نبيل شبيب

بادئ ذي بدء ينبغي التنويه إلى أمرين، أوّلهما أن التركيز الراهن في العالم الغربي -لا سيما في البلدان الأوروبية- على الكنيسة تخصيصا فيما يتعلق بوباء الاعتداء الجنسي على الأطفال، لا ينبغي أن يواري عن الأنظار أنه وباء أوسع انتشارا، وأخطر مضمونا، من حصره في نطاق التناقض ما بين المكانة الدينية للكنيسة على صعيد رعاية الإنسان، وبين ما ينكشف بصورة مذهلة عما ارتكبه ويرتكبه في الخفاء أناس ينتسبون إلى الكنيسة. والأمر الثاني أن تحوّل القضية إلى صدارة وسائل الإعلام في الأسابيع القليلة الماضية من عام 2010م، لا ينبغي أن يحوّل الأنظار عن أن جذور الوباء قديمة، وأن أوّل ما طرح حديثا على صعيدها كان في التسعينات من القرن الميلادي العشرين، ولم تجد مواجهتها حتى الآن ما يكفي من الإجراءات المباشرة أو غير المباشرة، فهي تتفاقم عاما بعد عام.

 

وباء قديم متجدد

على صعيد ألمانيا التي يدور الحديث فيها أكثر من سواها حاليا بصدد الكنيسة واستغلال الأطفال جنسيا، كانت أولى الحملات ضدّ الكنيسة الكاثوليكية تحت هذا العنوان حملة بدأت عام 1845م ولم تنقطع إلى القرن الميلادي العشرين، وأول من أطلقها من عقالها أوتو فون جريفن، الذي ألّف كتاب "مرآة القساوسة" -ويتضمن أصل العنوان تعبيرا تهكميا بالقساوسة- إلا أنّ ما ذكره ومن سار على نهجه من بعده، عن التاريخ الكنسي بهذا الصدد منذ القرون الوسطى الأوروبية، كان يجد الرفض بدعوى أنه وأمثاله من ذوي المنطلقات الحداثية ويستهدفون الطعن في الكنيسة فحسب.
ولكن البحوث المنهجية تجاوزت هذا الاتهام، ومن ذلك مثلا ما قامت به في عام 1994م المؤرّخة الباحثة إمتراود جوتس فون أولنهوزن، إذ أجرت دراسة تحليلية في نطاق تخصصها -التاريخ الاجتماعي- ووصلت إلى نتائج مشابهة بشأن ممارسات كنسية في منطقة بادن الألمانية.
آنذاك -في تسعينات القرن الميلادي العشرين- كانت الأخبار المفزعة تتواتر يوميا عما "يُكشف" عنه من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال والناشئة من الجنسين، وعن أن النسبة الأعظم من مرتكبيها (زهاء 90 في المائة) هم من الفئات الأقرب إلى الضحايا، عائليا كالوالدين والأقارب، وتربيويا كرجال الكنيسة وأساتذة المدارس، واجتماعيا كالمسؤولين عن المتدربين والمتدربات في المصانع والمكاتب، هذا علاوة على أعداد لا تحصى ممّن لم تشملهم الدراسات والمتابعات الإعلامية بما فيه الكفاية، إذ كانوا من ضحايا ما يسمّى "السياحة الجنسية" إلى بلدان "نامية"، وهو ما اشتهرت به تايلاندا أكثر من سواها، وما ساهم به استغلال الشبكة العالمية إسهاما بالغ الخطورة.
لقد وصل حجم ما انكشف من الوباء وسعة انتشاره في تلك الفترة درجة استدعت عقد مؤتمر دولي لمكافحة هذه الظاهرة في مطلع عام 1999م في باريس. ولكن الجهود الدولية والمحلية في كثير من البلدان بقيت على الدوام دون مستوى بشاعة الجريمة نفسها، إذ نجدها تعطي الصدارة لإشكاليات تتعلق بتحديد عمر من يعتبر طفلا أو ناشئا ومن لا يعتبر، ونوعية الاعتداء الجنسي ما بين التحرش والاغتصاب، وهل انطوى على استخدام العنف أم لا، وهل يدخل الاعتداء -وكثيرا ما يسمّى إساءة.. أو استغلال تهوينا من شأنه- في نطاق الجريمة أم الجنحة، ولكن لا نكاد نجد تحرّكا فعالا واحدا على صعيد المعطيات الاجتماعية والقيمية التي يوجد انحرافُها الشروط الأولية لارتكاب الجرائم ونوعيتها وانتشارها.
على أرض الواقع تظهر النتيجة عبر المثال النموذجي التالي، وليس هو الوحيد من نوعه:
قسيس ألماني يحمل اسم "بيتر هـ." انكشف أمر ممارساته الجنسية فأحيل في مطلع الثمانينات إلى "العلاج النفساني"، وحذر الطبيب النفساني من إفساح المجال أمامه للتعامل مع الأطفال والناشئة مرة أخرى، ولم تلتزم الكنيسة بذلك، فاكتُشفت ممارساته المتكررة مجددا بعد خمس سنوات، وحُكم عليه - والحكم يبيّن موقع هذه الجريمة في نطاق التشريعات الجنائية الغربية- بغرامة مالية، قدرها 4000 مارك آنذاك، والسجن 18 شهرا مع وقف التنفيذ!- ونقل من موقعه الكنسي مرة أخرى، ثم اكتشف الآن أنه تابع ممارساته العدوانية الجنسية على الأطفال والناشئة على امتداد 21 سنة تالية، وكانت الحصيلة الأخيرة "عزله" من منصبه الكنسي.
في ألمانيا ظهر في هذه الأثناء أن ارتكاب هذه الجريمة شمل 21 من أصل 27 أسقفية كنسية حتى الآن وفق المصادر الكنسية نفسها، وأن بعض المدارس التابعة للكنيسة وغير التابعة لها، شهدت سنويا المئات من الضحايا من التلاميذ.
وقد انطلقت موجة الاتهامات الراهنة ضد رجال الكنيسة في ألمانيا عن بعض أولئك الضحايا، وبدأت عندما بلغ كثير منهم سنّ التقاعد، ووجدوا أن الدوائر المختصة لم تحتسب لهم السنين التي قضوها في "ملاجئ الأطفال" وفي إطار مطالبتهم بذلك أضيفت المطالبة بتعويضات على ما تعرّضوا له في تلك الملاجئ، وكوّنوا رابطة للضحايا فشجع بعضهم بعضها على الكشف عما كانوا يكتمونه منذ سنوات نشأتهم الأولى، وتحوّلت "القصص الاستثنائية" إلى تيار لا ينقطع، وتركّزت على الكنيسة لأنّ 60 في المائة من أصل 3000 ملجأ للأطفال كانت تحت إشراف الكنيسة وإدارتها خلال السنوات ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م وسنة 1975م. 

الأطفال ضحايا العنف

ما تتركز الأنظار عليه في أوروبا الآن، ولا سيما في إيرلندا وألمانيا، كانت تتركز عليه الأنظار في الولايات المتحدة الأمريكية في التسعينات من القرن الميلادي العشرين. ولا ينفصل الاعتداء الجنسي على الأطفال والناشئة عن ظاهرة الاعتداء الجسدي عليهم على أوسع نطاق، ويبدأ بمجرد الإهمال إلى درجة الموت، ويصل إلى مستوى تسبيب عاهات جسدية دائمة، وفي هذا الإطار تقول المصادر الرسمية الأمريكية عن عام 2005م على سبيل المثال، إنه شهد وصول شكاوى إلى الجهات المختصة تجاوز عددها 3 ملايين حالة، وثبتت -لتوافر الأدلة القانونية- صحّة 872 ألف حالة منها، وكان ضحاياها بنسبة 16،1 في المائة بين عام واحد وثلاثة أعوام من العمر، وتنخفض هذه النسبة تدريجيا لتصل إلى 6،1 في المائة لفئة الأعمار بين 16 و17 عاما. ومقابل ذلك ترتفع نسبة ارتكاب الجريمة من جانب الوالديْن أو أحدهما إلى 78،5 في المائة، تليها 6،5 في المائة على صعيد الأقارب -ومع مراعاة انحراف ما تعنيه كلمة المساواة بين الجنسين- كانت نسبة النساء بين مرتكبي الجريمة 57،8 في المائة.
جميع ما سبق في نطاق "الثابت" بعد التحقيقات، أي لا يشمل حالات يستحيل إثباتها بالدليل القاطع قضائيا، ويعني ذلك -كما نأخذ من مثال آخر حول الوضع في ألمانيا- أن الرقم السنوي الرسمي للضحايا من الأطفال يتراوح بين 15 ألفا و20 ألفا، ولكن الدراسات المنهجية تتحدث عن أرقام أخرى، مثال ذلك دراسة قام بها معهد البحوث الجنائية في ساكسونيا السفلى، وأسفرت عن أن أكثر من 1،4 مليون طفل من أصل حوالي 9،3 مليون طفل في ألمانيا يتعرضون للإيذاء بأنواعه، دون أن يشمل هذا الرقم الاعتداءات الجنسية المباشرة. بينما تقول المصادر الرسمية بهذا الصدد إن عدد ضحايا الاعتداءات الجنسية من الأطفال والناشئة قد تراوح خلال سنوات 1999 إلى 2008م، ما بين 16000 و19500 ضحية سنويا، ولكن نسبة الوصول إلى مرحلة الإدانة وإيقاع العقوبة لا تتجاوز 13 في المائة من عدد الحالات التي يجري التبليغ عنها، بينما تتراوح تقديرات الخبراء حول ما لا يجري التبليغ عنه ولا يصل ابتداءً إلى مستوى التحقيق الجنائي، ما بين 80 ألفا و300 ألف حالة اعتداء سنويا.

اغتيال منظومة القيم

إنّ استغلال الأطفال والناشئة جنسيا ليس ظاهرة مستقلّة بذاتها نشأت بين ليلة وضحاها، بل هي واحدة من تلك الثمار المرّة لتطوّر اجتماعي معكوس، وقع في ظلّ تقدّم تقني كبير، ولم يكن التقدّم يتطلّب بالضرورة قهر القيم ولا وأد الأخلاق ولا تشويه العلاقات الاجتماعية والأسروية. ومَثَل هذه الظاهرة الإجرامية مثل ثمرات مرّة أخرى، ضحاياها من الأطفال والناشئة والشبيبة في الدرجة الأولى، لا سيّما الإناث منهم، كظاهرة "تجارة الرقيق الأبيض" (كما يسمّونها وإن أصبحت النسبة الأعظم من "السلع" فيها من ذوي البشرة "غير البيضاء") أو كظاهرة ارتفاع نسبة "الاغتصاب" وقد ارتفعت أضعافا مضاعفا جنبا إلى جنب مع ارتفاع نسبة الإباحية، أي على النقيض تماما ممّا كان يقال في الترويج للإباحية الجنسية، عبر قول تلاميذ فرويد إنّ الكبت الجنسي هو السبب الرئيسي لارتكاب جرائم الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، فينبغي تحرير الجنس.. لتخفيف الاعتداء، إذ ثبت العكس على أرض الواقع. ومن الثمرات المرّة الأخيرة المرافقة لظاهرة استغلال الأطفال والناشئة، ما نسمّيه ظاهرة سقوط حواجز الرحمة والمودّة والقيم داخل العلاقات العائلية، حتّى أصبحت نسبة الجرائم اعتداء جسديا وجنسيا داخل نطاق العائلة هي الأعلى والأوسع انتشارا والأخطر مفعولا في جلّ المجتمعات الغربية.
إنّ ظاهرة الاعتداء الجنسي على الأطفال والناشئة ظاهرة تتكامل مضمونا وتأثيرا مع تلك الظواهر التي تفتك بمزيد من الأطفال والناشئة، وهذا مع هبوط متواصل مطّرد في وسطي أعمار الضحايا، عقدا بعد عقد، وعاما بعد عام، وفي بلد بعد بلد، بما في ذلك ارتفاع نسبة ارتكاب الجرائم لا السقوط ضحية لها فقط، والمشاركة في نشر المخدّرات لا تعاطيها فحسب، بل أصبحت تلك الموبقات تنتشر في المدارس الابتدائية بعد الثانوية والتوجيهية، وقد انتشرت في هذه بعد الجامعات، كما بات كثير من السلطات الرسمية يرخّص بتلك الموبقات بعد أن كانت التجارة بها "حكرا" على العصابات الإجرامية المنظمة!..

موقع مداد القلم

JoomShaper