محمد السيد عبد الرازق
كم مرة كنت في مأزق، وشعرت بالحاجة الشديدة لتحكي لشخص ما عن الظروف التي تمر بها؟ كم مرة كنت مريضًا، وأحسست أنك تشتاق لزيارة أصدقائك وأقاربك؟ كم مرة أنجزت إنجازًا ضخمًا، وكنت ترغب رغبة شديدة أن تبلغ أحبابك بهذا الإنجاز؟
أليس الدافع وراء كل هذه الأعمال هو الشعور بتعاطف الآخرين معك؟ هو البحث عمن يحس بك ويرعى مشاعرك؟
ذلك لأن إحساس الواحد منا بحب الآخرين له وتعاطفهم معه شعور لا يضاهيه شعور آخر، فكما يقول الدكتور أرثري جيش: (التعاطف هو الشيء الذي يتوق له الجنس البشري عامةً) [كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ديل كارنيجي، ص(207)]، ولكن منحه للآخرين أعظم، فكما يقول ويليام شكسبير: (البحث عن الحب شيء جيد، ولكن منحه هو أفضل الأشياء) [أفضل ما قيل في النجاح، كاثرين كارفيلاس، ص(93)].
رسالة إلى القيصر:
حتى أشد الناس صلابة وأكثرهم قسوة وضراوة، بحاجة إلى من يتعاطف معهم ويشفق عليهم، انظر مثلاً إلى القيصر الألماني، (فمع نهاية الحرب العالمية الأولى، ربما كان هذا الرجل أكثر الرجال تعرضًا للازدراء على وجه الأرض، بل إن أمته ثارت ضده عندما سافر إلى هولندا للنجاة بنفسه، وكانت الكراهية ضده شديدة للغاية؛ حتى إن هناك الملايين كانوا يودون لو قطعوه إربًا أو حرقوه.

ووسط هذه النيران المتأججة بالغضب، كتب طفل صغير رسالة إلى القيصر، وكانت رسالة بسيطة وصادقة، تتقد حبًّا وشفقة، وقال الطفل: إنه بغض النظر عن وجهة نظر الآخرين، فإنه سوف يظل يحب القيصر كإمبراطور له.

فما كان من القيصر إلا أن تأثر كثيرًا بهذا الخطاب، ودعا الطفل ليأتيه حتى يراه، وجاء الطفل ومعه أمه؛ فتزوجها القيصر، وعاش حياته مع هذا الطفل المشفق عليه وأمه) [كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ديل كارنيجي، ص(69)، بتصرف].

ما أبدلني الله خيرًا منها:
حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتاج إلى من يواسيه ويسانده، وكانت خديجة رضي الله عنها خير من تقوم بهذا العمل؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يومًا من الأيام فأخذتني الغيرة؛ فقلت: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟

فغضب، ثم قال: (لا والله، ما أخلف الله لي خيرًا منها، لقد آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء) [المنتظم في التاريخ، ابن الجوزي، (1/267)].

الحقيبتان والمشاعر المؤثرة:

إن مثل هذه المحبة الصادقة هي المفتاح السحري الذي يفتح لك مغاليق أي شخصية، حتى مع أشد الشخصيات جفافًا وقسوة؛ لأنها ببساطة تعطيه معنىً لحياته.

بل إن أشد الناس جفافًا؛ أسرع استجابة للعاطفة الحية من غيره؛ لأنه كالأرض الجافة متعطشة لأي قطرة من الماء؛ ولذا فقليل من ماء الحب تسقي به بذور الصداقة، سوف تثمر بإذن الله اتصالاً فعالاً، وعلاقات إنسانية متينة.

وإليك هذه القصة، فكان هناك شاب شديد القسوة مع والديه، شديد القسوة مع الناس، سافر هذا الشاب إلى بلدة أخرى للدراسة هناك، وفي هذه البلدة سكن في فندق صغير، حيث كان يسكن معه في نفس الفندق رجل عجوز وزوجته.

وكان هذا الشاب في البداية يعاملهم بقسوة شديدة وبجفاء، إلى أن مرض هذا الشاب في يوم من الأيام، وسهر الرجل العجوز وامرأته طوال الليل لرعاية الشاب.

فتعجب الشاب من ذلك، وأخذ يتساءل: لماذا هذه الرعاية؟! فهذا الرجل وهذه المرأة لا أهمهما في شيء؛ ومن هنا بدأ يتعلم الشاب معنى الحب، ومعنى المشاعر الحية، وأخذ يتغير شيئًا فشيئًا.

وفي يوم من الأيام مرض الرجل العجوز؛ فسهر الشاب على رعايته وخدمته، ولم ينم لحظة، وتغير الشاب تمامًا فصار همُّه خدمة الآخرين ورعايتهم، وفي النهاية انتهت دراسته، ووقف ليودع الرجل العجوز والمرأة العجوزة.

فسألاه: هل حزمت جميع أمتعتك؟ فقال لهما: نعم، لقد حزمت جميع حقائبي وأمتعتي، فقالا له: لكن هناك حقيبتان سيبقيان معنا، ولن تأخذهما أبدًا، فقال لهما: كيف لقد حزمت جميع حقائبي وهي معي؟ فقالا له: هاتان الحقيبتان هما حبنا لك، وحبك لنا.

شرط بشرط:
وقد يشكو البعض أن الآخرين لا يبادلونه هذه العاطفة، وأنه لا يجد منهم هذه المحبة الصادقة، ويبرر بذلك قسوته أو فتور علاقته معهم، ولكن علينا أن نسأل أنفسنا أولاً: هل قدمنا هذه المحبة الصادقة بكل صدق وإخلاص دون انتظار الأجر من الآخرين؟

نعم، فهو شرط بشرط، امنح قلبك للآخرين؛ يهدوا لك قلوبهم، ألقِ البذر؛ يخرج لك الزرع، اسقِ الزرع؛ يوهب لك الورد، فهذه قاعدة ذهبية صاغها لنا بات كارول بقوله: (الجميع ينسون هذا الأمر الأساسي؛ لن يحبك الآخرون إلا إذا أحببتهم) أفضل ما قيل في النجاح، كاثرين كارفيلاس، ص(101)]، فالقلوب كالأزهار؛ تتفتح وتزهو في ربيع العاطفة المشمسة الدافئة، وتتساقط وتذبل في خريف الرياح القاسية الباردة.

همسة في أذن المربين:
إنها همسة عمرها أكثر من 1400 عام، همسة من فم النبي ^ يرويها لنا أبو هريرة رضي الله عنه حين قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدًا قط، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (من لا يَرحم لا يُرحم) [رواه البخاري].

الأمر الذي جعل ثوبان رضي الله عنه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رسول الله، إنك أحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك؛ فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك) [تفسير ابن كثير، (2/354)].

فتأمل ما يشغل قلب هذا الصحابي! حتى بعد دخول الجنة، وفوزه بنعيمها، يشغله عدم رؤيته للرسول صلى الله عليه وسلم، إنها محبة قلبية عظيمة، وعاطفة صادقة جياشة.

فقسوة القلب وغلظته؛ سبب أكيد لبعد الناس عن الشخص ونفورهم منه، وهذا ما دفع الشيخ محمد الغزالي رحمه الله إلى أن يقول: (إن القسوة في خلق الإنسان دليل نقص كبير، وفي تاريخ الأمة دليل فساد خطير) [خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي، ص(210-211)].

كيف السبيل؟

وإليك، عزيزي الشاب، جملة من الوسائل البسيطة والسهلة؛ لتعبر عن مشاعرك تجاه الآخرين، وتذكر دائمًا قول جي آلان بيترسن: (الحب هو شيء تمارسه، وليس شيئًا تشعر به فحسب، فهو ممارسة نبدأها نحن، وسلوك نقوم به باختيارنا) [النجاح للمبتدئين، زيج زيجلر، ص(245)] ومن أهم تلك الوسائل ما يلي:

تخير أطايب الكلام:
عن عمر رضي الله عنه قال: (لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لقيت الله: لولا أن أضع جبهتي لله، أو أجلس في مجالس يُنتقى فيها طيب الكلام كما يُنتقى جيد التمر، أو أن أسير في سبيل الله) [حلية الأولياء، أبو نعيم، (1/26)].
فللكلمات والألفاظ أثر عظيم في النفس البشرية، والكلمة كالثمرة؛ كلما كانت أطيب زاد أثرها في ذوق متناولها، ولئن كان لكل لغة قاموس لكلماتها؛ فإن لغة العاطفة قد امتلأ قاموسها بالألفاظ والمصطلحات والجمل الغنية بالأحاسيس العميقة التأثير في نفوس مستمعيها.

فلنحرص على انتقاء أحلى الكلمات، وتقديمها للآخرين على طبق الصدق والوفاء، غذاءً لقلوبهم، وقوتًا لعاطفتهم؛ ومن أمثلة الكلمات ما يلي:
· يا حبيبي، يا صديقي العزيز، يا والدي الغالي.
· لقد اشتقت إلى رؤيتك كثيرًا، يعلم الله أن قلبي يحبك، أنت تسكن قلبي.
· الله يعلم أنك مهم في حياتي، أنت حبة فؤادي، تغيب عن عيني ولا تغيب عن قلبي.
· هذا ومن أشد الجمل تأثيرًا؛ أن تخبر الشخص أنك تحبه في الله؛ تنفيذًا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه) [صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (5124)]، فقولك للشخص: إني أحبك في الله؛ لها وقع السحر في نفسه، وتضاعف قوة علاقتك به في الحالة، وهذه وصفة مُجرَّبة مضمونة، دلَّنا عليها طبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولتحرص أخي الشاب على أن تكون كلمات صادقة من القلب، وموافقة لتعبيرات الجسد وحركات الجسم ونبرات الصوت، منضبطة بضابط الشرع، وكلام الرجل لزوجته وأمه وأخته ليس ككلامه مع إخوانه.

المصادر:
· حلية الأولياء، أبو نعيم.
· خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي.
· النجاح للمبتدئين، زيج زيجلر.
· تفسير ابن كثير.
· المنتظم في التاريخ، ابن الجوزي.
· كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ديل كارنيجي.
· أفضل ما قيل في النجاح، كاثرين كارفيلاس.

المصدر: مفكرة الإسلام

JoomShaper