مجد جابر
عمان- “أنا بكرهك وما بحبك”.. تلك العبارة التي قالها الطفل عون (9 أعوام) ذات يوم، كانت وما تزال “غصة” في قلب والده حينما سمعها من صغيره وعيناه تفيضان بالغضب.
لم يتوقع أبو عون ان يكون الأثر كبيرا، حينما رفع صوته بوجه طفله ومسكه من يده بقوة وألقى به على سريره، إذ برر ذلك بأن سلوك ابنه أمام الناس وعدم احترامه للكبار، اضطره أن يتصرف معه بهذه الطريقة.
الطفل عون بقي لوقت طويل، يذكر والده بانه “لا يحبه” لأنه آلمه ولن ينسى له ما فعله ابدا، وانه دائم الصراخ عليه أمام الناس. كل ذلك جعل والده يدرك أن الصغير لا ينسى أبدا الإساءة معه وحتى إن جاءت بدافع الحب والحماية.
عون واحد من أطفال كثيرين، تترسخ بذاكرتهم اللحظات التي يتعرضون فيها للإساءة بكافة أشكالها، وان كانت بحدودها الدنيا، وكما يراها آباء بدافع الحب والتربية وتقويم السلوك، فهم لا يدركون احيانا ذلك الأثر الذي يبقى عالقا بداخل الطفل وقد يولد مشاعر سلبية في داخله.
ولطالما كان الهاجس الأساسي لدى الأهل بذل كل مجهود في تربية الأبناء وتهيئتهم على مواجهة المستقبل، غير أن ذلك قد يشوبه أساليب خاطئة تنعكس بشكل سلبي على نفسيتهم.
أهال وعائلات تستخدم أسلوب الترهيب النفسي والجسدي مع الأطفال سواء بالصوت العالي أو الضرب، لاعتقادهم أن ذلك نوع من أنواع التربية تساهم بتعديل سلوكيات سلبية ومنع حدوثها مرة اخرى.
غير أن ما يغفله الأهل أن الطفل لا ينسى، وقد يترك الأمر أثرا نفسيا طويل الأمد، ويظهر بتكوين شخصيته وتصرفاته في المستقبل، فمن يتعرض لهذا الترهيب بأشكاله لا يمكن أن تكون شخصيته بذات شخصية طفل آخر تربى في بيئة سليمة.
ويعتبر مختصون أن تعريض الطفل للعنف النفسي يؤثر في تكوين شخصيته وتعاملاته مع الآخرين، فمن يتعرض للأذى بأشكاله سيعاني من خلل في الشخصية وضعف في الثقة بالنفس وشعور بالفشل، وفقدان القدرة في مواجهة الآخرين.
ويذهب الخبير في مواجهة الغنف ضد الأطفال ومستشار الطب الشرعي الدكتور هاني جهشان، أنه من أهم مرتكزات اتفاقية حقوق الطفل “أن الأسرة تشكل البيئة الطبيعية لنمو ورفاهة جميع أفرادها وخاصة الأطفال” وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ فان الأسرة هي الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمعات. وتطالب هذه المواثيق الدولية الحكومات بتوفير الدعم الكامل للأسرة، وعلى الرغم من هذه المرجعية يمكن للأسرة أن تكون مكانا خطرا للأطفال، بسبب شيوع العنف ضدهم من قبل الآباء أو الأقرباء والذي قد يتراوح بين العنف النفسي أو الإهمال أو الضرب التأديبي والتعذيب الجسدي وقد يصل للعنف الجنسي في بعض الأحيان.
وتتراوح عواقب العنف ضد الأطفال من آثار مباشرة عليه إلى ضرر يمتد من مراحل الطفولة إلى مرحلة المراهقة وبالتالي لمرحلة البلوغ وفي بعض الحالات يستمر الضرر مدى الحياة، مبينا جهشان أنه من أخطر العواقب النفسية المباشرة للعنف على الأطفال وأكثرها شيوعا، فقدانهم الثقة بالآخرين والتي تعد أمرا ضرورياً لنمو الإنسان وتطوره بشكل طبيعي. كما أن تعلم الثقة بالآخرين من خلال الارتباط بالأسرة أمر أساسي يكتسبه الإنسان في مرحلة الطفولة، وبالتالي يصبح قادرا على إقامة العلاقات الاجتماعية السوية، فغياب الثقة بالآخرين بسبب تعرض الطفل للعنف يؤدي إلى إعاقة في نمو شخصيته وإخفاق في الإنجاز وبالتالي تكلفة باهظة الثمن على المجتمع مستقبلا.
ويشير جهشان إلى أن العنف الجسدي ضد الطفل قد يكون شديدا كحصول إصابات خطرة تؤدي إلى إعاقة جسدية دائمة أو الوفاة، وطبيعة هذه الإصابات تتراوح ما بين الكدمات والسحجات الخارجية الناتجة عن الصفع أو اللكم أو الركل أو العض أو الجلد بسوط أو عصا إلى إصابات الرأس وكسور الجمجمة وإصابات الأحشاء، وإصابات كرة العين، والجهاز العصبي المركزي، وكسور الأطراف. ويتابع؛ “إن كان من المتوقع أن تشفى هذه الإصابات جسديا إلا أن المعاناة النفسية المرتبطة بالعنف الجسدي قد ترافق الطفل مدى الحياة اعتمادا على شدة العنف وتكراره وطول فترة التعرض له.
وبالنسبة للعنف النفسي، فهو أكثر أنواع العنف ضد الأطفال شيوعا ويأخذ أشكالا مختلفة كالتلفظ بعبارات نابية أو إطلاق نعوت سيئة على الطفل، أو التقليل من قيمته وقدراته، كالشتم والاستفزاز واستعمال عبارات الإهانة، وقد يكون العنف النفسي على شكل القيام بحركات وإشارات تعبر عن إهانة نفسية موجهة للطفل أو تحقيره والحط من شأنه، وقد يكون بالترهيب والقسوة كفرض حالة من الرعب على الطفل لإجباره على الهدوء أو الصمت أو الانضباط أو بفرض عزلة على الطفل وتركه بمفرده لفترات طويلة، أو منعه بصفة دائمة من التفاعل والتواصل مع العائلة أو الأقران.
ووفق جهشان، هذه الأشكال من العنف النفسي ضد الطفل شائعة لدرجة تجعل عامة الناس تعتقد أنه سلوك مقبول على الرغم من عواقبه المدمرة على شخصية الطفل، وقد تتفاقم سلوكيات مرتكب العنف النفسي ليصل إلى أقصى درجات التعذيب والترهيب ويأخذ أشكالا سادية.
ويرى جهشان أن عواقب العنف النفسي على الطفل تتقاطع مع العواقب النفسية للعنف الجسدي، وتشمل الاضطرابات العاطفية والمعرفية واضطراب العلاقات مع الآخرين والمعاناة من أمراض نفسية؛ وتشمل الاضطرابات العاطفية؛ الصورة السلبية للجسد والإحباط وتحقير الذات والشعور بالذنب والخجل والخزي والشعور بالفشل وفقدان الثقة بالذات والتشاؤم.
أما الاضطرابات المعرفية؛ فتشمل التأخر في تطور اللغة واضطرابات النطق وتشتت الانتباه وصعوبة التركيز والشرود الذهني وخلل في حل المشكلات والتشويش في القدرات الإدراكية واضطراب في الذاكرة على صعيد التخزين والاسترجاع، والفشل الدراسي وصعوبات التعلم، واضطراب العلاقات مع الآخرين يكون على شكل معاناة الطفل من الانطوائية والعزلة والخجل الاجتماعي وفقدان القدرة على مواجهة الآخرين. إلى ذلك، تكون العلاقات المتسمة بالعدوانية والاندفاع الشديد والهروب من المنزل ويكون أكثر عرضة للانخراط في علاقة جنسية غير سوية، وقد تصل عواقب العنف النفسي ضد الطفل لمعاناته من أمراض نفسية؛ كالرهاب الاجتماعي والاكتئاب والقلق والهلع واضطرابات النوم.
الاختصاصي التربوي الدكتور عايش النوايسة، يبين أن شكل التربية هو الذي يحدد سلوك الإنسان في المستقبل، بالتالي فان الطفل الذي يعيش في بيئة طبيعية وايجابية توفر له النمو الكامل المتكامل والرعاية الايجابية، ينعكس ذلك على كل مسار حياته، لذلك ينبغي معالجة السلوكيات السلبية بعيدا عن العنف اللفظي والجسدي.
وبحسب النوايسة فان مرحلة الطفولة هي مرحلة حساسة جداً وهي التي تتشكل فيها طريقة التفكير والنظرة للأمور، فاذا كان الطفل يعيش ضمن أجواء ترهيب وأذى نفسي تحت مسميات التربية الصارمة، بالتأكيد سينعكس ذلك على شخصيته في المستقبل، ويفقد ثقته بنفسه وفي مواجهة الحياة.
وعلى العكس من ذلك، فان الطفل الذي ينمو في أجواء أسرية سليمة تقوم على التكافل والتراحم والتربية ضمن الرعاية الوالدية، بعيداً عن والترهيب والعقاب، فإن مسار حياته يكون طبيعيا وسليما، وينعكس ذلك على مستقبله بالكامل وطريقة تفكيره. وينوه النوايسة أن “الجيل الذي نريده ان يقود التنمية لا يمكن ان يتربى على الخوف والرهبة والعقاب”، لافتا إلى أن ذلك سيترك أثرا سلبيا كبيرا على شخصيته وفي انعدام توازنه وعلى علاقاته الاجتماعية ومحيطه المدرسي والجامعي والفشل المستقبلي بإدارة حياته بسبب ما تعرض له في طفولته.