أمية درغام
لاشك أن تربية الأولاد عملية شاقة وباتت في عصرنا هذا «مشروعاً اجتماعياً- إنسانياً» يتطلب حشد كل الإمكانات التربوية والمعنوية والاقتصادية لإنجاحه، فما من هدية أعظم من الأبناء وما من مكافأة أعظم من تألق أخلاقياتهم وسلوكياتهم. ومع وصول أولادنا إلى سن يصبحون فيها «يافعين» يتغير الكثير من الأفكار لديهم نتيجة فهمهم الصائب أو المغلوط لما يدور حولهم أو يسمعونه أو يكتسبونه، بحيث يتجاذب الآباء والأبناء حبل الاتهامات ما بين الديكتاتورية والديمقراطية.
«أهلي لا يسمحون لي... أهلي لا يرضون»، جملة تتردد بين المراهقين وقد تمتد إلى البالغين من الجنسين، مشتكين من قواعد الأسرة و«قيودها» كما يطيب لهم التعبير. منهم من يتحدث عن عصر «الاستبداد» فيعود إلى التاريخ الذي يتعلمونه في المدرسة ويستعين بعباراته للتعبير عمّا في قلبه... ومنهم من يقول «عصر الظلمات» عبارات يستخدمها الشبان من صبيان وبنات في مرحلة عمرية معيّنة في الوقت الذي لا يحفظون فيه عبارات أخرى.
«نريد الديمقراطية» وهي عبارة تتحدث عنها نجوى (أم لأربعة أولاد) ضاحكة، لأنها فوجئت بالبكر من أولادها معترضاً على قرار الأب بعدم السماح له بالذهاب مع أصحابه من أبوظبي إلى دبي والعودة ليلاً. تقول نجوى: «يتحجج وليد بأنه بلغ سن الرشد ليقوم بما يريده وقد فاجأني بمسألة الديمقراطية هذه على الرغم من أنه لا يهتم بما يدور حوله من أحداث سياسية في العالم، ولكنه اختار ما يريده من نشرات الأخبار لينال مبتغاه».
وتضيف: «اكتشفت حين سألته عن الديمقراطية التي يريد، أنه كان قد قرر لو وافقنا معه على المبدأ، أن يجري تصويتاً في المنزل، وبما أني سأقف إلى جانب قرار أبيه وأنا أساساً أدعم هذا القرار، كان سينال أصوات إخوانه فينتصر علينا 4 ضد 2».
لم تكن تتوقع نجوى أن وليد -كي ينال الأصوات المطلوبة- كان قد وعد إخوانه بمصروفه لأسبوعين لتوزيعه على ثلاثتهم، ولكن حين كشف الأخ الأصغر ببراءته النقاب عن الاتفاق، لجأت نجوى وزوجها إلى مجاراة وليد بمشروعه بعد أن كانا أقنعا الإخوة بالعكس، ودار التصويت وخسر وليد وكانت مفاجأة له ولم يعرف ماذا يفعل، تحجّج بأن أهله «مستبدون» فيما أهالي أصحابه ديمقراطيون، وحين ذكرته والدته بموافقته على أسلوب التصويت الديمقراطي، راح يتحجج بأمور شتى لم يكن من بينها البحث عن مفهوم الديمقراطية العددية والديمقراطية النوعية.
برنامج مفصّل
أما ليلى فهي أم لشاب وصبية، قررت أن تغض الطرف عن بعض الأمور وهي تربي ولديها، انطلاقاً من مبدأ أنه ليس بالوسع خنق الأولاد وهم مفعمون بالحيوية ويختزنون طاقة يودون تفجيرها، وفي المقابل عمدت إلى وضع برنامج مفصل لكل عام تشغل به الولدين بالنشاطات الرياضية والفنية والموسيقية بعد المدرسة، فلا يبقى لديهما الوقت بعد إتمام واجباتهما المدرسية اليومية والالتحاق بالنشاطات لإقامة حرب رفض وتمرّد في المنزل.
تقول: «أعرف كل أصحابهما وهم أصحاب المدرسة وزملاء الدراسة، وبالتالي بتنا عائلة كبيرة جميعنا، كلما توفرت الفرص نقوم بنشاطات مشتركة فيفرح الأولاد بها ويبقون تحت أعيننا نحن الكبار إلى أن يبلغوا فعلاً ويكونوا مسؤولين عن تصرفاتهم».
تقول ليلى: «إذا سألت ابنتي داليا عن رأيها بسلطة الأهل، ستقول إننا ديمقراطيون من دون أدنى شك، فإن الحافز الذي أوجدناه لملء وقتها بكل ما هو مفيد لها ولمستقبلها جعلها هي نفسها تطلب هذه الأجواء وترتاح لوجودنا معها، وبتّ صديقة لها إلى جانب صديقاتها لأنني لم أشعرها يوماً بأنني عدوتها».
تسترسل موضحة: «هذا لا يعني أن الأهل الآخرين هم أعداء لأولادهم ولكن يعتقد الأولاد ذلك حين لا يتلقون ما يريدون، وعلينا أن نجعل ما يريدون عبر التربية من الأمور المقبولة وخصوصاً أننا نعيش في زمن صعب حيث كل شيء بات متاحاً أمام الأولاد، ولم يعد بوسعنا إلا أن نكون أصدقاء لهم كي لا يضيعوا وأن لا نمنعهم لمجرد المنع، إنما نشرح لهم الأسباب والدوافع».
طريقة مثالية
إنما متى قررت ليلى أن تكون وزوجها متفقان على هذه الطريقة المثالية في تربية الأولاد؟ تقول «مرة كنا مع أصحاب لنا في مطعم فخم وكان الولدان معنا، وبعد تناول الطعام والجلوس والتسامر حول المائدة راحا يلعبان بالطعام بطريقة مقززة فيضعان اللحمة في كوب الماء أو العصير ويخلطان المتبقي على الطاولة! وتعلو أصواتهما على صوتي وصوت والدهما فلا نستطيع التحدث، ناهيك عن الإزعاج الذي تسببا به لرواد المطعم الآخرين. شعرت بالغضب من أولادي لأنني شعرت أنهم هم البادئون وقد لحق بهم مقلدين أولاد أصحابنا. صرخت بهما وطلبت منهما الجلوس بأدب فما كان من أحد العاملين في المطعم إلا أن قال لي «سيدتي، لا بأس، إنهما ولدان ولا يسعكما ربطهما في مقعديهما كما الكبار للتحدث، إنهما ولدان».
وتقول ليلى «هذه الجملة جعلتني أشعر فعلاً بأننا ظلمنا ولدي بالذهاب معهما إلى مطعم فخم وليس فيه وسائل ترفيهية للأطفال بدل أن نختار المناسب لهما، وقد وضعنا أولوياتنا قبل أولوياتهما، وصحيح أنه ليس بالوسع ربط الولد إلى كرسي ومطالبته بالتصرف بكياسة وهو في عمر يريد فيه أن يلعب ويقفز ويطلق طاقته، ومنذ ذلك الحين باتت مشاريعنا المشتركة مع الولدين هي المشاريع المناسبة لهما قبل أن تكون مناسبة لنا، وفرحنا بذلك».
تضيف: «حاولنا ونحاول قدر ما نستطيع أن نحول طاقة الولدين إلى ما يفيدهما في حياتهما بدل أن يضيعا وقتهما في اللا شيء مع أشخاص لا نعرف سلوكياتهم. واليوم أشعر وهما في الجامعة بأنني مطمئنة مرتاحة البال وأدعو أن لا يصيبهما أي سوء لأننا في النهاية عمدنا إلى تربيتهما كما ارتأينا وها هما سينطلقان في الحياة لوحدهما، فلا أنا في رأس ابنتي أو ابني كي اتحكم بهما ولا يجب أن أتحكم بهما، إنما أعتقد أنهما أخذا زاداً يجعلهما يختاران الطريق الصحيح في حياتهما إن شاء الله».
أسلوب الصراخ
من جهتها فإن رقيّة- أم لشابين، تتوصل أحياناً للطم وجهها غضباً! وتسأل نفسها ماذا ارتكبت من خطأ في تربيتهما حتى يسببا الإزعاج لمن حولهما؟ وفوق هذا وذاك يتهمانها بأنها مستبدة.
تقول: «يا ليتني كنت مستبدة، فأنا لدي صوت عال فقط، ولكن على الرغم من ذلك لا أحد يسمعني، أقول جملتي عشرات المرات ولا يقومان إلا بما يريدانه ولا أحد يقف معي، فوالدهما مشغول جداً ويتهمني بأنني لا أعرف كيف أربيهما».
وتضيف: «ينالان ما يريدانه بموافقتي أو من دونها وأبسط الأمور أنهما يهددانني بمغادرة المنزل والكبير يبلغ 16 سنة والصغير 14 سنة. فمن هو المستبد؟ أنا أم هما؟ ولا أسمع إلا أني مستبدة ولا أوافق على أي نشاط لهما مع أنني أعتقد أنهما نجحا في تربيتي بدل أن أربيهما».
وتقول رقية «أعرف أن ثمة خطأ، وقد لجأت إلى مرشدة اجتماعية نصحتني بأن ألغي تماما أسلوب الصراخ فقلت لها أن تأتي بنفسها إلى منزلي وترى لو كان بوسعها أن تفعل العكس، فأفهمتني أن الصراخ هو المشكلة لأنه يشعرهما بضعف شخصيتي من دون وعي، فلا يتأثران بتهديداتي ولا يلتزمان بالتعليمات الضرورية التي أطلب منهما إنجازها».
تسترسل مضيفة: «لا أزال في بداية الطريق وتطلب مني الأمر العمل كثيراً على شخصيتي كي أتمكن من فرض نفسي، كما استخدمت أسلوب الثواب والعقاب معهما ولكن البداية صعبة جداً، خصوصاً أنهما بدآ يغيران في البداية من قراراتي باللجوء إلى والدهما المشغول واستنزاع موافقته من دون إبلاغه بقراراتي أو بموافقتي أو عدمها على أمر ما، لكن أبلغت زوجي بلعبتهما ونسعى حالياً بالتعاون فيما بيننا على تربيتهما تربية صالحة.. فقد كنت فعلاً ألطم وجهي أحياناً وأشعر بالعذاب في داخلي، وأتألّم، وأتمنى أن لا يبقى الوضع كذلك أبداً، فأنا أعرف كيف يتحجج الأولاد بالقول إن أسرتهم مستبدة وتفرض عليهم القيود وهم لا يعرفون أن مبررات الأهل في تشددهم تنطلق من الخشية على مستقبل أولادهم لأنهم يتمنون لهم السعادة والنجاح».
فماذا نريد من أولادنا إلا أن يكونوا سعداء يتسمون بالتميز في حياتهم؟ فهم أجمل هبة لنا وما من مكافأة أعظم من تألق أخلاقياتهم.