في طفولتي عانيت مما اصطلح اليوم على تسميته “التنمر” بشكل كبير. والتنمر، لمن لا يعرفه هو تحرش واعتداء ومضايقة الأولاد لبعضهم في المدارس والنوادي والتجمعات، أو بمعنى أوضح هو نوع من “الفتوة” واستعراض القوة لبعض الأطفال على زملائهم.
تعرضت لهذا النوع من التحرش والاعتداء عندما كنت في المدرسة الابتدائية، من اطفال يكبرونني ببضع سنوات، وأذكر أن أحدهم كان يعترضني باستمرار ويفتك أقلامي وكتبي ويعتدي عليّ بالضرب، وهو ما جعلني أتردد في الذهاب إلى المدرسة بمفردي، فكانت أختي الأكبر مني ترافقني أحيانا، وفي أحيان أخرى أترك لمصيري المخيف، فكنت أمشي باتجاه المدرسة وقلبي
يرجف من الخوف ورجلاي تكادان لا تحملانني.
انعكاسات هذا الاعتداء المبكر عليّ لا تزال ترافقني إلى يومنا هذا، ففي ظل خوفي من هذا الطفل، ألهمني عقلي الطفولي فكرة أن أوقعه في حبي لأتفادى اعتداءه المتكرر، وهو ما حصل بالفعل. انتهت الكراهية وحل محلها الحب، واختفى العنف والاعتداء لتحل محلهما الرقة والوداعة.
المؤسف في هذه القصة التي قد تبدو ناجحة إلى حد ما ونجاحها يحسب إليّ، هو أنني عانيت لاحقا ولسنوات طويلة من التباسات وتركيبات وانفعالات معقدة جدا في علاقاتي العاطفية، فمن جهة أحببت الرجل للينه ولطفه ورعايته لي واعتنائه بي، لكنني أحببت أيضا، وبالأخص، الرجل القوي المسيطر الذي يخضعني لإرادته، ويجعلني أخشاه على نحو ما. حولتني هذه التجربة أيضا إلى ما يشبه العدوة الدائمة، الصديقة الدائمة للرجل. أحبه وأكرهه بنفس القدر وفي نفس الآن، في معادلة قوية ومراوحة مستمرة بين المتناقضات، إذا اختل جزء منها اختلت بكاملها.
ورغم كل هذه التعقيدات والانفعالات المتداخلة، إلا أنني كنت محظوظة نوعا ما، بقدرتي على تلمس الأسباب، والوعي بها، ومعالجتها لاحقا.
مصطلح “التنمر” ظهر في السنوات الأخيرة كترجمة حرفية واجتهاد من العاملين في منظمات التربية ورعاية الأطفال للظاهرة التي بدأ الوعي بها ينتشر مؤخرا داخل المدارس والجامعات العربية إثر انتشارها في الغرب ووقوع حوادث انتحار متكررة.
غير أنني لا أجده مصطلحا دقيقا للغاية، وأرجو أن توجد مراكز رعاية الطفل ووزارات التعليم مصطلحا أقرب لتشخيص الظاهرة وتحديد أبعادها وانعكاساتها على التلاميذ. فالتنمر كلمة مشتقة من “نمر” أي أن المتنمر يتخذ لنفسه صفة وهيئة النمر ليهاجم أصدقاءه وزملاءه، والحقيقة أن هذا المصطلح يحتوي على نوع من “الإيجابية” والتميز غير الجديرين بالظاهرة السلوكية، إذ لا يجوز أن نصف معتدا بأنه نمر، ما قد يحيلنا بشكل أو بآخر إلى الأسد، سيد الغابة وملك الوحوش!
ورغم أن مناقشة التسمية في حد ذاتها قد تبدو نوعا من الترف في ظل الجهل بمحتوى الظاهرة وخطورتها، إلا أنني أرى شخصيا، أن التوعية بهذه الظاهرة السلبية المنتشرة بشكل واسع تبدأ من تسميتها التسمية الصحيحة القادرة على عكس جوانبها السلبية وخطورتها على أبنائنا.
أشكال التنمر وتمظهراته كثيرة منها الاعتداء اللفظي والسخرية من المظهر أو الملبس أو طريقة المشي أو الكلام، والتحرش الجسدي، والاعتداء بالعنف والإساءة النفسية، وتعمد الإهانة والتحقير المتكررين وغيرها، وهي ظواهر منتشرة بكثرة، كما نعرف، في مدارسنا وجامعاتنا وداخل النوادي التي يرتادها الأطفال، غير أن الوعي والتوعية بها لا يزالان في مراحل متأخرة.
“التنمر” ليس مجرد ظاهرة سلبية منتشرة بين الاطفال، هو أكثر من ذلك بكثير، وانعكاساته تستمر مدى الحياة، ومعالجته ليست عملية سهلة تترك للأطفال والآباء أو لطرف بعينه، بل يجب أن تشترك كل الجهات والأطراف في تشخيصه، وتسميته، وتحديد أبعاده وانعكاساته ومخاطره ووضع خطط واضحة لمعالجته. وهي مهمة مشتركة بين مؤسسات الدولة والتربية والتعليم وبين الآباء ومراكز الرعاية والتوعية الصحية والنفسية.
لمياء المقدم