أذهلني ابن شقيقي الصغير الذي لم يتجاوز بعد مرحلة الروضة، لكنه يتكلم العربية الفصحى بطلاقة، ويندر أن يخطئ أيضا في النحو، مع أنه يجهل بلا شك حركة الأفعال والأسماء.
ولم أنذهل للسبب الذي جعله يتكلم العربية الفصحى عندما عرفت أنه يتابع بنهم أفلام الرسوم المتحركة، ويحفظ الحوار بدقة ويعيد ترديده بشكل دائم مع شقيقته الصغرى.
هكذا هو الطفل خامة جاهزة للاستقبال والتشكل بما يصله من البيئة المحيطة به، سواء في الكلام أو التصرفات. فلماذا لا نجعله يتعلم من المسائل الصحيحة وينمّي موهبته في اختيار اللائق
من الكلام حتى تكون ذائقته سليمة مستقبلا؟
هذا التمنّي يدفعني إلى الحديث عن أغاني الأطفال التي قلّت وتراجعت في العالم العربي، بالقياس إلى أغاني الكبار الشائعة، وخصوصا الرديئة منها.
الأطفال اليوم يغنّون ما ينتجه الكبار من كلام لا يمثلهم ولا يضيف إليهم شيئا، بينما أغاني الطفولة تكاد تغيب عن توجهاتهم بشكل يدعو إلى القلق على مستقبلهم.
بل وصل الأمر بالفضائيات إلى إقامة مسابقات تزعم أنها لتنمية مواهب الصغار، لكنها في حقيقة الأمر تشجع الصغار على أداء أغاني الكبار الحزينة والتي تتجاوز في أحيان كثيرة قدرة التعبير والاستيعاب لديهم.
يقول شاعر الطفولة العراقي جليل خزعل الذي أصدر أكثر من أربعين كتابا يُعنى بثقافة الأطفال “الأطفال بطبيعتهم ميّالون إلى الإيقاع، والكلمات المقفاة والمنغمة، فهم يغنون وينشدون في ألعابهم ونشاطهم اليومي، لذلك فأغنية الطفل فعالية مهمة في حياتهم، إذ يمكن عن طريقها أن نقدّم كلَّ ما نريد من أفكار ورؤى، سواءً على صعيد التعليم أو التربية أو التنشئة الاجتماعية، لنعدهم الإعداد الأمثل للمستقبل”.
وأضاف خزعل الذي تحولت قصائده إلى أغان ملحنة في الجزء الجديد من مسلسل “افتح يا سمسم”، “الغناء يكسب الأطفال مهارات في النطق والتذوّق الجمالي، والإحساس بالموسيقى والكلمة، شريطة أن نُحسن اختيار الأغاني المقدّمة لهم، من حيث الكلام واللحن لتناسب طبيعة كل مرحلة من مراحل نموّهم”.
لا يمكن إهمال التقصير الذي تمارسه المؤسسات التعليمية والاجتماعية والمحطات الفضائية ومن بعدها الأسر في إشاعة ثقافة أغاني الأطفال بين الصغار، وخطورة هذا الأمر تهدّد وعي وذائقة أجيال بأكملها في المستقبل، فلا أحد يعرف ماذا ينتظر الطفل عندما يكرر أغاني تشيع البغضاء والضغينة والسباب في نصوص شعبية رديئة، بينما لا يردد أناشيد الطفولة التي تعلمه احترام الآخر والسلوك القويم وتعيد تهذيب علاقته بالناس.
وقد أكد خزعل أن هناك جهلا كبيرا في عدة أوساط عربية بأهمية ثقافة الطفل، وبأغنية الطفل على وجه الخصوص، ما أدى إلى انحسارها وتراجعها، وقد وصل الأمر إلى درجة تحريمها في بعض القنوات والبلدان، أو استبدالها بأناشيد دينية واعظة مملة ورتيبة جدًا، مشددا على أن ما يزيد من رتابة هذه الأناشيد البديلة تجريدها من الآلات الموسيقية على اعتبار أن الموسيقى حرام وفق اعتقاد أصحاب هذا التوجه، إلا أن خزعل أشاد بتجربة برنامج “افتح يا سمسم” الذي فسح مجالاً واسعًا لأغاني الطفولة في فقراته، متيحا لخزعل الفرصة لكي يكتب الكثير من الأغاني التي أثارت إعجاب الأطفال وشدت انتباههم في عموم الوطن العربي.
نوعية الأغاني التي يسمعها الأطفال ليست بلا جدوى نظرا إلى أنها تترك أثراً كبيرا وواضحاً على الطفل وتساعد على تشكيل هويته وشخصيته وذوقه كبالغ، لذلك فهي درس أولي في غاية الأهمية، وإذا أهملناه فقد يؤثر ذلك على مستقبل أجيال كاملة، ومن الصعب بعدها إعادة تهذيب مسامع وذائقة وأخلاق رجال استمعوا ورددوا في طفولتهم الرديء من أغاني الكبار، ولم تتح لهم الفرصة لسماع أغاني الطفولة التي تحث على التسامح والمحبة والسلوك القويم المهذّب.