مرام موسى
تفكر بشرى بالمهلة التي حددتها جامعتها لتسديد القسط الجامعي و”يدها على قلبها”، خوفًا من فشلها في تأمين المبلغ المطلوب الذي يُقدّر بـ17 ألف ليرة تركية (نحو 630 دولارًا) للفصل الواحد.
بشرى جمعة (23 عامًا)، تقيم في ولاية كوجالي، وتتلقى تعليمها في جامعة سكاريا بفرع هندسة الحاسوب، وتستعد لبدء السنة الدراسية الثانية، وسط جملة من التحديات، أصعبها وأكثرها إرهاقًا تأمين التكاليف الجامعية التي تفوق قدرتها المادية.


تقول بشرى إنها تمكنت من اجتياز السنة الأولى بشق الأنفس، فقد عملت نادلةً في مطعم بإسطنبول، يبعد عن مكان إقامتها مسافة ساعة، مقابل أجر زهيد، وتارة أخرى عملت في ترجمة الأوراق الثبوتية من اللغة العربية إلى التركية، حتى استطاعت تأمين قسط الفصلين الأولين من الجامعة ودفع مبلغ مقداره 18 ألف ليرة تركية.
تحدثت بشرى لـ”نون بوست” عن عدم تمكنها من توفير المبلغ المطلوب للرسوم الجامعية للسنة الحاليّة، لأنها لم تستطع العمل في العطلة الصيفية بسبب التحاقها بالمدرسة الصيفية، كما أنها لم تتوقع أن يرتفع القسط الجامعي إلى هذا الحد، وتقول: “أطمح أن أكمل تعليمي وأحصل على شهادة لبدء مسيرتي المهنية”، مشيرة إلى أنها ليست الوحيدة التي تعاني من صعوبة تسديد الرسوم الجامعية، فشقيقها الذي يصغرها بعامين جمّد قيده الجامعي لأنه المعيل الوحيد للأسرة وثقل مسؤلياته لا يسمح له بمتابعة حياته الدراسية.
    انعكس تفاقم التضخم في تركيا على الأقساط الجامعية، فشهدت ارتفاعًا ملحوظًا، ما شكّل عقبة للطلاب السوريين نظرًا لخصوصية وضعهم في البلاد ومحدودية الخيارات أمامهم
تختلف الرسوم الجامعية الحكومية في تركيا بحسب الفرع، فكلما ارتفعت الدرجات العلمية المطلوبة للقبول في قسم ما، ارتفعت الرسوم، فبينما تبلغ تكلفة دراسة الطب في جامعة مرسين الحكومية نحو 125 ألف ليرة للفصل الواحد، يدفع طلاب كلية هندسة الحاسوب نحو 60 ألف ليرة تركية.
بشرى تؤكد أن ارتفاع الأقساط الجامعية إلى مستويات غير مسبوقة حرم بعض الطلاب من حرية اختيار الفروع التي يرغبون بدراستها، فأضحت قدرة الطالب المادية على دفع الرسوم تحدد مصيره الدراسي.
مع افتتاح الفصل الدراسي الجامعي في تركيا 2023-2024، تفاجأ الطلاب الأجانب في الجامعات التركية بالرسوم الجديدة التي قفزت إلى أضعاف السعر السابق، وبدا العجز واضحًا لدى نسبة كبيرة منهم لتوفير هذه المبالغ الكبيرة، فقد انعكس تفاقم التضخم في تركيا على الأقساط الجامعية، فشهدت ارتفاعًا ملحوظًا، ما شكّل عقبة للطلاب السوريين، نظرًا لخصوصية وضعهم في البلاد ومحدودية الخيارات أمامهم.
كان مجلس التعليم العالي التركي قد ألغى إعفاء الطلاب السوريين البالغ عددهم أكثر من 48 ألف طالب من الأقساط الجامعية عام 2021، وترك المجلس حينها حرية الاختيار للجامعات باتخاذ قرار إعفاء السوريين، فقررت غالبية الجامعات فرض الرسوم الجامعية على الطلبة السوريين كبقية الأجانب.
متضررو الزلزال الأكثر تأثرًا
منال تخوض رحلة منهكة منذ عشر سنوات، محاولة الحصول على شهادة جامعية، فبعد أن اضطرت إلى ترك تعليمها الجامعي في سوريا جراء الحرب، لجأت إلى تركيا، ولم يكن وضعها المادي في أفضل أحواله، ما حال دون إكمال تعليمها في الفترة الأولى.
بعد استقرار وضعها نسبيًا، سجلّت منال (33 عامًا)، المقيمة في ولاية كهرمان مرعش، السنة الفائتة في جامعة إسطنبول للتعليم المفتوح، دبلوم تنمية الطفل، أملًا بأن تحصل هذه المرة على الشهادة الجامعية خلال سنتين وتباشر برحلة البحث عن عمل مناسب.
جاء ما لم يكن بالحسبان، تقول بشرى المعيلة الوحيدة لأطفالها الثلاثة: “الزلزال جعل حياتي أكثر كارثية”، فقد فقدت منزلها وجميع أغراضها، ما أدى إلى تردي وضعها المعيشي بالكامل، وهي الآن أمام عائقٍ آخر لإكمال تعليمها خاصة أن القسط الجامعي الذي سددته السنة الماضية بصعوبة ارتفع ليصبح 2700 ليرة تركية.
كما اشتكت منال من أن المنح المالية المقدمة للطلاب الجامعيين في تركيا لا تستهدف فئتها العمرية، وإنما تعطي الأولوية لمن هم أصغر سنًا.
مبادرات فردية
يفرض الواقع المأزوم الحاجة إلى مبادرات فردية أو حملات جماعية لتقديم الدعم لآلاف الطلاب السوريين في تركيا، وتحديدًا المعرضين لترك تعليمهم الجامعي، والجدير بالثناء أن الساحة لم تخلُ من هذه المبادرات بل تولّى بعض الأشخاص جمع التبرعات على مواقع التواصل الاجتماعي.
بتول الحسن، تقود مبادرة فردية لمساعدة الطلاب المتضررين من ارتفاع الأقساط الجامعية من خلال نشر الحالات التي تردها على حسابها الشخصي في منصة إنستغرام.
    أتاحت جامعة “كارابوك” فرصة طلب تخفيض الرسوم الجامعية بشرط إظهار مدى حاجة الطالب للدعم وأن يكون قد أنهى فصلًا دراسيًا كاملًا في الجامعة
تعبّر بتول عن امتنانها في حديثها لـ”نون بوست” لتأمين أقساط عدد من الطلاب الجامعيين في تركيا بفضل التبرعات التي جمعتها، مثنية على الإقبال على المساهمة في مساعدة الطلاب.
استدركت بتول قائلةً إنّ تفاعل متابعيها مع التبرعات خفت، فالقسط الذي كان يتأمّن خلال وقت ضئيل، لم تعد التبرّعات المجموعة تكفي لتغطية سوى جزء بسيط منه، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية لدى غالبية السكان في تركيا بعد الغلاء الذي طال كلّ شيء بالبلاد، بحسب قولها.
تلفت بتول، وهي إحدى المتضررات من الزلزال أيضًا، إلى أن القسط الجامعي ليس إلا حلقة أخرى أُضيفت إلى سلسلة معاناة الطلاب المنكوبين بفعل كارثة الزلزال، فإلى جانب فقدان المأوى ومصدر الكسب المادي، يحملون الآن عبء مصروفاتهم الجامعية، وتضيف “لا تنتهي تحديات الطالب المتضرر من الزلزال عند تأمين القسط الجامعي، بل يحتاج إلى توفير التكاليف المعيشية مثل أجور السكن الجامعي والمأكل والمشرب، ما يزيد وضعهم المادي سوءًا”.
انطلقت أيضًا مبادرات مختلفة رسمية، في هذا الإطار، إذ أتاحت جامعة “كارابوك” فرصة طلب تخفيض الرسوم الجامعية بشرط إظهار مدى حاجة الطالب للدعم وأن يكون قد أنهى فصلًا دراسيًا كاملًا في الجامعة.
كما أطلق فريق “ملهم” التطوعي، حملة بهدف كفالة تعليم 100 طالب\ة جامعي سوري في تركيا، واضعًا معايير محددة لقبول طلبات الدعم التي بلغت خلال اليوم الأول من إطلاق الحملة نحو 850 طلبًا، وتشترط الحملة ألا يتجاوز عمر الطالب 25 عامًا وأن يكون غير مستفيد من أي منحة أو كفالة تعليمية أخرى.
أما اتحاد الطلبة السوريين في سكاريا، فشكّل فريقًا لتحديد المشكلات التي يعاني منها الطلاب السوريون في تركيا، وبدأ الفريق باتخاذ خطوات ملموسة، إذ أرسل تقريرًا يتضمن تلك المشكلات إلى رئاسة الجمهورية التركية وتلّقى ردًا إيجابيًا، ويعمل الآن على تنسيق زيارة لرئاسة الجمهورية التركية لمناقشة التحديات التي تواجه الطلبة السوريين على رأسها ارتفاع الرسوم الجامعية.
الضغط على الحكومة لتغيير القرار
تدخلت الجهود الطلابية، لتغيير القرار وإنقاذ مسيرة تعليم آلاف السوريين المقيمين في تركيا، لكن لم تثمر هذه التحركات حتى الآن عن أي قرارات إيجابية.
ولعل من أبرز الجهات التي تعمل في سبيل ذلك هو اتحاد طلبة سوريا، إذ أكد قبل أيام في بيانٍ له، عدم تلقيه أي نتيجة عملية من الاجتماعات التي أجراها مع وزارة التربية التركية ومفوضية الأمم المتحدة بجانب الرئاسة في التخطيط الإستراتيجي والمنظمات التركية والسورية المحلية إضافة إلى الشخصيات، رغم الوعود التي قُطعت لهم خلال الفترة الماضية.
ناشد الاتحاد “القائمين على ملف الأقساط الجامعية في تركيا للتعامل مع الملف على وجه السرعة مما يتركه من آثار سلبية كبيرة على مستقبل المجتمعين السوري والتركي، خاصة أن طلبة سوريا يحملون مسؤولية كبيرة تجاه وطنهم سوريا”.
    اتجه الطلاب الأجانب وخصوصًا السوريين إلى التسجيل بالجامعات الخاصة عندما لاحظوا أن تكاليف الأقساط متقاربة
وأشار إلى أهمية معاملة الطالب السوري بطريقة مختلفة عن الطلاب الأجانب لأن سوريا تعيش حربًا لم تنته، مؤكدًا أن استمرار عدم التدخل والمتابعة والمحاسبة يجعل الكثير من الجامعات تستخدم التعليم الأكاديمي كسلعة اقتصادية وتجارة رابحة على حساب القيم الإنسانية والأكاديمية.
وكان النائب البرلماني من حزب العمل التركي إسكندر بايهان قد قدم مساءلة إلى وزير الشباب والرياضة عثمان أشكنباك، بشأن ارتفاع الأقساط الجامعية، وطالب البرلماني بالرد على سبب الاختلاف الشاسع بين أجور الأقساط في الجامعات وتفاوتها بحسب كل كلية.
النزوح إلى القطاع الخاص
ارتفاع الأقساط الجامعية الحكومية بشكل مبالغ فيه ساهم في ازدهار القطاع التعليمي الخاص، إذ اتجه الطلاب الأجانب وخصوصًا السوريين إلى التسجيل بالجامعات الخاصة عندما لاحظوا أن تكاليف الأقساط متقاربة.
محمد ملّاح، مستشار تعليمي في تركيا، أكد في حديثه لـ”نون بوست”، أن إقبال الطلاب الأجانب على الجامعات الخاصة على حساب الحكومية ازداد بشكل كبير، مشيرًا إلى أن نسبة الطلاب الذين عزفوا عن التعليم الحكومي رغم أنهم كانوا يفضلونه سابقًا زادت بنسبة 40% في الموسم الدراسي الحاليّ، جراء المتطلبات المعقدة، التي شملت الأقساط المرتفعة والدرجات العالية والمقاعد المحدودة، الأمر الذي أرهق الطلبة الأجانب وجعلهم يبحثون عن خيارات أفضل.
وبالنسبة للطلاب محدودي الدخل، يلفت ملّاح إلى أن قسمًا كبيرًا منهم اتجهوا إلى التسجيل في تخصصات الدبلوم بسبب عجزهم عن توفير أقساط البكالوريوس ورفضهم التخلي عن تعليمهم الجامعي، أمّا الفئة العاجزة عن تأمين الأقساط كاملة فأصبحت الحياة الجامعية بالنسبة لهم حلمًا مرهونًا بالوضع الاقتصادي والقرارات الحكومية.

JoomShaper