أ.د.  ناصر أحمد سنه
كثيرا ما نشكو من توتر وعصبية أطفالنا، وكثرة حركتهم، وعدم صبرهم علي الجلوس لحظات دون إحداث جلبة أو ضوضاء، مع قلة تركيزهم، وتشتت انتباهم، واضطراب مزاجهم، وتبدل أحوالهم نحو العناد والغضب والعنف والعدوان، ومع هذا وذاك نراهم شاحبي الوجوه، واضعي أيديهم علي صدورهم لأدني مجهود، تري ما السبب وراء ذلك؟.
لساعات طويلة.. كنت أجد أطفالي الصغار مشدودين أمام فضائيات.. يشاهدون"سلاحف النينجا"، أو"البات مان"، أو"توم أند جيري"، أو"طرزان"، أو"هرقليس"، أو المحقق "كونان"، و"سبونج بوب"، فضلا عن العاب وأفلام الفيديو، وأفلام رعاة البقر، ومباريات المصارعة والملاكمة. ويستريحون قليلاً فيتناولون وجبة غذائية سريعة، وقطعاً من الشوكولاته أو مشروب الكاكاو أو مشروب غازي. ومن ثم تعود أناملهم الرقيقة تدب جيئة وذهابا فوق لوحة أزرار الكومبيوتر، بينما تتحرك أجسادهم وأرجلهم فوق مقاعدهم، وهم مندمجون .. يتشاجرون لوضع قرص مدمج في إثر آخر،..ألعاب لا حصر لها فيها القنص والقفز والضرب والعنف والسرعة والإيماءات والإيحاءات، فاسعي جاهدا لصرف انتباههم عن هذا وذاك إلي برامج وقصص مناسبة في فضائيات أخري، أو إلي ألعاب اقل عنفا واستثارة، لكنهما قليلة نسبيا نوعاً وكماً، وغير متاحة كافة الوقت، ولا تغني من جوعهم وشوقهم لهذا السيل العرم الوافد، فإلي متي سيظل الوافد من ألعاب الأطفال وقصصهم له الغلبة والتشويق والإثارة، وإلي أي مدي يساهم هذا الإفراط في "الإعلام" الوافد، وفي تلك المأكولات والمشروبات التي تحوي "الكافيين" في جعلهم متوترين وعصبيين؟، وما هو تقويم هذان الأمران إيجابا وسلباً؟.
للتلفاز والحاسب تأثيرا إيجابياً هاماً، فهما يوفران قدرا كبيراـ إلي جانب البيت والمدرسة والبيئة ـ من احتياجات أطفالنا للتعلم والمعرفة واكتساب الخبرات والمهارات والقدرات وفق مراحل أعمارهم المختلقة، وخصوصا السنوات الأربع الأول من نموهم، حيث تتشكل معظم جوانب شخصياتهم.
بيد أنه لا يخفى على أحد تأثيرهما " الانفعالي" السلبي، فأطفالنا ـ حسب إحصائية لليونسكوـ يمكثون ما يقرب من 24 ألف ساعة/ عام أمام التلفاز، بينما يمكثون12 ألف ساعة/ عام في الدرس، وهم يحصلون علي نحو 75% من معلوماتهم عن طريق البصر والمشاهدة، و13% عن طريق السمع ، 6% عن طريق اللمس ،و 3% عن طريق الشم ،و 3% عن طريق التذوق. وليس يخفي ما"للمثيرات البصرية" وما تحمله من رسائل،إيجابية أو سلبية، هي الأكثر تأثيراً في نشاط المخ البشرى، في تماهي مع الانفعالات والمشاعر والنزوع السلوكي، المتوافق مع هذه الانفعالات المتكررة.
لذا فإن العاب الأطفال وقصصهم وأفلامهم في صورها المعتدلة والمتوازنة والمناسبة ينبغي لها أن تعمل علي جانبين لا ينفصلان: جانب قيمي/ أخلاقي، وجانب معرفي/ سلوكي. فالأول..ارتقاءً بأخلاق الطفل وقيمه وخصوصيته الإيمانية والثقافية والوطنية. وأن تؤكد لديه احترامه لذاته وإحساسه بقيمته ورضاه عنها وجدارته باحترام الآخرين له، وتنمي فيه الانتماء والحب والاتجاهات السوية نحو المجتمع والوطن والعالم، والجانب الثاني أن تكسبه معرفة واشمل واعمق لما حوله.. يتعلم من خلالها المزيد من المهارات والعلوم والتجارب بصورة جذابة وجميلة، كما تقدم له المتعة والترفيه النظيف المتوازن والمناسب لكل فئة عمريه.
لكن أين هذا من الصورة التي نعيشها حيث نحو 80% من الاستهلاك الإعلامي اليومي"صُنع في الغرب"، و20% الباقية تأتى تقليدا لما في هذه الدول المتحكمة إعلاميا، ومع هذا "الفقر الإعلامي" امتدت ساعات البث لدينا، وزادت طوال اليوم والليلة لتتغلغل قصص وألعاب في وجدان وأفكار أطفالنا، فتروج لقيم ورؤى وأنماط حياتية تبدو مختلفة عن قيمنا ورؤانا وأنماط حياتنا؟. فمن حيث المضمون تشكل القيم السلبية نحو 46.17% من مجموع القيم التي يعكسها المضمون الوافد، إنه ليس من قيمنا "تحدي الإنسان للطبيعية وسعيه المتواصل لقهرها، والسيطرة عليها، وبل وإفسادها" بدلا من التوازن والتناغم والحفاظ عليها وشكر الله تعالي علي تسخيرها لنا ومن أجلنا. كما أنه ليس من قيمنا التركيز علي الفردانية في مواجهة المجتمع، واستعمال القوة والعنف لحل النزاعات، انعكاسا لمدى الاستعلاء/ التفوق/ التقدم علي بقية الشعوب التي غالبا ما توصف بالدونية/التأخر/الجهل. إن شيوع أحداث قتل الأطفال والمراهقين لأقرانهم في أوربا وأمريكا يقف خلفه ـ في كثير من الأحيان ـ التأثر السلبي بالعاب الكومبيوتر والفيديو العنيفة..والتي تمثل حوالي نصف إجمالي العاب الكمبيوتر المُفضلة في الولايات المتحدة الأمريكية، حسب دراسات مسحية أجرتها منظمة الصحة النفسية الأمريكية في هذا الشأن.
تبقي مسئوليتنا مراعاة ظاهرة" إدمان مشاهدة التلفاز وألعاب الحاسب العنيفة"، مما يعيق عملية النمو المعرفي والإدراكي السليم لدي أطفالنا وبخاصة ما دون الخامسة عشرة، وهم الفئة الأكثر إقبالا علي هذا الأمر، كما يؤثر سلباً علي النمو الحركي والجسماني الصحي، من حيث أصابتهم بتوتر الأطراف الترددي وتعرض عضلاتهم إلي التقلص بسبب الجلوس الطويل وغير السليم، مع ما قد يسببه من سمنة مفرطة أثبتتها الدراسات المعنية بهذا الشأن.
علينا تنمية ملكة التفكير النقدي لدي أطفالنا وأبناءنا، ليكونوا أحرص علي ما ينفعهم، وأبعد عما يضرهم. مع حسن اختيار واقتناء هذه الألعاب المناسبة لاحتياجات أطفالنا، مع تحديد مدة وأيام ممارستها أسبوعيا بلا إفراط، مع أيجاد بدائل وهوايات أخري يفضلونها: كالقراءة والرسم والتركيب والتشكيل وأعمال الصيانة المختلفة للأجهزة والمنزل،وتشجيع الأنشطة الحركية والرياضية والبدنية التي أوصي بها سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه حين قال:"علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل".
ماذا عن الإفراط في تناول"الكافيـيـن"؟
أزداد وتنامي الإفراط  في تناول "الكافيـيـن"، حيث مشتقات الكولا الغازية مع كل وجبة ومع كل طعام، ويعقبها القهوة أو الشاي أو قطع الشوكولاته، و"مشروبات الطاقة" التي يُكثر من استهلاكها فتية دون العشرين من العمر "كنمط من الحياة العصرية، والثقافة الغربية"، وقد يحرص أباء علي منع أطفالهم من تناول القهوة والشاي لكنهم يتركونهم لمشروب الكاكاو والشوكولاته، لذا فالأطفال باتوا يتناولون قدرا أعلي من المعتاد لهذه المادة المنبهة، حتى شاع ما يسمي "أطفال الكافيين"، وشوهدت أثارا سلبية وكوابيس ليلية لدي أطفالنا. بيد أن الأمر ليس قاصرا علي الأطفال بل قد يكون ثانويا لما يسمي "مجتمع الكافيين" الذي يهرب من النوم..استمرارا في اليقظة والسهر..أيام الامتحانات، وأيام العطلات، ومن مظاهر الحفلات والإحتفاءات، وعادة سائقي الشاحنات.
لا يعد تناول القهوة والشاي بمقادير معتدلة ضارا بالصحة، بل قد يكون مفيدا في بعض الأحيان نظرا لما يحدثه من نبه خفيف للدماغ، وتوفير بعض الراحة التي تعقب تناول قدح من الشاي أو فنجان من القهوة ، إلا أن الإفراط في تعاطي هذه المشروبات لا يخلو من ضرر، بل قد يكون عند بعضهم نوعا من التعود والإدمان وبالتالي لظهور أعراض انسمامية، عندما يقل القدر المتعود عليه فيحدث التوتر والصداع والقلق تجعل المختصين يصنفوهما وأضرابهما في جملة السموم الخفيفة. لذا وجب التعرف علي مقادير الكافيين مقدرا بالميلغرام في الفنجان الواحد مما نتناوله من مشروبات أو مأكولات " حسب ما ورد عند د. محمد محمود الهواري: المخدرات من القلق إلي الاستعباد، كتاب الأمة، العدد: 15، شوال 1407هـ، ص 127ـ 140، قطر". المخدرات من القلق إلي الاستعباد، م.س.، ص 132." كما يلي:
القهوة العادي:                   75ـ 150ملغ.
نسكافيه:                           60ـ90  ملغ.
القهوة المنزوعة الكافيين:       2ـ4     ملغ
الشوكولاته:                        3ـ60   ملغ
شراب الكولا:                    20ـ30   ملغ " في الزجاجة سعة 330سنتمتر مكعب"
يوجد نوعين من الشاي: الأخضر" تئين بنسبة 5%"، والأسود " تئين بنسبة 2%" ، يعتبر الشاي الأسود اكثر ضررا من الأخضر، ومشروب الشاي المُعد بطرقة الغليان أكثر ضررا من المشروب المهيأ بطرقة النقع. ولا ينظر الجميع إلي الكاكاو ومنتجاته نظرتهم لبقية المنبهات كالقهوة والشاي علي الرغم من أن الكاكاو يحتوي علي مركب التيوبرومين المشابه للكافيين وتبلغ نسبته حوالي 1ـ2%، واكثر ما ستهلك الكاكاو في صناعة الشوكولاته، والكثيرين من اختصاصي الأطفال يعزون نشاطهم المفرط، وتوترهم، وعصبيتهم إلي تناول الشوكولاته بشكل غير معقول ومغلي الكاكاو الكثيف مر المذاق، ويعمل مقويا للقلب، ويشبه في مقادير عالية نفس تأثير القهوة والشاي.
مشروبات الطاقة " Energy drinks" تحوي علي كافيين ما بين 60-80 مليغرام لكل 250 مللي لترا أي ما يعادل 240- 320250 مليغرام/ لتر. في حين تحدد قوائم المواصفات القياسية السعودية للعام 1978م ، والخليجية 1984م، الخاصة بالمشروبات الغازية بالا تزيد كمية الكافيين فيها علي 50 مليغرام في العبوة سعة 250 مللي لترا، بينما في بريطانيا تشترط وضع عبارة "غير مناسبة للأطفال وللأشخاص ذوي الحساسية للكافيين وذلك علي المنتجات التي تحتوي علي كافيين بتركيز أعلي من 125 مليغرام لكل لتر، وفي كندا يتم منع المنتجات التي تحتوي علي كافيين بكمية 150 مليغرام / لتر".
تأثير الكافيين والتئين، و"إدمانهما":
الكافيين/ أو الكافئين هي المادة المنبهة في القهوة ومشتقات الكولا، بينما في الشاي تسمي التئـين وهي مماثلة في التركيب والخصائص الفسيولوجية  للكافيين. وعلي الإجمال فتأثير الشاي في البدن يبدو مماثلا تماما لتأثير القهوة. والكافيين منبهه للجملة العصبية إذا اخذ بمقادير صغيرة، فيساعد علي الإنتاج الفكري والذهني، بينما في مقادير عالية مفرطة يؤدي إلي الاستنفاد الدماغي، مما يتطلب زيادة المقدار لمعاوضة التعب الناشئ من ذلك، كما تساعد علي الأرق وقلة النوم والإرهاق، وفي جرعات عالية ينبه الجملة العضلية والتقلصات القلبية وعدم انتظام الضغط الشرياني، كما يحرض العضلات الملساء في الأمعاء والرحم، كما يؤثر في الجهاز البولي وتساعد علي طرح البولة الدموية Urea والفوسفور، فتساعد علي إدرار البول.
الإفراط في الكافيين يزيد من عدد ضربات القلب لتصل لدرجة الخفقان، مع زغللة بالعينين ورعشة بالأطراف وحدوث التوتر والقلق وعدم التركيز أو الاستقرار. كما إن زيادتها تنقص من فعل خميرة الهضمين Pepsin ، مما سبب التباطؤ في التغذية وضعف الشهية، وتناوب الإمساك والإسهال، مما قد يسبب نحولا ونحافة شديدة مع استمرار تناول هذه الجرعات العالية من الكافيين. وزيادة شرب الشاي تؤدي على حصول الجسم على كميات كبيرة من حمض التنيك الذي يرتبط مع الحديد ومع فيتامين ب12 مما يؤدي إلى نقصهما وبالتالي إلى أنيميا.
لا يمكن اعتبار القهوة من المدخرات الغذائية، بل علي العكس فقد يعتبرها بعضهم ،إذا ما أخذت بمقادير عالية، كعامل استنفاد المدخرات البدنية، وهي في الواقع لا تتمتع بأية قيمة غذائية ـ هي أو الشاي ـ سوي في القيمة الحرارية للسكر المضاف إليهما.
جملة القول:إن كل ما هو صحي مرتبط  بالاعتدال والتوسط في الأمور كلها، والبعد عن الإسراف وبخاصة في المأكل والمشرب، والعادات والسلوكيات، ونمط الحياة، فالإفراط فيها مدعاة  للضرر الصحي والنفسي والسلوكي والاجتماعي والاقتصادي، فهل من عودة "لثقافة الاعتدال" :"وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين"(الأعراف: 31).

بقلم: أ.د. ناصر أحمد سنه ..كاتب وأكاديمي من مصر.
E.mail:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

JoomShaper