د. شيلان محمد علي القرداغي
قالت لي إحدى الأخوات: جاءني اتصال عاجل من أحد معارفي وهو يبكي فقال: أنجدي يا خالة عائلةَ فلان؛ فقد هَدَّهُمُ الجوع؟
تقول: لَمْلَمْتُ أغراضي، وخرجت على عَجَلٍ مع إحدى صديقاتي، وصلنا البيت المعين ودخلناه، ويا له من بيت! فهو بوَهنِ بيت العَنكبوت من شدة افتقاره إلى مقومات الحياة، فكل مرافقه بالكاد تسمى بأسمائها.
وكل ذلك كان هينًا، فقد رأينا أول دخولنا المنزل شابًّا مُلقًى على الأرض شاحب الوجه، بارز العظام، يغلق عينيه ليفتحهما بين الفينة والأخرى من شدة المرض، وعند قدميه صبي صغير يُدَلِّكُ ساقَيه، وعند وسطه يتناوب أطفال صغار الجلوس بالقرب من الأب المسكين، وتقبيل يديه وجبهته بين الحين والآخر، وهو يبتسم أحيانًا رغم الألم، وفي أحيان أخرى كان يئنُّ تحت وطأة المرض.


وبين كل هذه الأحزان فَتَّشْتُ حقيبتي؛ عَلَّني أجد فيها قليلًا من النقود لأفرح بها قلوب هؤلاء الصغار، لكن خاب ظني؛ فكل ما كنت أحمله من نقود صرفتها لشراء بعض المواد الغذائية الضرورية لهذه العائلة، ولكنني في النهاية عثرت على ألفي دينار - أي: ما يعادل دولارًا ونصف تقريبًا - فأعطيتها لاثنين من هؤلاء الأولاد: ابنة في السادسة من عمرها، وابن في السابعة؛ حتى يشتروا بها لهم ولإخوتهم وأخواتهم ما يخفف شيئًا من الحمل الثقيل على عاتقهم، فتهلل وجههما كأنه القمر ليلة التمام، وركضا بل قد طارا بسرعة الريح، وخرجا إلى المحل القريب من البيت، وأنا لم أستغرب ذلك؛ فهما لم يأكلا الحلويات أو لم يرَوا أشياء طفولية منذ وقت طويل، فلا عجب أن يفرحا وأن يخرجا بهذه السرعة.
انشغلتُ بالحديث مع الأم عن حال زوجها وحال أولادها الستة لدقائق قليلة، حتى دخل علينا الطفلان بنفس السرعة التي خرجا فيها، وهما في فرحة لا توصف، ووضعوا ما اشترَوا أمام أمِّهم، وكأنهم اشتروا لها الدنيا وما فيها.
وفي هذه اللحظة لم أتمالك نفسي التي كنت قد كبتُّها عن البكاء منذ دخولي البيت مراعاة لمشاعر الأولاد، وأجهشت بالبكاء حتى علا نحيبي، والطفلان ينظران إليَّ بتعجب: لماذا تبكي هذه المرأة؟ ولماذا الآن؟ لماذا لم تبكِ حين رأت أبانا المريض الطريح الفراشَ منذ زمن بعيد؟ ولماذا لم تبكِ حين رأت أمَّنا المغلوبة على أمرها بين هَمِّ الزوج المعقد، والأطفال الجوعى العراة؟ لماذا الآن؟
وهؤلاء الأولاد لم يعلموا أن صنيعهم كان القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال.
حين دخل الصبي وهو يحتضن علبة لسائل غسيل الصحون ليضعها بين يدي أمه، وكأنه أحضر لها النجوم من السماء على استحالتها، لتردفه أخته الصغرى بكيلو من السكر ولسان عينيها يقول: أمي حققت حلم إخوتي المحرومين منذ زمن، فهذا سكر عسى أن تحلو به أيامنا.
آنذاك أجهشت بالبكاء، كم عانى هؤلاء الأطفال من الحرمان من كل شيء! وكم شقوا حتى وصل الحال بهم إلى أن يحس الصبي بإحساس الرجولة، ويحمل همَّ نواقص المنزل، وبدلًا من الحلوى يشتري سائل غسيل الصحون، والأخت الصغيرة هي الأخرى آثرت أسرتها على نفسها، فاشترت السكر الذي خلا منه منزلهما منذ زمن طويل، وهي تعلم أن والدها يعشق الشاي!
أين طفولة هؤلاء؟ إنهم رجال ونساء بالرغم من أجسادهم الصغيرة النحيلة، فلا لعب، ولا مدارس، ولا ملابس جديدة، ولا طعام يُشتهَى، بل ملابسهم قديمة من صدقات الجيران، وطعام بسيط قد يكون الخبز وحده لعدة أيام.
فلا أدري كيف يهنأ للجار العيش وهو يعلم بحال جاره البئيس؟ وكيف يستلذ طعامًا وجاره بجانبه يتلوى من الجوع؟ وقد قال معلم البشرية صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس: ((ما هو بمؤمنٍ مَنْ بات شبعان، وجارُهُ طاوٍ إلى جانبه))[1].
ومصطلح الجار أكبر من الجُدُرِ المتلاصقة، والأخوة الإيمانية والإنسانية فوق الجوار بمراحل، وهي أسمى من كل آصرة، وأشرف من كل وشيجة؛ فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[2].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

JoomShaper