى المدرسات، وتبادل إطلاق النار مع رجال الشرطة الذين هرعوا إلى المكان ثم أثناء ملاحقتهم له وسط المدينة حيث عثر عليه منتحرا في وقت لاحق، وبلغ مجموع عدد الضحايا 16 شخصا.
مشهدان مفزعان، وليسا نادرين، فلم يعد يمكن وصف مثل هذه الجرائم بالفردية العشوائية، وإن تجنب كثيرون في الغرب وصفها بالظاهرة، فكثير من أصحاب الاختصاص في عالم الجريمة وعلماء النفس والمسؤولين السياسيين والجنائيين، لا يريدون بطبيعة الحال أن يساهموا دون قصد في تعميم "الظاهرة"، إنما بات "معتادا" بعد وقوع جريمة من هذا القبيل أن تتكرر محاولات التفسير والبحث عن الأسباب والدوافع، وغالبا ما يكرر الكلام بعضه بعضا، سواء من حيث "نفسية" من يرتكب الجريمة، أو الظروف الاجتماعية التي مر بها، أو التهاون في التعامل مع قوانين ملكية السلاح وبالتالي وصول مرتكب الجريمة إليه، ولكن نادرا ما تتجاوز الإجراءات المضادة حدود مزيد من الإجراءات الاحترازية الأمنية، بعيدا عن أطروحات التفسير النفسية والاجتماعية، وقد تصل إلى مستوى تعديل القوانين المتعلقة بملكية السلاح في بلدان أوروبية، ولكن لا تصل الإجراءات إلى مستوى حظره في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية مثلا.
تاريخ دموي
كان الغربيون يعزون أولى عمليات القتل العشوائي الجماعي إلى مناطق إندونيسية وماليزية، فيرون في إقدام أفراد معدودين على عملية هجوم مفاجئة وعنيفة على "العدو"، مع ممارسة القتل في صفوفه دون تمييز ودون انقطاع، لتغيير مجرى المعركة.. يرون في ذلك المحضن الأول لحالات القتل وفق تعبير (Amok) الغربي، كما ورد في بعض المعاجم الغربية من أواخر القرن الميلادي التاسع عشر، وهذا ما فقد مغزاه على ضوء متابعة هذا الصنف من الجرائم واتخاذه أشكالا عديدة لا علاقة لها بساحات القتال.
فقد انتشرت الظاهرة انتشارا واسعا ومبكرا في العالم الغربي، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس مجهولا ما تتناقله وكالات الأنباء في أوقات متقاربة نسبيا عما تشهده المدارس الأمريكية على صعيد ارتكاب الجرائم، ولا يمكن الفصل بين بعضها بعضا، ولعل أشدها إثارة للفزع حتى الآن ما وقع يوم 29/2/2000م عندما قتل تلميذ في السابعة من عمره بعيار ناري من مسدس أبيه، زميلته في المدرسة وكان عمرها ستة أعوام، وسجلت الحادثة "رقما قياسيا" من حيث انخفاض وسطي أعمار مرتكبي الجريمة وليس وسطي أعمار ضحاياها فقط.
ومثل هذه الجرائم التي تبدو للإنسان العادي "مستحيلة الوقوع" تتكرر ويتزايد انتشارها بصورة مرعبة، وكان قد سبق تلك الجريمة بثلاثة شهور إقدام تلميذ عمره 13 عاما آنذاك على قتل أربعة من "رفاق المدرسة".
إنما قد لا يكون معروفا أن أول عملية قتل عشوائي جماعي تصنف تحت هذا العنوان كانت في إيلول/ سبتمبر عام 1913م ووقعت في بلدة ألمانية (فاهينجن) قرب مدينة شتوتجارت، المدينة التي شهدت يوم 11/3/2009م آخر ما ارتكب (مبدئيا) في هذا المسلسل المفزع.
واشتهرت في تاريخ الإجرام عمليةُ قتلٍ سقط ضحيتها 45 تلميذا وتلميذة في ميتشيجان الأمريكية عام 1927م، وأخرى سقط ضحيتها 58 شخصا في جيونجسانجام دو في كوريا الجنوبية عام 1982م، ثم منذ ذلك الحين بات ارتكاب هذه العمليات الإجرامية بمعدل عملية أو أكثر شهريا، وشملت بلدانا عديدة مثل نيوزيلاندا والنمسا وفرنسا واسكوتلاندا وسويسرا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
من ذلك على سبيل المثال دون الحصر، شاب عمره 22 سنة يقتل 10 تلاميذ في مدرسة فنلندية يوم 23/9/2008م، ورجل يقتل 32 شخصا ويصيب آخرين في جامعة فيرجينيا الأمريكية يوم 16/4/2007م، وآخر يقتحم مدرسة في بنسليفنيا الأمريكية فيقتل فيها 5 فتيات يوم 2/10/2006م، وفتى دون 16 عاما من العمر يقتل جده وامرأة كان جده يعاشرها، و5 تلاميذ ومعلمة، ورجلا من الشرطة قبل أن ينتحر في مينيسوتا الأمريكية يوم 21/3/2005م.. والقائمة طويلة.
عشوائية قتل جماعي
كلمة عشوائي هي الأكثر استخداما في وصف هذا المسلسل من الجرائم التي تسبب عددا من الضحايا وتنتهي في كثير من الحالات بانتحار القاتل، وهي الكلمة المعبرة عن المشهد ظاهريا، ولكنها لا تعبر عن الظاهرة نفسها واقعيا. وكلمة (آموك-Amok) المستخدمة في الغرب لوصف عملية قتل جماعي عشوائي على النحو المذكور، أي التي يرتكبها فرد من العامة ويسقط ضحيتها عدد كبير من العامة، عسيرة على الترجمة مثلما أن الحوادث المعنية بها عسيرة على التفسير المنطقي، ويراد بها في الأصل أن تعبر عن معاني الهجوم العنيف والقتل المتتابع في حالة غضب متفجر، أو نتيجة حالة نفسانية شديدة التطرف، مع وجود استعداد لا حدود له لاستخدام العنف.
وتحاول منظمة الصحة الدولية تعريف الكلمة فترى فيها "عملية قتل عشوائي، في لحظة لا يبدو فيها القتل تعبيرا عن رد فعل على استفزاز ما، وتنتهي إلى حالة أشبه بالغيبوبة والإرهاق المطلق.
بينما تعتبرها بعض المعاجم اللغوية تابعة لحالات التدمير المتمردة اجتماعيا، أو حالات مرضية مرتبطة بالبيئة الثقافية، وفي الحالتين تصل إلى استخدام العنف قتلا عشوائيا.
ويميز المتخصصون بالجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية بين صنفين من "القتلة عشوائيا"، أولهما من يقتل وهو في حالة أشبه بالتخدير فلا ينقطع عن ممارسة القتل تجاه من حوله، وثانيهما من يحصر ارتكاب جريمته في محيط مكاني محدود. إنما يتناقض جميع ما سبق مع ما ظهر حديثا من أن معظم عمليات "القتل العشوائي الجماعي" لم تكن عشوائية فعلا، بل كانت بعد تخطيط لفترة زمنية طويلة، وأحيانا بعد الإعلان المباشر أو غير المباشر عن العزم على ارتكاب الجريمة.
أبعاد نفسانية واجتماعية
تقلب تفسير الظاهرة مع مرور الوقت تقلبا ملحوظا، وصار لفترة من الزمن يعزى إلى حالة نفسانية فردية، مع اعتبار ذلك مصدرا "وحيدا" لوصول أحد الأفراد إلى درجة ارتكاب الجريمة، ولكن متابعة الأحداث على أرض الواقع أكدت وجود عوامل ودوافع عديدة، تلتقي عند:
1- وجود حالة مبدئية من الاستعداد لارتكاب العنف لدى فرد (من الذكور.. فلم تعرف هذه العمليات الإجرامية عن الإناث)..
2- وجود أسباب يمكن أن تتطاول زمنيا، فليست العملية من قبيل رد فعل على حدث مباشر..
3- الإعداد المسبق لارتكاب الجريمة، فهي ليست من قبيل التصرف العفوي كما قد يخطر على البال عند رؤيتها من جانب أي شخص اعتيادي أنها "عمل لا يُصدق"..
4- السيطرة على الذات أثناء تنفيذ الجريمة، وتعبر عن ذلك صورة تطبيق ما سبق التخطيط له..
5- عدم وجود حالة "نفسانية مرضية" فلم يثبت ذلك على أكثر من 7 في المائة من مرتكبي هذا النوع من الجرائم.
ويرى بعض الباحثين في الظاهرة أن ارتكاب الجريمة يمر بعدة مراحل:
1- المرحلة التمهيدية، وتتميز بانقطاع صلة الوصل مع البيئة الاجتماعية، ليس من حيث التعامل اليومي، فغالبا ما يبدو الشخص المعني اعتياديا في تصرفاته، لا يلفت النظر، ولكن من حيث نظرته إلى أن المنافذ الاجتماعية حوله مغلقة في وجهه.
2- المرحلة التنفيذية، وتقترن بحالة انفجار الغضب، فيسيطر على مرتكب الجريمة وهو ينفذها، فيقتل كل من يظهر أمامه، وإن بدأ التنفيذ بصورة تستهدف أفرادا أو مجموعات محددة وفق تخطيط مسبق.
3- المرحلة الختامية، التي تصل بالقاتل إلى درجة شبيهة بالغيبوبة أو الإرهاق المطلق، وقد ينتحر (27 في المائة من العمليات المرصودة) أو يقتل من جانب رجال الشرطة وسواهم (16 في المائة) دون أن يظهر بالضرورة أنه تعمد ذلك أو المخاطرة به.
أزمة قيم دون حل
العنف.. عنصر أساسي فيما سبق وفي مجرى عمليات القتل من هذا القبيل، وهو في الوقت نفسه الظاهرة التي أصبحت تمتد وتتفرع وتتطور في ميادين عديدة، فتسبق بتطورها جميع محاولات العلاج، عندما تقف عند حدود بعض الأعراض والمظاهر، وتصطدم دوما بوجود "مصالح مادية" ضخمة و"تصورات فكرية" منحرفة ولكنها راسخة، تمنع من الوصول بالعلاج إلى جذور الظاهرة.
لا يخفى مثلا أن صناعة السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية منعت حتى الآن من استصدار قوانين تحظر انتشاره على مستوى شخصي، ويظهر ذلك على سبيل المثال في محاولة الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون (بعد الجريمة التي سبق التنويه إليها عن قتل طفل في السابعة لطفلة في السادسة من العمر) طرح المشكلة من زاوية التشريعات التقنينية لملكية السلاح، واضمحلال اقتراحاته حتى تدنت إلى مستوى "مطالبة شركات السلاح بصناعة أسلحة فردية ذكية يصعب على الأطفال استخدامها!".
ولا يخفى أيضا أن التعويد النفساني على استخدام العنف وارتكاب الجريمة بلغ درجات خطيرة، في الإنتاج السينمائي والتلفازي وألعاب الحاسوب للأطفال والناشئة، ناهيك عما يعنيه ارتكاب العنف الإجرامي بما يتجاوز حدود "القتال" التقليدي، وانتشار أخباره المصورة في أنحاء العالم، لا سيما خلال مسلسلات الحروب الأمريكية من قبل فييتنام إلى ما بعد العراق.
ظاهرة القتل العشوائي الجماعي أوسع انتشارا، وأعمق أسبابا، وأخطر بحصيلتها، من قابلية مواجهتها بإجراءات أمنية، فمن المستحيل نسبيا "حماية المدارس" برجال الشرطة رغم ما يجري من محاولات لهذا الغرض دون جدوى، أو التنبؤ بالجريمة قبل وقوعها مما يدور الحديث عنه على ضوء ما يُكتشف -بعد ارتكاب الجريمة- من أن مرتكبها لم يكن شخصا اعتياديا كما كان يظن من عرفه في البيئة التي عاش فيها، بل كان يدبر لجريمته بهدوء، وقد يتحدث عن نواياه مسبقا عبر الشبكة العنكبوتية.
الظاهرة جزء من أزمة قيم، وخطورتها كامنة في أن نطاق انتشارها يتوسع تدريجيا بينما لا يكاد يوجد ما يشير إلى التوجه نحو حل أزمة القيم نفسها، بما فيها ما يعيد إلى العلاقات الأسروية والاجتماعية ما افتقدته في هذه الأثناء، في الغرب، وكذلك حيثما ينتشر تأثير الغرب فكريا وفنيا وثقافيا واجتماعيا في أنحاء العالم، مما ينذر بانتشار هذه الظاهرة الدموية الخطيرة في بلدان ومناطق لم تصل إليها حتى الآن، ما لم يتم تدارك مثل هذا التطور قبل فوات الأوان.
وليس المقصود بأزمة القيم مجرد وجود سلسلة من المبادئ الأخلاقية والسلوكية وجودا نظريا في مواثيق ما، إنما المقصود إدخال عنصر القيم من جديد في الميادين التشريعية والإدارية والتربيوية والتعليمية وسواها، لتصبح جزءا من المناهج التطبيقية وتتحول بالتالي إلى مصدر لا غنى عنه في تنمية مفعول عدد من العناصر الأساسية في تكوين الإنسان الفرد، بدءا بقدرته على التعامل مع السلبيات التي يواجهها في حياته وفي بيئته الاجتماعية، فلا يصبح اليأس والقنوط مدخلا إلى العزلة الفردية والنقمة الاجتماعية، انتهاء بتنمية الوازع الداخلي الفردي الذي يحول دون التفكير قبل التخطيط والتنفيذ لارتكاب جريمة قتل، بما في ذلك جريمة الانتحار أيضا.
موقع مداد القلم