في عالم معقد وأكثر تشابكا عن ذي قبل، باتت الأوقات التي نقضيها بصحبة أطفالنا قليلة للغاية، وتضيق المساحة الزمنية أكثر في ظل انشغال الوالدين بهواتفهم المحمولة الذكية واستبدالها بكافة الأنشطة التفاعلية مع الأبناء، كبيرهم وصغيرهم.
أتذكر بسعادة بالغة الأوقات الرائعة التي كانت أمي تحرص على قضائها معنا، تلاعبنا ألعابا بسيطة، ممتعة ومسلية، تخصص يوما في الأسبوع للخروج والتنزه في الحدائق العامة، أو اصطحابنا لزيارة الأهل والأصدقاء.
نلعب بأوراق اللعب (الكوتشينة) أو يلعب أخواي مع أبي لعبته المفضلة الشطرنج، والطاولة، كان أخي يضحك بصوت عالٍ وأبي يقول جملته المنهية للعبة، مات الملك.
يحركان العساكر والجنود والوزير بتنافسية سعيدة محببة، كلمة “كش ملك” لا تعني غضب أخي، رغم صغر سنه، لكنها تعني صوت الفرح في بيتنا، قراءة أختي المتلعثمة للجريدة أو حفظها لإحدى قصار سور القرآن الكريم، تحرك قلب والداي بسعادة غامرة. وعدهما بهدية نجاح ثمينة يدفعنا للاجتهاد في المذاكرة، يعرفان أدق تفاصيل حياتنا، يتشاركان معنا الأحلام ويتقاسمان الحب والصداقة، يعرفان أصدقاءنا جيدا حتى عائلات هؤلاء الأصدقاء، لا تخفى عليهما خافية.
باعتقادي إن هذه السلوكات هي أهم أسس الأسر السوية والتي يجب أن تكون. لا تلك التي ينشغل فيها الآباء عن أبنائهم طوال الوقت لوا يدريان شيئا عن حيواتهم، كلٌّ في عالمه الخاص، خاصة في ظل الانغماس في عوالم افتراضية باهتة.
كشفت إحدى حلقات برامج الأطفال المصرية والتي تعمل بشكل كوميدي على استضافة أحد الوالدين بصحبة الطفل وسؤال كلٍّ منهما على حدة عن هوايات وصفات الآخر، عن هوة عميقة في ما يتعلق بمدى وعي الأبوين بتفاصيل أبنائهم الحياتية البسيطة ومواهبهم ورغباتهم في ما يتعلق بالخطط المستقبلية، حتى أن بعض الأمهات أظهرت جهلا تاما برغبات ابنها والطعام المفضل لديه، ولونه المحبب أو اللعبة التي يقضي معها معظم وقته.
في حين كان الطفل متابعا جيدا ومحبا لكافة سلوكيات وتصرفات أمه إذ تطابقت إجاباته مع رغبات والدته وتصرفاتها، حتى صديقتها المقربة يعرف عنها الكثير. بكى بحرقة اعتراضا على قرار المذيعة بضرورة تغيير تلك الأم واستبدالها بأخرى، فبالرغم من شكواه من انشغالها طوال الوقت بصديقتها ومحادثتهما الهاتفية وكذلك انشغالها بهاتفها الذكي وتواصلها الدائم مع أصدقائها الافتراضيين، وإهمالها الواضح لأحلامه ورغباته وطموحاته.
هزمت ردة فعله التلقائية وبراءته، قلب الأم فشاركته البكاء، بندم على جهلها لتطورات ابنها ورغباته واختياراته.
في نقطة جغرافية أخرى على الكرة الأرضية تشابهت شكوى أطفال من تجاهل الأسر لهم، حيث شهدت مدينة هامبورغ الألمانية مسيرة احتجاجية شديدة الطرافة والخصوصية في آن، وفريدة من نوعها، حيث نظمت مجموعة من الأطفال في أعمار تتراوح بين الخامسة والعاشرة مسيرة احتجاجية على انشغال آبائهم عنهم بالهواتف المحمولة واستخدامهم المفرط لها.
وبرزت لافتة كبيرة مدوّن عليها شعار “العبا معي وليس بهواتفكما المحمولة”. سعى من خلالها الأطفال إلى لفت انتباه والديهم لحاجتهم إلى الرعاية النفسية والمعنوية.
ويسعى الأطفال المحتجون إلى حث آبائهم على الانصراف قليلا عن الانشغال بهواتفهم المحمولة وإعطاء صغارهم المزيد من الاهتمام.
ودعا إلى المسيرة الطفل إيميل روستيغه، البالغ من العمر سبعة أعوام، وقد أخطر والده الشرطة بأمر تجمع الأطفال لحمايتهم.
وكانوا يرددون شعارات منغمة، نحن هنا ونرفع أصواتنا لأنكم تنظرون إلى هواتفكم النقالة فقط. وأمسك الطفل المتزعم للمسيرة بمكبر للصوت يحاول من خلاله نقل رسالته إلى عدد كبير من الأهالي، “أتمنى أن تجعل المسيرة الكثيرين يتوقفون عن النظر كثيرا إلى هواتفهم المحمولة”.
ولا يخفى عن أحد أن إدمان الآباء للهواتف النقالة قد يسبب مشاكل سلوكية واضطرابات نفسية عند الأطفال ويجعلهم أكثر عرضة للتذمر والإحباط.
ليت إيميل يستنسخ لمئات الأطفال القادرين على إيصال أصواتهم للأسر ويسجلون اعتراضاتهم بشكل واع متسم بالنضج.
الكثير من الآباء يولون النظر إلى الهواتف أو الألعاب فيها، وزيارة الأصدقاء الكثير من الأهمية، مع إغفال تطور أبنائهم نفسيا واجتماعيا، حتى أن بعضهم يفيق على كوارث لا يدرك أبعادها، وهم أول مسبباتها وأهمها.
رابعة الختام