فرح الردايدة

من منا لم يشعر يوما بحالة الملل، جراء الروتين اليومي والتكرار في الأنشطة اليومية المعتادة؟

تعريف الملل يختلف من شخص لآخر، بناء على القدرات في إدارة المشاعر، ومن ضمنها تحويل أوقات الفراغ الطويلة لنقطة تحول إيجابية لصالح الشخص.

الجمعية الأميركية لعلم النفس، بينت أن الشعور بالملل يعني "السأم بسبب عدم التفاعل مع المحفزات الموجودة في البيئة التي تحيط بنا، ويعد أحد أنواع المشاعر التي لا يفضلها البشر على الإطلاق، وقد يصفون أنفسهم بأنهم مصابون بالاكتئاب".

رشا جمال (28 عاماً)، شاركت تجربتها في استثمار ما يسمى بـ"الملل البنّاء" لإلهام الآخرين، فبعد الانتهاء من مرحلة البكالوريوس أصبحت الحياة رتيبة ومملة، وكانت الأيام تشبه بعضها بعضا، وبالروتين ذاته، كما تقول "بدأت أشغل يومي بتتبع ومشاهدة بعض البرامج الترفيهيه الكورية التي كنت أستمتع بمشاهدتها منذ الصغر، لتبقي عقلي في حالة نشاط ويقظة، ولذلك تعلمت اللغة الكورية "الهانقول"".

مع الوقت، أصبحت رشا تستمتع بما تشاهده وتتعلم في الوقت ذاته الأبجدية الكورية من منصة "يوتيوب"، ثم قامت بتحميل تطبيق إلكتروني يساعد على نطق اللغة وتكوين الجمل كما تدرس قرابة الساعتين بشكل يومي.

اليوم، هي تتقن اللغة الكورية بشكل جيد وكم هي فخورة بنفسها بهذا الإنجاز، بل ممتنة للملل الذي كان تأثيره إيجابيا عليها، إذ أتاح لها فرصة تعلم شيء جديد.

"سلاح ذو حدين"، هكذا جاء وصف الملل، على لسان مدربة الحياة ضحى بليبلة، التي تقول "شعور الملل يحمل تأثيرات مختلفة، فمنها السلبي ومنها الإيجابي النافع، نستطيع كطبيعة بشرية أن نتقبل حالة الملل، لاكتشاف الذات، من خلال التأمل، إضافة لتشغيل صفة الفضول الذي يحفز الفرد على التجربة وزيادة الخيارات، وتوسعة مدارك الاكتشاف".

لذا، الملل مطلوب أحيانا للخروج من حالة الامتلاء دائماً بالأفكار المكررة والانشغال الدائم الى حالة الهدوء التي نحتاجها لإعادة تقييم أنفسنا وحياتنا واكتشاف ما الذي نرغب بتغييره أو تعديله، بل ما المسارات الجديدة المحتملة التي قد نسلكها لتنعكس بشكل أفضل على الحياة، وفق المدربة بليبلة.

وتشير إلى ضرورة عدم الخوف من الملل، بل توخي الحذر فقط عند الخضوع والاستسلام للملل الذي قد ينتج عنه كآبة في بعض الأحيان أو تصرفات غير مرغوبة.

لماذا الملل؟

یفسر علماء الأعصاب الملل بأنه ینبع من نقص هرمون "الدوبامین"، أو "هرمون المكافأة" في دماغك، فعندما یتم إفراز الدوبامین بكمیات قلیلة جداً، تبدأ بفقدان الشعور بالإثارة أو السعادة في حیاتك.

قد یبدو للوهلة الأولى أن الشعور بالملل أمر سیئ، بینما في الحقیقة، حالة الملل هي مكان سحري للخیال والإبداع قد یغیر حیاتك إن استطعت اكتشافه في مجتمعاتنا الحدیثة. لكن ما يزال الملل یحمل معاني سلبیة لدى الكثیرین، ویعتبرونه أمراً یجب الهروب منه، وغالباً ما یكون الحل هو اللجوء إلى هواتفهم الذكیة، الغنیة بما لذ وطاب من الألعاب ومواقع التواصل.

ولكن، مؤخراً، صدرت العدید من الدراسات والأبحاث التي تشیر إلى أن شعورنا بالملل قد یكون ذا قیمة أعمق مما نعتقد، فالملل بإمكانه تحفيز التفكیر الذاتي، والإبداع، واكتشاف الذات، وفق ما تقوله مدربة الوعي رشا مشعل.

وتبين المدربة مشعل، أن الدماغ متعطش للتحفیز، وعندما تشعر بالملل، ستبدأ بالشرود، والشعور بفقدان التركیز إذا لم تشغل عقلك بشيء آخر. ویرتبط شرود العقل بتفعیل شبكة الوضع الافتراضي في الدماغ، وهي الأجزاء التي یتم تنشیطها عندما لا نركز على مهمة ما.

وتشیر الدراسات إلى أن هذه الشبكة مرتبطة بالتأمل الذاتي والخیال، وأبرز مثال على ذلك، هو الكم الهائل من الأشخاص الذین یدعون أن أكثر أفكارهم إبداعاً وأشدها إلهاماً، قد أتتهم بینما كانوا یستحمون، أو عندما یتمددون في أسرتهم لیلاً قبل استغراقهم في النوم، بعیداً عن شاشات هواتفهم، وعن أي مصادر أخرى للإلهاء، فیتوقف الدماغ عن الشعور بالإجهاد ویستعید قدرته على التركیز، ویمنحك فرصة نادرة للتفكیر بشكل أعمق، لابتكار حلول للمشاكل، وخاصة لتلك القابعة في مؤخرة دماغك.

الشعور بالملل هو حالة طبیعیة یمر بها الدماغ، لذا من الأهمية بمكان الهروب منها، والبدء باستغلالها كمساحة للتفكیر، وحل المشاكل، وبناء الخطط، وتقدیر الذات.

وفق المدربين، فإن الملل البنّاء يظهر لنا كيف يمكن تحويل فترات الفراغ إلى فرص ملهمة. إنه ليس مجرد فرصة لملء الوقت، بل لاستكشاف أعماقنا وتطوير أنفسنا بطرق لم نكن نتوقعها؛ حيث يشجعنا على البحث عن التحديات واكتساب الخبرات الجديدة، مما يمنح حياتنا قيمة أعمق وأغنى. في هذا العصر السريع والمليء بالملهيات، يمكنه أن يكون مصدرا للنمو والارتقاء بأنفسنا بشكل مستدام.

JoomShaper