رانية طه الودية
يُعد التوحد أحد الاضطرابات النمائية التي تصيب الأطفال في سن مبكر، ويظهر بصورة حادة على الطفل خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره؛ نتيجة اضطراب عصبي يؤثر على الأداء الوظيفي للمخ في مجال الحياة الاجتماعية ومهارات الحياة والتواصل مع الآخرين، ويصيب الذكور من الأطفال أكثر من الإناث.
ورغم اختلاف درجة التوحد من طفل لآخر، إلا أن المشكلة الأساسية في الطفل التوحدي تتمحور حول التواصل، ومنها تتفرع المشكلات الأخرى، ومنها أيضاً تبدأ رحلة علاجه. لكن إذا ما تأخر علاجها، فإنها تؤثر على النواحي الأخرى للطفل كالفهم والإدراك واللغة.
ويمكن إيجاز أعراض التوحد في ثلاثة محاور رئيسة: أهمها: مشكلات في التواصل والتفاعل الاجتماعي بين الطفل وأسرته والمجتمع، بالإضافة إلى مشكلات في السلوك وأخرى في اللغة.
إن الأطفال التوحديين يتسمون بسلوكيات ذات طابع متشابه، من حيث النمطية والتكرار الشديد لسلوكيات معينة غير هادفة في محتواها كالرفرفة باليد، أو تكرار مقطع صوتي معين أو تكرار كلمات، وكذلك الدوران لفترات طويلة، واللعب بطريقة سطحية تفتقر إلى الخصائص الأساسية للعب. فهي مجردة من الخيال الذي عادة ما يعطيه الطفل الطبيعي للألعاب من حوله، فيتخيل ما يلعب به وكانه

حقيقة. فيلعب بالسيارة ويقودها وهو يتخيلها تسير في طريق مزدحم مثلاً، أو يلعب بما يرمز به للسيارة ويتخيلها سيارة.
بينما الطفل التوحدي لا يدرك الأمور على هذا المنحى، فهو يرى جانباً من الأشياء، ولا يرى الصورة والحدث بشكله الكامل، فهو يركز على التفاصيل في الصورة والألعاب وما حوله، فنجده يأخذ لعبته ليلعب بجزء منها بشكل متكرر. ولا يلهو بها بشكل اعتيادي كباقي الأطفال، بل يهتم ويستمتع بتكرار تحريك عجلات السيارة مثلاً ولعدة ساعات دون ملل أو توقف، وقد يكرر النقر على غطاء معدني ليستمع للرنين بشكل متكرر وبالوتيرة نفسها، ويصاب بنوبات غضب عارمة عند تغيير روتينه المعتاد وما يقوم به. كما أنه ينحى للعب التنظيمي، فيميل الطفل التوحدي إلى صف الأشياء والألعاب في صفوف منتظمة.
وعادة ما يقاوم الطفل التوحدي أي تغيير، فهو شديد التمسك بالروتين بدرجة مرضية، فيصر على أن يتم عمل بعض الأشياء أو اللعب بالألعاب بالأسلوب نفسه في كل مرة . ولا يقتصر ذلك على اللعب والعمل، بل قد يشمل تناول بعض الأطعمة بصورة متكررة والاقتصار على أصناف قليلة دون غيرها.
بالإضافة إلى افتقاره للتفاعل الاجتماعي، والتي هي من أبرز السمات التي يتصف بها الطفل التوحدي، ولأنه يرفض التفاعل والتعامل مع أسرته والمجتمع، فيبدو وكأنه يعاني من مشكلة في السمع. بينما هو في الغالب سليم السمع؛ لكنه يتجاهل كل من حوله، ويتجاهل النداء عليه أو أي أصوات لا تهمه حتى لو كانت مرتفعة، بينما قد يستجيب وينجذب لبعض الأصوات حتى وإن كانت خافتة، لكنها تهمه كصوت كيس الحلوى المفضلة لديه مثلاً؛ لأن تفكير الطفل التوحدي يمتاز بالتركيز على حاجاته ورغباته بعيداً عن الواقعية. وتمثل مشكلة التواصل ـ خاصة ـ معاناة كبيرة لأسرته من حيث صعوبة إيصال المعلومات أو القيام بأي حوار معه.
وكذلك تُعد اضطرابات اللغة لديه مشكلة جوهرية، فهو لا يمتلك القدرة على تبادل الأفكار والآراء أو المعلومات عن طريق الكلام أو الكتابة أو الإشارات، بالإضافة إلى أنه لا يدرك معنى للكلمات غير أنها أصوات، وعند الحديث معه يعمل على تكرار بعض الكلمات أو أواخرها بشكل آلي دون فهم، مع فقدان واضح للتواصل البصري والتعاطف الاجتماعي لمن حوله، فيرفض أن يضمه حتى والداه وينزعج من ذلك.
وقد يكون نمو الطفل طبيعياً في الأشهر الأولى، ويبدأ كالأطفال الأسوياء بنطق بعض الكلمات والتدرج بزيادة حصيلته اللغوية، لكنه مع مرور الوقت وفي خلال الثلاث سنوات الأولى تبدأ تتدهور حصيلته اللغوية، بدلاً من أن تزداد، ويظهر عليه تغير ملحوظ لا في اللغة فقط، بل في تجنبه التواصل مع أسرته ومن حوله. وتظهر عليه حركات نمطية متكررة وغريبة تُحير الوالدان. وقد يولد الطفل ويبدو عليه أنه طفل مختلف عن باقي الأطفال، فلا يبدي إحساساً بالجوع ولا يصرخ، أو أنه يعمد للصراخ المستمر المتواصل دون سبب وتدريجياً، وتظهر علامات التوحد بشكل واضح ما بين العام الثاني إلى الخامس.
ونظراً لاختلاف شدة التوحد من طفل لآخر، وتنوع الأعراض وشخصيات الأطفال فإننا نلحظ اختلافاً بيناً في الأطفال من هذه الفئة، بالإضافة إلى اختلاف مستوى الذكاء لكل طفل منهم، فالبعض قد يبدون قدرات خاصة في بعض المهارات، كالمهارة الحسابية العالية، أو مهارة فنية في الرسم أو مهارة حفظ عالية وخارقة. لكنه لا يعدو عن كونه حفظاً يفتقر لفهم المعنى منه.
ويمثل التنوع الأكبر في فئة أطفال التوحد: بأن فئة منهم لديهم شعور بالخوف من أشياء كثيرة غير مخيفة، ولكن بعضهم الآخر لا يبدي خوفاً من المخاطر، ومن الممكن أن يتسبب في إيذاء ذاته.
ولا شك أن الأسرة التي تحوي طفلا من هذه الفئة، تكون على قدر كبير من المعاناة، وتحتاج للصبر، منذ شعورهم باختلاف طفلهم عن باقي الأطفال، وبدء رحلة البحث عن السبب، وتستمر حتى يتعلموا دورهم في تدريب الطفل في البيت، بالتعاون مع المؤسسات الخاصة بعلاجهم وتدريبهم. فكلما كان التشخيص مبكراً، كان الطفل مآله أفضل. فالعلاج المقدم له يساعد في تنمية مهارات التواصل لديه، والمهارات الحياتية التي تساعده على الاعتماد على نفسه والاستقلال قدر المستطاع؛ مما يساهم في تخفيف بعض الأعباء عن أسرته.

JoomShaper