محمد رضا
لا أعتقد أن خيال أطفالنا يستطيع أن يجاري ما يظهر على شاشات السينما أو الإلكترونيات أو في أي وسيط حديث آخر.
هل يستطيع الأطفال والأولاد الصغار ابتكار شخصيات وأحداث خيالية تتجاوز ما ينهمر على الرأس من أفلام في هذا المجال؟ هل يستطيعون مضاهاة المنجز بحكايات وأفكار غير مطروقة؟
كان ذلك ممكناً ومتاحاً وممارساً أيضاً في زمن ولّـى. دراسة سويدية نشرت قبل عقدين تحدّثت عن أن الأطفال، في عمومهم، نوابغ تنتظر بلورة ما لديها من مواهب. قالت إن خيال ابن السابعة وما فوق يسبقه فيبدأ بابتكار الحكايات والتفكير في مواقف والانحياز إلى ما يعتبره بطولات.
هناك من يبدأ الرسم وهناك من يبدأ الاهتمام بالموسيقى وآخرون بالتمثيل أو الغناء. كل هذه مكنونات نفسية ذاتية يطلقها الأولاد أتيحت لهم الفرصة إلى ذلك أو لم تتح.
دراسة أخرى من الفترة ذاتها ذكرت أن الأطفال الذين يعانون من مسائل لا تثير عادة اهتمام الكبار، كالوحدة من دون إخوة أو أصدقاء، أو من افتراق وانفصال الأبوين، يبلورون الرغبة الأقوى في ممارسة هواية فنية راقية تعوض عن ذلك الشعور بالحرمان. وهذا التعويض بمثابة رد الفعل على ما يجعل الطفل منطوياً أو منفرداً، وفي سبيل تجاوز هذه المرحلة، وعلى نحو تلقائي غير مخطط له، يأتي ببدائل في عالمه الصغير يستثمر فيه مخيّـلته.
دراسات اليوم تؤكد ما سبق وبعضها يقارن بين أطفال السبعينات أو الثمانينات وبين أطفال اليوم. كيف أن استخدام المخيلة ما عاد متوفراً وبالتالي فإن أي نتاج صحي لذلك بات محدوداً للغاية.
راقبت طفلاً في السادسة أخذ يصرخ عندما وصلت والدته إلى نقطة التفتيش الإلكتروني في أحد المطارات. لم يكن يخشى المرور بجهاز الكشف ولا أخافه رجل الأمن، بل كان يرفض التخلي عن هاتف أتصور أن أحد والديه اشتراه له فبات بمثابة اللعبة التي لا يود فراقها. كان صراخه شنيعاً كما لو أنه تحت رحمة طبيب أسنان يريد قلع أضراسه كلها من دون تخدير. فكرت في أن أولياء الأمور أبعد من التفكير في عواقب دفع أولادهم، في مثل هذا السن المبكرة، صوب الإلكترونيات؛ لأنه إذا ما كانت الإلكترونيات اليوم مسؤولة عن نبذ المعرفة الحقيقية وعن ضمور العقول المثقفة وعن رفض المطالعة ومسؤولة عن أن التواصل بين الناس بات نقرة على «اللايك»، فكيف يكون حال الصغار؟
في الحقيقة، لماذا التعب والجهد والمال الذي تنوي الحكومات صرفه لوضع بعض مرافق الحياة في أيدي الروبوتات إذا ما كان مثل هؤلاء الأولاد سيكونون جاهزين للعب الدور مع بلوغهم سن الرشد؟ هل تعتقد يا عزيزي القارئ أن شباب الغد سيكون مؤهلاً للتعاطي مع مشاكلهم بمشاعر إنسانية وبفهم وبمدارك أخلاقية وهم قد أحيطوا بحواجز جاهزة تفصلهم عن الآخرين بالمستحدثات الإلكترونية؟ هل سيحسنون التواصل وهم الآن في جزر الذات؟
وعوض إشغال المخيلة صوب الكتابة أو صوغ ثقافة أو فن ما، ها هي سينما المؤثرات والأنيميشن الدجيتال توفر لهم كل ما يريدون فتسحب منهم آخر سلاح ممكن لمواجهة المستقبل على أسس متوازنة. ابن اليوم، دون الثالثة عشرة، ليس لديه بديل من داخله يواجه فيه هذا الركام من المنجزات التقنية. ومسؤولية الكبار العمل على خلق التوازن المطلوب في حياة الأولاد لحمايتهم من التحوّل إما إلى التطرّف كرد فعل وإما إلى الانفلات من عقال الإنسانية في المقابل.