أيها الفتى
ما هذا اللهو واللغو ، والفرح والمرح ؟ ! تميل كالغصن مع الهوى . وأنت ريَّان من ماء الشباب والصبا . ولكنك لا تجد على نار الحوادث هدى . أتحسب أنك خُلقت عبثًا . أو أنك تترك سدى ؟ ! كلا ، إن أمامك خطوبًا فادحة . ونصالاً جارحة.
وأثقالاً بَيْتية ووطنية . تنوء بالعصبة أولي القوة ، ولكن سُكر الشباب يفعل ما لا يفعله سكر الأكواب . فهو الذي جعل في أذنيك وقرًا وعلى عينيك غشاوة .
وران على قلبك ما تعمل من السيئات . وتجترح من الخطيئات . تصور أن هذه الفتاة الهيفاء والغادة الحسناء التي تغازلها وتناغيها . وتسايرها وتجاريها – ستكون ربة بيتك . ومربية ولدك . ومالكة زمام أمورك ، سعادتك بيدها . وراحتك في راحتها . وشرفك بشرفها . ومستقبل ذريتك بآدابها ومعارفها . أفتحسب أن هذه الغر التي تميل مع كل ريح . وتلين لكل صبيح أهل لما يُطلب منها . وكفؤ لما يناط بها ؟ ! أفتحسب أنها – بعد أن تتشرف بالاقتران بك تتغير طباعها . وتنقلب أوضاعها . وتتبدل صفاتها . وتستحيل ملكاتها . أم ترضى بها قرينة على ما تشاهد من علاَّتها . وتعلم من هفواتها وسيئاتها ؟ ! كلا ، إنك سادر[1] في غفلتك ، ملتخ [2] في سكرتك، لا تفكر في أنك تجني على نفسك ، وعلى جميع أبناء جنسك بإفساد آداب الفتيات
بتعرُّضك لهن حتى في الطرقات . وستذوق مرارتها في بيتك . إن لم تقلع عنها من وقتك ( دقة بدقة ، ولو زدنا لزاد السَّقَّا ) [3] .

أيتها الفتاة
لقد طوى الزمان الذي كان قدرك فيه مجهولاً . وجنسك اللطيف عند أهله مفضولاً أو مرذولاً . وجاء زمان تنبه فيه الفضلاء والعظماء لما للمرأة من الشأن الكبير في الارتقاء . وأنتِ مستقبلة عصر الكمال . الذي فيه يظهر سر قول النبي :
( النساء شقائق الرجال ) ولكن من سماء عقلك يُشرق بدره . ومن بين ثناياك اللامعة يتنفس فجره ؛ لأن والدتك – وأعيذك بفضلك – جاهلة . وعن مقامها في المجتمع
الإنساني غافلة . فاعذريها على جهلها . ولا ترضي بأن تكوني مثلها . أتدرين – يا سيدتي – بماذا يرتفع قدرك في هذا الزمن . وتكونين عقد زينة في جيد الوطن ؟ !
إذا سألت عمتك ( الست هانم ) عن هذا السؤال ، تقول لك : إن الذي يرفع المقدار ، ويستلفت الأنظار إنما هو تجعيد الطرة وعقص الذوائب . وكحل العيون وتزجيج الحواجب . وحسن الالتفات والتثني . وأساليب الدلال والتجني . واللطف في الإشارة . والظرف في العبارة . وإن خفة الحركات هي زينة البنات . وما وراء ذلك إلا الثياب الحريرية . والحلية الذهبية والجوهرية . ولكن عمتك غالطة كالسيدة الوالدة ؛ فإن هذه الأمور هي التي أضرت بالوطن من قبل ؛ لأن المرأة التي تجعل همها في هذه الأمور ، وتحسب أنها كالرياحين والزهور – ما خُلقت إلا نزهة للناس.
وزينة للحواس . يدل حسبانها هذا على أنها رضيت بما دون رتبة الحيوان . ( أي :حيث رضيت أن تكون قيمتها قيمة الزهر وهو من النبات والحيوان أشرف منه ) ، فكيف يقبل حكمها في رفعة شأن الأوطان . وهي من خصائص الكاملين من نوع الإنسان ؟ !

ولكن إذا سألت ( المدام ) فلانة أو تربك ( المدموازيل ) عن هذا السؤال نفسه تسمعين جوابًا عجيبًا ؛ لأنها تقول لك : إن قدر الفتاة إنما يكون رفيعًا بعلومها وآدابها وفضائلها ، وباستعدادها لمساعدة الرجل على إسعاد منزله وأهله وإسعاد وطنه وأمته ، فإذا كانت غير متخلقة بالأخلاق الفاضلة كيف يمكنها أن تغرس فَسِيل الفضائل في نفوس أبناء الوطن الذين يعهد إليها بتربيتهم من يوم يوجدون بحكم الطبيعة والشريعة معًا ؟ وإذا كانت لا تعرف قيمة العلوم والفنون والآداب التي تسعد بها البلاد فهل يخطر في بالها أن ترغِّب أولادها في ذلك وتسلك بهم في هذه المسالك ؟ ! بل ربما قالت لك حضرة المدموازيل : إن الفتاة كالفتى ، والمرأة كالرجل والوطن يطالبهما بحقوقه مطالبة واحدة ؛ فيجب أن ترشح الفتاة نفسها لأي عمل من الأعمال العظيمة النافعة التي يقوم بها الرجال حتى الأعمال الحربية والسياسية . لكن هذا الأخير إفراط عظيم يقابله ما ترين عندنا من التفريط والإهمال . والصواب أن البيت مثال المملكة الجمهورية ؛ فالرجل هو الرئيس وناظر الخارجية ( أي : ما هو خارج البيت ) ووظيفة المرأة نظارة الداخلية . والممالك العظيمة إنما تتألف من هذه البيوت ، فمتى كانت الحياة فيها سعيدة سعدت بذلك المملكة كلها .

هذه إشارة لطيفة إلى مقامك السامي – أيتها الفتاة – وأفضل ما تستعدين له هو تربية الأولاد ، بل هو أفضل الأعمال كلها ، والاستعداد له إنما يكون بمعرفة عقائد الدين الصحيحة والتخلق بأخلاقه الفاضلة والتأدب بآدابه الكاملة ثم معرفة مبادئ  الفنون لا سيما حفظ الصحة وتدبير المنزل والحساب والتاريخ ، فإذا التفت إلى هذه الأشياء ووفيتها حقها من العناية ؛ عرف لك الوطن العزيز حقك ، ورقاك فضلاؤه إلى الأوج الذي تستحقين ولا يغرنك هؤلاء الشبان الأغرار الذين يختالون في الشوارع والمهايع ويرمون بأبصارهم إلى الكُوَى والنوافذ يفتنون الفتيات الغافلات ، ويستهوون السيدات المصونات . فليس تحت طرابيشهم المائلة إلا أحلام ( عقول ) سفهة وأخلاق سافلة . وسيذهب فساد طباعهم وقبح أعمالهم . بما بقي لهم من دثورهم وأموالهم . فويل لمَن اتصل بهم وقرب منهم ، وهنيئًا لمَن إذا عرفهم قلاهم وبعُد عنهم .

****

محمد رشيد رضا
________________________
(1) السادر : المتحير والذي لا يبالي بما صنع ؛ ومن معانيه الذاهب عن الشيء ترفُّعًا عنه ، والسادر
ثوبه ؛ أي : السادل له .
(2) يقال : سكران ملتخ ؛ أي : طافح مختلط لا يفهم شيئًا لاختلاط عقله .
(3) يُحكى أن شيخًا عفيفًا صادف في الطريق امرأة فقبَّلت يده ، فغمزها بيدها الناعمة ، ولما بلغ منزله
وجد السَّقَّاء يغمز يد امرأته ؛ فقاله ، فسار مثلاً .

JoomShaper