محمد صلاح

إن العامل المشترك في التعاسة المستمرة، والمرض النفسي، والاضطراب العاطفي، واختلال العلاقات، وصراعات الأبوة والأمومة، هو "ضيق أو تصلب وجهات النظر"، الذي قد يصم آذاننا عن الجوانب الإيجابية في أنفسنا وفي العالم من حولنا، لكن في المقابل، "تعتمد سلامتنا العاطفية على المرونة". هذا ما افتتح به الدكتور ستيفن ستوسني، المعالج النفسي والمؤلف، مقاله الذي نُشر مؤخرا في مجلة "سايكولوجي توداي".

مُرجعا ما يعترينا من ضيق أفق وتصلب في الرأي، إلى سيطرة "الدماغ الآلية" علينا، أكثر من "الدماغ التأملية".

وهو ما شرحه لشبكة "سي إن بي سي – ميك إت"، بقوله إننا في معظم اليوم، تكون أدمغتنا بين وضعين:

وضع الدماغ الآلية، الذي يجعلنا نتصرف تلقائيا ودون تفكير، وفقا للروتين اليومي الذي نعرفه جيدا (كإرشادنا في رحلة العودة المألوفة إلى المنزل، على سبيل المثال).

وضع الدماغ التأملية، الذي يستخدم المنطق والتفكير والمرونة لحل المشاكل، ويمثل "الجزء التنظيمي من الدماغ"، الذي يهدئنا عند الانزعاج، أو ينشطنا عند الشعور بالإحباط.

مما يجعلنا نحاول استكشاف ما يحدث عندما نستسهل ترك عقولنا تعمل على وضع التشغيل الآلي، وأهمية زيادة اعتمادنا على عقلنا التأملي، لنبقى مرنين متيقظين ذهنيا.

مُثبّت سرعة للدماغ

تقول الخبيرة التربوية جاسمين رحمن: هل سبق لك أن تصفحت هاتفك، ورددت على رسائل، ثم أدركت فجأة أنك لا تتذكر شيئا منها؟ هذا هو دماغك الآلي، الذي يعمل بدافع العادة وليس الوعي، لكنه يصبح مشكلة عندما نعتمد عليه في القرارات المهمة.

وتُعرّف رحمن التشغيل الآلي للدماغ، بأنه وضع يشير إلى الحالة التي نقوم فيها بإنجاز "مهام مألوفة" (مثل ربط أحذيتنا، أو تنظيف أسناننا، أو الذهاب إلى العمل)، أو نتخذ قرارات بدون – أو بأقل قدر – من التفكير الواعي. وهي طريقة الدماغ "للحفاظ على الطاقة"، من خلال الاعتماد على العادات والروتين والتجارب السابقة لتوجيه سلوكنا.

ورغم أنه قد يعزز الكفاءة، فإن التشغيل الآلي للدماغ "يُصبح مشكلة" عند تطبيقه في حالات تتطلب الوعي والمنطق والتوقف لتقييم ما نفعله أو نسمعه أو التساؤل عنه، حيث يجعلنا نتصرف بناء على أنماط افتراضية، مما قد يؤدي إلى "سوء اتخاذ القرارات، وضعف التفاعل مع العالم من حولنا".

لذا، تشبه جاسمين التشغيل الآلي للدماغ بـ"مثبت السرعة" الذي يفيد على طريق ممهد ومألوف، ولكنه "محفوف بالمخاطر" عندما تتغير الظروف وتتطلب استجابات سريعة ومدروسة.

لماذا نلجأ إلى الدماغ الآلية؟

تعلل جاسمين ركوننا لاستعمال دماغنا الآلية، "رغم ما يسببه من إعاقة للنمو والوعي والتفكير النقدي والتأمل الهادف"، بالآتي:

    الدماغ الآلية توفر الطاقة عن طريق تشكيل العادات من خلال التكرار، وتجنب التفكير النقدي عندما لا يكون ضروريا، مما يسمح لنا بالقيام بالمهام الروتينية، ويساعدنا على العمل بكفاءة في حياتنا اليومية، دون جهد واع.

    عندما نشعر بالتعب أو التوتر، نعتمد بشكل أكبر على العقل الآلي الذي يقاوم التفكير المجهد لحماية نفسه من الحمل الزائد، فنتصفح الصفحات سريعا ونمررها، دون توقف للتفكير.

    لأن الدماغ الآلية تمنحنا شعورا بالراحة وتجنبنا الانزعاج، عندما يدفعها ضغط المعلومات إلى الاختصار واختيار المألوف والسريع، بدلا من التفكير العميق.

ماذا يحدث عندما نعتمد على دماغنا الآلية؟

تقول جاسمين رحمن، "في عالم مزدحم بالمعلومات تُحرّكه الخوارزميات، عندما نتوقف عن التساؤل والتحليل والتأمل، نصبح عرضة للمعلومات المضللة وسوء التقدير".

فرغم أن الدماغ الآلية تساعدنا على إدارة حياتنا بقدر من تقبّل المعلومات بظاهرها، بدون تفكير نقدي، خاصة إذا كانت تتوافق مع معتقداتنا أو مشاعرنا، لكن الاعتماد المفرط عليها يمكن أن يؤدي إلى "عواقب وخيمة" في كيفية إدراكنا للعالم واتخاذ القرارات للتفاعل معه، مثل أن:

    نقع في التحيزات المعرفية، حيث تسيطر علينا تحيزات مثل تحيز التأكيد (تفضيل المعلومات التي تؤكد ما نؤمن به)، وتحيز التوافر (الاعتماد على المعلومات السهلة والجاهزة)، مما يُشوّه حكمنا على الأشياء، وقد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة.

    تتراجع قدراتنا على حل المشكلات، فالعقل التأملي الناقد ضروري لتقييم المشكلات، وموازنة الحلول، وتوقع النتائج. وبدونه، نواجه صعوبة في اتخاذ القرارات المعقدة، فنلجأ إلى الخيار الأسهل أو الأكثر شيوعا، حتى لو لم يكن الأفضل.

    نتوافق دون تساؤل، فغالبا ما يتبنى العقل الآلي آراء الأغلبية الشائعة، وخصوصا في أماكن العمل، والفصول الدراسية، والمجال العام، "دون التأكد من صحتها"، مما يؤدي إلى اعتياد التفكير الجماعي، وقمع الفردية.

    نهمل الإبداع والابتكار، فالعقل التأملي يشجع التفكير النقدي ويدفع للفضول والتفكير بسؤاله الدائم: "ماذا لو"، وبدونه، نتوقف عن تحدي الافتراضات ونفوّت فرص استكشاف أفكار أو حلول جديدة، ونصنع الركود العقلي.

    نفقد استقلاليتنا الشخصية، عندما نتوقف عن استعمال العقل التأملي الناقد، نتخلى عن السيطرة على خياراتنا، ونصبح "تفاعليين بدلا من استباقيين"، نتأثر بالمؤثرات الخارجية، بدلا من اتباعنا للمنطق والقيم الداخلية.

كيفية التقليل من الاعتماد على الدماغ الآلية؟

يقول ستوسني، "إن إعادة تأهيل العقل الآلي، هي الطريقة الوحيدة الموثوقة لإحداث تغيير إيجابي يكفي لتحمّل الضغوط".

فرغم أن العقل الآلي "يَفترض، ويحكم، ويلوم، ويتجنب"، لكن لا يمكنه مساعدتك في التعامل مع الأفكار والمشاعر، أو التغلب على الغضب، أو التمهل في إصدار الأحكام المسبقة.

أيضا، العقل الآلي يستهلك طاقة أقل بكثير من التأملي، ومن عيوبه أنه "متسرع"، وعادة ما يكون مدفوعا بردود أفعال مكتسبة، وتُحفزه مواقف وعادات مألوفة.

لهذا السبب، ينصح ستوسني بتنشيط العقل التأملي "الذي يُعقلن ويُحسن ويُقدّر"، للخروج من دوامة المشاعر السلبية، من خلال الإجابة على هذا السؤال: "ما الدليل على ما أعتقده أو أشعر به الآن؟".

على سبيل المثال -يقول ستوسني- "عندما تعتقد أن جارك شخص سيئ، فسيبحث عقلك الآلي تلقائيا عن أدلة تدعم الاعتقاد بسوء جارك"، لكن عقلك التأملي يبدأ في التدخل بمجرد أن تقول لنفسك: ما الدليل على ذلك؟ وأنا أرى جاري أبا صالحا، يعتني بحديقته الجميلة.

وهكذا، تساعدك هذه الطريقة على تدريب عقلك على الهدوء والتأمل بشكل أكثر انتظاما، بدلا من الانجراف وراء الدماغ الآلي التلقائي، والانغماس في دواماته المرهقة.

وهذا بدوره سوف يُساعد على إعادة برمجة تفكيرك ليصبح التأمل هو سمة عقلك التلقائي بدلا من الآلية، حيث يؤكد ستوسني أن "أي شيء تفعله بشكل متكرر، سيفعله عقلك تلقائيا في النهاية".

وتضيف جاسمين رحمن قائلة "من خلال التمهل، وطرح الأسئلة، والتأمل الجاد"، يُمكننا استعادة صفاء ذهننا واتخاذ خيارات أكثر وعيا وتدبرا، فليس الهدف هو التخلص من الدماغ الآلية التلقائية، بل "معرفة متى نوقفها ونمسك بزمام الأمور".

JoomShaper