مالك فيصل الدندشي
هوية الأمة وقيمها، وشخصية المجتمع وملامحه التي يتفرد بها، والأهم من ذلك عقيدته، والتشريع الذي يتحاكم إليه، وأخيرا التاريخ الذي يمثل ذاكرته، وجذوره وتجاربه، وسلوكه في الماضي، ويضيء له الطريق في مستقبله، واللغة التي يتواصل بها أفراده في الحاضر وفي المستقبل، والتي بها يفهم التراث، وينشئ حياته الجديدة مستفيدا من غيره مطورا ومعدلا ومبتكرا، إنها قيم لا يقبل أي مجتمع أن تمس أو كما قيل: هي خط أحمر عند جميع الأمم التي تحترم نفسها، وأتحدى أي إنسان أن يعطيني شعبا يتساهل في هذه المسلمات، إلا إذا كان شعبا تافها يريد أن يحيا على موائد الآخرين، وأن يتسكع في أزقة الأمم الأخرى، ويتقوت من نفاياتها. حدثني زميل كان يعمل في الجزائر - بعد الاستقلال عن فرنسا - :أنه ركب سفينة من أحد موانئ الجزائر متوجها إلى فرنسا سائحا، ولما قربت من ميناء مرسيليا (ميناء فرنسي على ساحل المتوسط) وبدت مشارف المدينة صاح فرنسي بلغته مبتهجا: تحيا فرنسا تحيا فرنسا!! ثم حدثني من أثق به أن الألمان في بلادهم لو سألتهم عن مكان مجهول لا تعرفه – بغير الألمانية – لا يجيبك! هذا في مجال اللغة؛ فما بالك إذا مس الأمر المعتقدات والعادات و و و، فالأمر جد خطير، والدليل على ذلك دولة ليتوانيا التي عدد سكانها لا يصل إلى المليونين، ويتكلمون لغة خاصة بهم، وعلى الرغم من ذلك فهم لا يعلمون أولادهم إلا بلغتهم!
والناس كل الناس في الأرض كل الأرض لا يساومون على هويتهم مهما كان الثمن لا أحاشي عباد البقر والحجر والبشر. إذا أردنا أن نسقط ما قلته على واقع أمتنا، فإننا نصاب بدوار الرأس، وربما بالضغط أو أمراض تؤدي إلى العضال على الرغم من أن هذه الأمة صناعة إلهية ذات هوية ربانية، وملامح قرآنية وتصوراته ومقومات حياتها نبوية (من توجيهات رسول الإسلام)، وقد جربت منهج الله في حياتها، فكانت لها السيادة والريادة والقوة والهيمنة والتفوق أكثر من ألف عام فما بالها انحدرت إلى وضع ينذر بالخطر، وإلى حال تُبْكِي العين وتُدْمِع من تَفَلُّتٍ في السلوك، وتنكُّرٍ للقيم وخجل من الماضي، وتفاخُرٍ بلغة الآخر، ورفضٍ لكل ما يمت بصلة إلى الدين – وإن كان بعضهم ما يزال يعترف بالعبادات سواء كان عن قناعة أم خوف – بل يجرؤ ويقول: لا تقَدَمُّ َلنا إلا بالانسلاخ من كل ما يصلنا بديننا، ونتغرب في كل شيء!!؛ وفئات كثيرة تتبع هؤلاء عن قناعة أو جهل أو حب للتقليد. لقد نسي المسلمون أن الله تعالى قال فيهم ((كنتم خير أمة أخرجت للناس......))سورة آل عمران، ثم ذكر نبينا أننا – في المستقبل – سنتبع اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، ولو دخل أحدهم جحر ضب لدخلناه!، ونسي هؤلاء أو تناسوا أننا عندما كنا مسلمين حقا كان جورج الثالث ملك بريطانيا وإيرلندا يقول لهشام الثالث (في الأندلس) في خطاب أرسله إليه: خادمك فلان ! وأن هارون الرشيد أرسل يقول لملك الروم عندما رفض دفع الجزية: "من هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم!" ولا أريد أن أدلل على هذه المسألة فهي كثيرة في الماضي والحاضر القريب - أقصد إلى ما قبل سقوط الدولة العثمانية - وما أصابنا ما أصابنا إلا من هذا التخلي المشوه عن ثوابتنا، فلم نعد نُبْقِي سوى بعض المظاهر والعادات وبشيء من الحياء بعض التشريعات التي تمس الأحوال الشخصية والعقوبات، وكأن الإسلام ليس منهج حياة يلبي مطالب الجسد والروح والعقل والفكر والعواطف، بل مجرد طقوس وحركات تؤدى!!!!. لقد طلعت علينا نابتة من بيئتنا، وناشئة من بيوتنا تجرأت أخيرا وتمادت في مجاهرتها بسوء الخلق والبعد عن الدين والهوية، وظنت أنها بهذا الفعل المقبور سوف تغير الحال، وتقلب الموازين، وأن الأمة التي ما زال فيها الخير، سوف تسكت عن فعلهم المنكور – وإن كان هذا الإجراء لا يكفي – فتوارت جبنا وخوفا، ولكن القضية لم تنته ولن تنته حتى نعود إلى ديننا عودة صادقة شاملة. إن الكلام الذي تلفظ به حمزة الكشغري، ومن قبل يوسف الحبيب وصاحب الآيات الشيطانية وهم طلائع لجيل عبر عن رأيه عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها ولهم ركائز هنا وهناك- ليجعلنا نقف مع أنفسنا وقفة محاسبة ومراجعة ومعالجة؛ لأن ما حدث لم يأت من فراغ؛ وإني – من خلال تجربتي التي امتدت أربعة عقود في التربية والتعليم – حينما أنظر إلى أجيالنا لأحس بل أكاد أجزم – إن بقينا في هذه السلبية – أن الكثير منهم سيكونون من جنود أولئكم لا سمح الله، وأنا لا أحب التشاؤم؛ لأنني أعتقد أن المستقبل لهذا الدين الذي سيبلغ مبلغ الشمس ولا يبقى بيت مدر ولا حضر إلا يبلغه الإسلام، ولكن متى؟ الله أعلم. كما أني مؤمن أنه ستبقى طائفة على الحق قائمة لا يضرها من خذلها حتى يأتي أمر الله. ولكن هذا لا يعفينا من المسؤولية تجاه جيل بدت عليه علامات الجفاء؛ فهو يتقبل كل شيء إلا أن تقول له: قال الله (تعالى) وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بل إن كثيرا من سلوكياته لم تعد تنتمي إلى هوية الأمة وقيمها، والشواهد كثيرة في المدارس والجامعات والسوق والبيوت تجدها في الملبس والمأكل والمشرب والاهتمامات والميول والتطلعات وفي العمل وطبيعته، تجدها في طريقة التعامل مع التقنية، وفي الألعاب، تجدها في النظر إلى الدنيا والآخرة، وفي التخطيط وفي الحياة العادية، وأسلوب التربية والتنشئة، تجدها في طريقة البيع والشراء وتصريف الأموال. ربما يقرأ مقالي هذا شخص ما، ويقول: لم تأت بجديد، وكلامك مكرر مسموع، والحقيقة أني لا أريد أن أستعرض ما عندي من أدلة جديدة حتى لا أفسد خطة المقال؛ فأنا لا أكتب بحثا. وما خططته في مقالي هذا إن هو إلا تنبيه للغافل، وإيقاظ للنائم، وتحذير للمستهتر، وحث للعاقل ليأخذ دوره وللعالم أن يلعب دورا أكبر، وللجاهل أن يسترشد، وللإنسان المسلم أن يعلن براءته من كل القيم الجاهلية، ويشمر عن سواعد الجد كي يمارس إسلامه عملا وسلوكا وعقيدة، فيكون ـ بحق - لبنة في سد يقف في وجه التيارات التي تريد أن تغرب أبناءنا الذين نخاف عليهم من كل شر مهما كان لونه وطعمه.
الشباب وقضايا الأمة في عصر العولمة والهيمنة
- التفاصيل