نبيل شبيب
الجريمة.. وأسلوب الحياة الأمريكي
طفل في السابعة من عمره يقتل بعيارات نارية زميلته في المدرسة، البالغة ستة أعوام من عمرها.
صورة رهيبة مذهلة، وجريمة يتبادر إلى الأذهان أنها نادرة الوقوع، لا سيّما وأنّ القاتل أصغر سنّاً من أيّ قاتل أمريكي سبقه، ولكن واقع الطفولة في الغرب لا يسمح بالاعتقاد بأنّ هذه حادثة فريدة من نوعها، أو يضمن عدم تكرارها. لا سيّما وأنّ هذه الجريمة بالذات كشفت حين وقوعها عن جانب من ذلك الواقع، فالمسدس الآلي الذي استخدمه الطفل، كان قد سرقه وسرق أسلحةً أخرى معه ناشئٌ في التاسعة عشرة من عمره، وكانت المحاكمة من نصيبه، إذ لم يكن في الإمكان محاكمة الطفل الصغير، وقال جاك ليفن، مدير مركز برونيك لدراسات ظاهرة العنف في بوسطن الأمريكية بهذا الصدد: "أمر لا يصدّق، إنّ هذه الواقعة تكشف عن انحراف خطير وقع في مجتمعنا الأمريكي وهو انحراف لا يقتصر على مَن يطلقون النار فقط".
الجريمة المذكورة التي وقعت يوم 29/2/2000م ما تزال تمثّل حتّى ساعة كتابة هذه السطور "رقما قياسيا" من حيث عمر القاتل، وكان آخر رقم قياسي قد تمّ تسجيله قبل أقلّ من عامين، وارتكبها تلميذان أحدهما في الحادية عشرة من العمر، والثاني أكبر منه بعامين، ففي يوم 24/3/1998م قتلا أربعة تلاميذ وإحدى المعلمات وأصابا أحد عشر تلميذا ومعلّما آخرين بجروح. وبين هذين التاريخين وبعدهما وقعت عدة جرائم. لم تسجّل أرقاما قياسية، ولكن لا يعني ذلك إغفال مغزاها وخطورتها، مثل جريمة وقعت يوم 6/12/1999م، وارتكبها تلميذ في الثالثة عشرة من العمر وأودت بحياة أربعة من رفاقه في المدرسة، وأخرى وقعت يوم 19/11/1999م وارتكبها تلميذ في مثل عمره إذ قتل زميلة له في المدرسة.
القائمة لا تنتهي، ولا تنقطع، فهذه الجرائم من العيار الثقيل والتي أصبحت -وسط احتجاجات المنظمات الإنسـانية- تجد محاسبة الأحداث قضائيا أمام محاكم البالغين، ارتفعت نسبتها إلى أكثر من الضعف منذ عام 1985م. ويقول تقرير وزارة العدل الأمريكية إن كثيرا ممّن تصدر أحكام بحقهم من الأطفال والناشئة، باتوا يقضون العقوبة في سجون الأكبر سنا!..
وكان من ردود فعل الحكومة الأمريكية على مسلسل الجرائم التي يرتكبها الأطفال مطالبة الشركات بابتكار أسلحة لا يستطيع استخدامها إلا أصحابها، أي مسدّسات "ذكية"، وهو ما يذكّر بالأسلحة "الذكية" التي يستخدمها الأمريكيون في حروبهم خارج حدود بلادهم!.. ولا غرابة في هذا الموقف عند النظر فيما تعنيه صناعة السلاح الأمريكية في عالم الانتخابات الأمريكية، أمّا جرائم الأكبر سنّا فحدّث ولا حرج، (أعلن أواخر عام 2006م أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تحتل المرتبة الأولى بين عدد المساجين فيها بالمقارنة مع عدد السكان) والمهمّ سياسيا هو تسجيل مثل تلك "اللفتة" الإنسانية لصالح الأطفال، وكأنّها ستمنع فعلا من زيادة الجريمة في صفوفهم، أو من سقوطهم ضحايا لها، قتلى وقَتَلة!..
أطفال.. ضحية الفقر في أثرى دول العالم
هل يمكن وصف تلك الجرائم على مستوى الأطفال بأنّها أوضاع شاذة في "مجتمع سليم"؟..
هل يمكن أن نستبعد وجود علاقة بين الارتفاع المطّرد لمعدّلات ارتكاب الجريمة، بين الكبار والصغار على السواء، عاما بعد عام، لا سيّما على صعيد الأطفال والناشئة، وبين "أسلوب الحياة الأمريكية" الذي طالما أشاد به الساسة الأمريكيون، وكذلك المتأمركون؟..
أين نضع هذا التطوّر الخطير على مستوى الأطفال والناشئة بين تطوّرات أخرى لا تقلّ خطورة، بما في ذلك سرعة ارتفاع معدّلاتها عاما بعد عام، كما بات معروفا إلى درجة "الاعتياد!" عليه تحت عناوين السياحة الجنسية، والاعتداء الجنسي على الأطفال، واغتصاب النساء والفتيات والولدان، وتجارة "الرقيق الأبيض" وغيرها؟..
ألا يلفت النظر أنّ هذه المعدّلات ارتفعت ارتفاعا سريعا -إلى درجة تثير حيرة الباحثين- في البلدان الشرقية منذ سقوط الستار الحديدي، وانفتاح الابواب أمام الرأسمالية الغربية، حتى أصبحت تلك البلدان المصدر رقم واحد لبضاعة "الرقيق الأبيض" لتجارة الدعارة والمخدّرات في الغرب؟..
ظاهرة واسعة الانتشار
لا يقتصر الأمر على المجتمع الأمريكي، ولكن يمكن أن نرصد أنّ حجم انتشار الجريمة في بلدان أخرى يتناسب طردا مع حجم انتشار مظاهر الحياة على الطريقة الأمريكية، ممّا تتعدّد وسائله بدءا بعالم الأفلام، وحتى أساليب الدعاية التجارية، ويسري هذا على البلدان النامية إلى حدّ بعيد، وإن تميّزت البلدان الغربية بالإحصاءات والتوثيق، وبالتالي بإمكانية الربط بين الأسباب والنتائج، وتحمل الأنباء على هذا الصعيد صورا مذهلة، نجدها بين أيدينا دون عناء بحث كبير، فقبل أيام من جريمة الطفل الأمريكي، أقدمت في ألمانيا فتاة في السابعة عشرة من عمرها على قتل وليدها بعد وضعه على الفور، وقبل أسبوع واحد من الجريمة رفعت النيابة العامة في مدينة درسدن الألمانية دعوى ضد تلميذة في الخامسة عشرة من العمر قتلت معلّمتها، وفي يوم ارتكاب الجريمة نفسه قام ثلاثة من الناشئة الأمريكيين في ألمانيا بقذف حجارة ثقيلة من أحد الجسور على سيارات على الطريق السريعة، مما أودى بحياة ثلاثة أشخاص، وبعد أيّام منها بدأت محاكمة امرأة كان قد كُشف أنهّا قتلت ثلاثة أطفال رضّع بعد ولادتهم، وفي اليوم التالي لتسجيل الرقم القياسي المؤلم بين جرائم الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية، صدر في فرنسا حكم قضائي بحـقّ "قسيس" من الكنيسة، عمره 71 عاما، كان يمارس كمدير مدرسة، عمليات اغتصاب واعتداء جنسي على أطفال بين 10 أعوام و13 عاما من العمر، ثبت منها جريمتان، وكان الحكم: عشرة أعوام سجن!.. وتزامن معه حكم قضائي صدر في ألمانيا بحقّ أحد رجال الشرطة، الذي اعترف بممارسة الجنس على مدى خمسة أعوام، مع ابنة زوجه، أي منـذ كانت في التاسعة من عمرها، وكان الحكم السجن لمدة 18 شـهرا مع وقـف التنفيذ، وهذا ما لا يصل إلى مستوى حكم قضائي على لصّ من اللصوص!..
الجدير بالذكر أمام هذه "الأحكام القضائية" أنّه منذ بدأ التشريع الجنائي في الغرب كانت عقوبات الجرائم ضدّ الممتلكات المادية، أشدّ من عقوبات الجرائم ضدّ الإنسان، لا سيما ما يرتبط من ذلك بالقيم الخلقية والاجتماعية!..
ليست الصورة المذكورة في مطلع الحديث إذن صورة رهيبة مذهلة لطفل يرفع مسدسا ويقتل طفلة، بل هي قطعة من فسيفساء دموية في الحياة اليومية "المعتادة" وجزء لا ينفصل عن حياة الطفولة في المجتمع الغربي بأكمله، ولها وجوه أخرى رهيبة متعددة، ولا يتّسع المقام للحديث عن مزيد، لا سيّما وأن المقصود بهذه السطور ليس تقديم عرض إخباري، بعد أن أصبحنا في بلادنا العربية والإسلامية نتابع مثل هذه الأخبار، وكأنهّا مشاهد خيالية مصوّرة في الأفلام الأمريكية والأوروبية، وليس باعتبارها جزءا من المجتمع الغربي القائم، من الواقع المنظور المشهود، الذي ما يزال في قلب مجتمعاتنا الإسلامية مَن يريد متابعة طريق تقليده تحت دعاوى التحرر والتقدّم مع تدمير الأسرة ووأد براءة الطفولة.
أطفال.. ضحية السلاح في عالم متحضّر
إذا أردنا تقدير كيف تنتقل الأمور تدريجيا من مرحلة التراخي في تطبيق قوانين نشر الصور شبه العارية في الدعايات، ثمّ الترخيص بالحفلات الماجنة، ثمّ الترخيص بها عبر التلفاز، ثمّ التهاون في القضاءِ على بقيّة حياء في الجامعات، ثمّ اعتبار قضية العنف في الألعاب وبرامج الحاسوب وسواها أمرا بسيطا.. إذا أردنا تقدير أنّ ما بدأ في بلادنا "الآن" يمكن أن يوصل خلال فترة وجيزة، إلى ما وصلت إليه الأوضاع في المجتمع الأمريكي هذه الأيام، فلنتأمّل في مسيرة المجتمع الأوروبي القديم على النسق نفسه من التقليد!..
إنّ الحديث عن ارتفاع جرائم الأطفال والناشئة في البلدان الأوروبية جديد بالمقارنة معه في الولايات المتحدة الأمريكية، فأوروبا تلحق بمظاهر التقدّم الأمريكي المزعوم، متخلّفة بضعة أعوام، بما في ذلك ساحات الجريمة، ولئن بدأ ارتفاع نسبة جرائم الناشئة فالأطفال في أوروبا بعد بضع سنوات من ارتفاعها في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت أوروبا طوال عشرات السنين الماضية تسير بعد الأمريكيين ببضع سنوات أيضا، في تقليد ما يصنعون من إباحة ما لم يكن مباحا من علاقات جنسية، وبتعميم ما لم يكن معمّما من أفلام الرعب والعنف، وبتعديل القوانين التي كانت تحدّ ولو جزئيا من تفكّك الأسرة، ولم يكن الأمر في أوروبا مرتبطا بانتشار السلاح كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، فالحدّ من تعميم انتشار السلاح يخفّف المشكلة ولا يحلّها، ومن يكتسب نفسية ارتكاب الجريمة يجد السلاح ولو كان محظورا اقتناؤه، إنّما يكمن جوهر المشكلة في تحطيم القيم على كل مستوى من المستويات، وانهيار مفهوم الأسرة تماما كالدعوات التي حملتها مؤتمرات دولية عملاقة عديدة، فضلا عن نشر نظرة الازدراء إلى أعمال البيت وتربية الأطفال، وإيجاد أوضاع اجتماعية تُكره المرأة على العمل ولو لم ترغب فيه حتّى تعيش أصلا، بدعوى تحريرها، بدلا من اعتبار العمل واجبا، لا تجبرها القوانين والظروف الاجتماعية عليه وإن لم يكن محظورا عليها!..
أين أسباب الوقاية؟..
كم نردّد أمثلة شعبية قديمة وحديثة، من مثل أنّ "السعيد من اتّعظ بغيره" أو "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، فأين ذاك ممّا يجري اليوم على أعلى المستويات للقضاء على البقية الباقية من قوانين الأحوال الشخصيّة والأسرويّة، في أكثر من بلد عربي وإسلامي، تعديلا لا يعود بها إلى جذورها الإسلاميّة، للتخلّص من أوضاع شاذّة أوجدها تغييب الإسلام أو إساءة استغلاله، فنشأت وليدة حقبة التغريب في العقود الماضية، وإنّما هو تعديل يلبسها رداء التحرّر المزعوم في الغرب ولا يمكن أن يصل بها إلاّ إلى ما وصل إليه الغرب!..
يصعب علينا ونحن نرصد من كثب أحوال المجتمع الغربي وما آلت إليه، ونرصد أيضا كيف تطوّرت على وجه التخصيص، حتى وصلت إلى حالها الراهن عبر العقود الماضية.. يصعب علينا تصديق أن أولئك الذين يتحرّكون، ويصولون ويجولون، ولا يكادون يجدون من يصدّهم عما يصنعون بمجتمعاتنا، ليس على صعيد التقنين فقط، بل وفي ميادين الإعلام والتربية والفنون وسواها.. يصعب تصديق أنّهم يريدون فعلا أن يصل الأمر إلى مستوى استيراد ما أدّى إلى ذلك الوضع الرهيب للطفولة في الغرب، ليصيب أطفالهم هم، وأحفادهم هم، مع بقية أطفال بلادنا وأحفادهم!..
فإن لم يكن لدى بعضهم ما يمكن التذكير به باسم ما أحلّ الإسلام وحرّم، وما شرع وأوصى، وما استقرّ في تكوين شخصيّتنا الثقافيّة والحضاريّة بما يشمل غير المسلمين أيضا، فلا أقلّ من تذكيرهم بلسان المنطق والدراسة والبحث. لا أقلّ من مطالبة المسؤولين على مختلف المستويات وأصحاب الغيرة في مختلف المواقع، بنظرة منهجيّة موضوعيّة إلى الأسباب والنتائج في الغرب، كيلا تستمرّ المسيرة المنحرفة الراهنة على طريق التقليد الأحمق، أو على طريق الخضوع الانتحاري للمطالب الأمريكية المستحدثة لتعديل المناهج تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"!..
لا يجوز الانتظار إلى أن تقع الكوارث الاجتماعية، كتلك التي أصبح المجتمع الغربي مصابا بها إصابات مرضية قاتلة، ويعلم أنها قاتلة، ولا يستطيع -لمرضه- أن يعالج نفسه، بينما لا يزال في استطاعتنا سلوك سبل الوقاية، قبل أن تصبح أوضاعنا الاجتماعية مرضيّة ويصبح العلاج مستحيلا.
مداد القلم