تفخر كل أمة بمنجزاتها، وأعظم المنجزات التي تفاخر بها الدول هي التنمية البشرية وتحقيق معدلات رفاهية أكثر لمواطنيها، وإذا كانت التنمية البشرية مقياساً للتفاخر والتباهي فإن تراجعها أو انحرافها عن مسارها يعتبر كارثة تنذر بنهايات محزنة على مستوى الأفراد والدول. خصوصاً إذا أدركنا أن عدد السكان في تزايد، والخدمات التي تقدم لا تواكب هذا النمو، مما يولد فجوة بين الحاجات المطلوبة والخدمات المتاحة، وبالذات في مجال التوظيف وتوفير مصادر الدخل الكريم.
وبنظرة سريعة على عدد من الإحصائيات يمكن التنبؤ ببعض نذر الكوارث المقبلة على العالم العربي – على وجه الخصوص – حيث تشير الإحصائيات إلى أن عدد سكان العالم العربي يفوق 367 مليوناً يمثل الشباب دون سن 25 ما نسبته 70% وهم الأكثر تعليماً، ولديهم من الخبرات العلمية والعملية ووسائل التواصل مالم يتح للأجيال من قبلهم.
فعلى سبيل المثال يبلغ عدد مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) في العالم العربي 40 مليوناً وبنسبة نمو سنوية تقدر بـ 50% مما يبين وجود قنوات تواصل بينهم وبين العالم الخارجي تتيح لهم نقل الأفكار واستلهام التجارب، ويفوق عدد مستخدمي برنامج (تويتر) الـ 50مليوناً والعدد في ازدياد مستمر يفوق مستخدمي (فيس بوك)، وأصبحت هذه المواقع وقنوات التواصل الاجتماعي أشبه بالمحرك الخفي لسلوك الشباب، والموجه غير المباشر لعقولهم، وتساهم في تشكيل رأي عام وتحركات جمعية عفوية أو قصدية قد يستغلها أشخاص أو منظمات لتمرير أجندات وإحداث تغييرات غير منضبطة، أو تسبب شوشرة وقلقاً على الحكومات والأنظمة.
وليس النمو السكاني وارتفاع معدلات الشباب مشكلة كما يصور بعض المثبطين، فقد أوضح تقرير أعده المعهد العربي للتخطيط أن "ارتفاع معدّل نمو القوة العاملة أكثر من معدل نمو السكان" يعتبر "هبة" بما يعني أن الدول العربية لديها قوة عمل متزايدة، تستطيع إعالة السكان وتوفر للاقتصاد القوة العاملة الرخيصة لتحريك عملية التنمية، ولكن الملاحظ أن هناك ارتفاعاً في معدل البطالة بنسبة 1 % سنويا تنجم عنه خسارة في الناتج الإجمالي المحلي العربي بمعدل 2.5 % أي نحو 115 مليار دولار.
وهي كافية لإحداث تغيير اجتماعي وتنموي جيد، لو وجهت وجهة صحيحة وهي بالمقابل قنبلة موقوتة توشك على الانفجار، وكانت القمّة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية لجامعة الدول العربية، التي انعقدت في شرم الشيخ العام الماضي وثورة الشعب في تونس على أشدّها، أكّدت – وإن كانت متأخرة - أن البطالة مشكلة مشتركة وظاهرة باتت بحاجة ماسة إلى تعاون عربي فعّال لتجنب آثاره السلبية على التنمية الاقتصادية والسلم الاجتماعي والأمن في الوطن العربي، الذي يسجّل أعلى وأسوأ معدّلات البطالة في العالم. مع أنه يملك ثروات هائلة ومصادر طبيعية هامة ومتجددة.
فهل تعي الحكومات والأنظمة العربية التي طالها الربيع العربي أو تلك التي لم يطلها، أنها تمتلك ثروات بشرية هائلة، قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد، ودفع عربة التنمية باستقلالية تامة، بعيداً عن الحاجة للقوى الأجنبية والمنظمات الدولية التي تفرض شروطاً مذلة للشعوب. فتحاول هذه الدول أن تتصالح مع شبابها، وتوجِّه تحركاتها بطريقة استباقية تضمن امتصاص طاقات الشباب وتوجهها التوجيه السليم لخدمة المجتمع، وتوفير الخدمات الملائمة، أم تنتظر أن يتحرك الشباب فتصبح تلك الحكومات والأنظمة تابعة بعد أن كانت قائدة؟
وإذا كان الحديث عن التنمية والخدمات المادية يستهوي عامة الناس ويستطيعون قياسه بطريقة مباشرة، فإن الأهم هو التنمية القيمية وترسيخ هوية المجتمع التي باتت مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي تنخر فيها بطريقة لا يمكن قياسها بسهولة، مما يوجب اهتماماً بها يفوق الاهتمام بالخدمات المادية، فتنمية القيم وترسيخ الهوية الإسلامية للمجتمع كفيلة بإذن الله بتوجيه الشباب التوجيه السليم، حتى ولو ضعفت الخدمات المادية، وما كثرة حوادث الانتحار في العالم العربي وتنامي هذه الظاهرة في المجتمعات المسلمة في صفوف الشباب إلا لاجتماع تردي الخدمات المادية وضعف التنمية القيمية، وهي مرشحة للزيادة إذا استمر الانحدار القيمي في المجتمع، وقد يكون منزلقاً تعجز المجتمعات عن استدراكه أو تحمّل تبعاته.