محمد السيد عبد الرازق
يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا)[صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2344)]، فإن الله عز وجل رازق عبده وكافله في كل مراحل حياته.
فتأمل يوم أن كنا أجنة في بطون أمهاتنا، فأمدنا بغذاء ينطلق من الأم إلى جنينها، ثم خرج الجنين ليبكي؛ خشية أن ينقطع عنه رزقه، ولكن الله عز وجلكفاه من ثديي أمه ما يطلب من الطعام والشراب، ولما فُطم الطفل بكى؛ مخافة أن ينقطع عنه السبيل، فأمده الله عز وجل بطعام وشراب وخيرات من عنده.
فسبحان الله، كأنه سبحانه وتعالى يريد أن يقول للبـشر أن يكفوا عن التعلق بالأسباب، ونسيان مسببها، فيقول المولى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: ٥١].
فما أعظم ما يـضيء شموع السعادة، وهو ركون الواحد منا إلى مولاه، وتوكله على رازقه، واكتفاؤه بولاية ناصره ورعايته وحراسته سبحانه وتعالى؛ فكما يقول رب الأرض والسموات: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: ٦٢].
قصة متوكل على الله:
يحكى أن رجلًا ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب من تلك الدولة أن تمنحه جنسيتها؛ فأُغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة، واستفرغ جهده، وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل، وسُدت السبل.
ثم لقي عالمًا ورعًا فشكى إليه الحال، قال: عليك بالثلث الأخير من الليل، ادعُ مولاك؛ فكما يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ...)[صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2516)]، قال الرجل: فوالله لقد تركت الذهاب إلى الناس، وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني هذا العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه.
فما هو إلا بعد أيام، وتقدمت بمعروض عادي، ولم أجعل بيني وبينهم واسطة، فذهب هذا الخطاب، وما هو إلا أيام وفوجئت في بيتي، وإذ أني أدعى وأسلم الجنسية [لا تحزن، د.عائض القرني، ص(431-432)].
التوكل خلق الأنبياء:
فها هو موسى عليه السلام يعلمنا كيف يكون التوكل الحق على المولى عز وجل سبيلًا في نجاته هو ومن آمن معه، يوم أن أصبح فرعون وجنوده من خلف موسى وزمرته المؤمنة الموحدة، وصار اليم من أمامه، وما من سبب من أسباب الهرب، ولا سبيل من سبل النجاة، سوى رب العالمين، فكانت الصيحات {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: ٦١]، وكانت نفس المؤمن المتوكل على ربه تجيب عليهم قبل أن يجيب لسان موسى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: ٦٢].
ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه مثالًا للمتوكلين على الله، وذلك يوم الهجرة، يوم انحبست الأنفاس؛ (لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه)[السيرة النبوية، ابن كثير، (2/242)] كما قال الصديق رضي الله عنه، فجاءت الكلمات بردًا وسلامًا على قلب الصديق وقلوب أبناء هذه الأمة إلى يوم القيامة، فقال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما)[متفق عليه].
اعقلها وتوكل:
وحتى لا يظن البعض أن التوكل يعني عدم الأخذ بالأسباب نهائيًّا، باعتبار أن الأخذ بالأسباب منافيًا لحقيقة التوكل، فيأتي ابن عطاء السكندري رحمه الله ليضع النقاط على الحروف، ويرد الأمور إلى نصابها الصحيح، فيقول: (إن التسبب لا ينافي التوكل)[إدارة الذات، د.أكرم رضا، ص(116)]، أي أن الأخذ بأسباب النجاح في الحياة لا ينافي أبدًا كونك متوكلًا على الله.
وهنا نفهم موقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؛ فبعدما أخذ بكل الأسباب في تجهيز الجيش، جأر إلى ربه يستنصره ويدعوه، ويقول: (‏اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني‏)[حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (3081)]، (حتى إذا حَمِىَ الوَطِيسُ، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال‏:‏ (‏اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبدًا)‏‏،‏ وبالغ في الابتهال؛ حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال‏:‏ (حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك‏)[الرحيق المختوم، صفي الدين المباركفوري، ص(174)].
وأتى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل)[صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2517)]، ليزيل هذا اللبس نهائيًّا، وقصة الحديث أن رجلًا جعل راحلته على باب المسجد دون أن يربطها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال للرجل أن يأخذ بالأسباب (ربط الناقة)، ثم يتوكل على الله عز وجل.
عاقبة التوكل على الله:
حينما تتوكل النفس المؤمنة على الله أخي الشاب، يأتيها الخير من كل مكان، فها هي قصة واقعية تقطر بالتوكل على الله، وبأن الله عز وجل لا ينسى خلقه، وحاشاه أن ينسى، وهو الذي قال {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة: ٢٥٥]، قصة تحكي عن شخص سُجن ظلمًا، فلندع له المجال ليروي قصته، ويحكي حكايته.
(دخلت السجن وزوجتي معها طفلين، أحدهما رضيع ولا يوجد في البيت إلا خمسون قرشًا، وحرارة الطفل الرضيع أربعين درجة، وحين دخلت السجن كنت أقول لماذا فعلت بي هذا يا رب؟! لقد كنت منهارًا، لم يعد يوجد عندي توكل، وبعد أن خرجت أصبحت متوكلًا على الله، فلا يهمني ما يحصل بعد ذلك)، فما الذي غير موقف صاحبنا؟!
يقول: (في الليلة التي سُجنت فيها، وفي الساعة الواحدة والنصف وجدت زوجتي أن الباب يُقرع، وإذا برجل يقول: أنا الطبيب، أين المريض؟! فذهلت، ودخل الرجل ففحص الطفل وأعطاه حقنة، وقال لها: سيكون الولد بخير، فقالت له: من أتى بك إلى هنا؟ فقال: أليست هذه الشقة الخامسة والعشرين؟ فقالت: لا إنها الشقة الخامسة عشر)[إصلاح القلوب، عمرو خالد، ص(149)، بتصرف].
فسبحان الله، من الذي أمرض شخصًا في الشقة الخامسة والعشرين، وجعل الطبيب يخطأ في رقم الشقة؟! وهنا لا يملك لسان المرء منا إلا أن يتفوه بغير إرادة منه قائلًا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: ٥٨].
كيف السبيل إلى التوكل؟
ولكن السؤال الأهم كيف يمكن للمرء أن يستشعر حقيقة التوكل؟ وتأتي الإجابة في قول حاتم الأصم، حين سأله رجل: (علام بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟)، قال: (على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه)[صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/447)].
ماذا بعد الكلام؟
اعلم أخي الشاب أن التوكل على الله تعالى هو سبيل نجاحك في هذه الحياة الدنيا، فإذا أردت أن تتفوق في دراستك فعليك بالتوكل، وإذا كنت تطمح في الحصول على وظيفة جيدة فعليك بالتوكل، وإذا كنت تريد أن تحقق النجاحات في الحياة فعليك بالتوكل، وفيما يلي بعض الوسائل العملية التي تعينك على التوكل على الله:
1.    الدعاء:
ونعني بها يدين مرفوعتين لله بالدعاء، وقلب خاشع لله تعالى، ونفس تستشعر فقرها واحتياجها لتوفيق الله تعالى؛ فالدعاء هو العبادة كما يقول صلى الله عليه وسلم[صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (1479)].
2.    التوكل على الله:
توكل صادق على الله، فلن يكفيك الأخذ بالأسباب وتحديد الأهداف، فعليك فقط البداية ومنه التمام إن شاء الله.
3.    تجنب معصية الله:
فلما شكا الإمام الشافعي لشيخه وكيع ضعف حفظه؛ فأجابه إجابة رائعة سطرها لنا الإمام الشافعي بنفسه أبياتًا عظيمة بقوله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظـي                فأرشدني إلى تـــرك المعاصـــي
وأخبرني بـأن العلم نـــور                 ونور الله لا يؤتـــاه عاصــــي
المصادر:
·إدارة الذات، د.أكرم رضا.
·الرحيق المختوم، صفي الدين المباركفوري.
·لا تحزن، د.عائض القرني.

JoomShaper