روعة قاسم

تونس ـ «القدس العربي»: يشير تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة أن حوالي 80 من المئة من اليافعين في مختلف أنحاء العالم يلجأون إلى المواقع الإلكترونية الخاصة بالذكاء الاصطناعي عدة مرات في اليوم بدون أن تقع الإشارة في هذا التقرير حول ما إذا كان ذلك يتم بإشراف الأولياء أم لا. ووفقاً لإحصائيات أجريت عبر شبكة الإنترنت، فإن 91 في المئة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و15 عاماً تستهويهم الألعاب الإلكترونية ويبحرون في التطبيقات المتعلقة بها مستغلين الهواتف الذكية والحواسيب واللوحات وحتى الساعات.

 

وأمام هذه الأعداد المهولة لمستعملي وسائل التواصل الحديثة والأجهزة الإلكترونية من الأطفال في مختلف أنحاء العالم، يبدو من الضروري على الحكومات كما أولياء اليافعين أن يتخذوا الإجراءات اللازمة لحمايتهم من المخاطر السيبرانية. فالحكومات مطالبة بسنّ التشريعات الحمائية وملاحقة المجرمين فيما يُطالبون بمراقبة أجهزة أطفالهم وأنشطتهم اليومية في هذه المواقع والتطبيقات والصفحات والتبليغ عن كل من يستهدف أطفالهم ويتحرش بهم افتراضيا أو يؤثر في سلوكهم أو يحتال عليهم.

ومن بين المخاطر التي باتت تعترض الأطفال متصفحي الإنترنت تلك التطبيقات الذي ظهرت مع تطور الذكاء الاصطناعي والتي يمكن استغلالها من قبل المجرمين لاستهداف الأطفال مثل المتعلقة بتحميل الصور لتلقي نسخ معدلة عنها. فهذه التطبيقات بإمكان أي مجرم أن يستدرج من خلالها أطفالا ليرسلوا له عددا لا بأس من صورهم ثم يقوم باستغلالها لأغراض تجارية دون إذن الأولياء أو حتى لأغراض دنيئة لابتزاز الطفل أو ذويه أو لتشويه شرف الفتيات خصوصا في المجتمعات المحافظة.

كما أن المحادثات مع صفحات الذكاء الاصطناعي قد تتضمن تغريرا بالطفل لدفعه إلى ارتكاب جرم ما أو للتمرد على والديه أو على المربين في المؤسسات التعليمية أو على المجتمع ككل فيتحول الطفل تدريجيا إلى مجرم خطير وهو في بيته أمام جهاز إلكتروني. كما قد تتضمن كلاما مثيرا للغرائز لدى الطفل اليافع أو المراهق فيصبح مدمنا على التواصل مع هذا الذكاء الذي تمت برمجته للإجابة على كل الأسئلة الممكنة في هذا الإطار وذلك بطريقة مثيرة لهذا المراهق أو ذاك.

ويمكن تصيد الأطفال والمراهقين من قبل اللصوص من خلال المواقع والصفحات التجارية التي تبيع مختلف البضائع مثل لعب وملابس واكسسوارات الأطفال والأجهزة الإلكترونية وغيرها. فعندما يتواصل الطفل مع هؤلاء الباعة الإلكترونيين قد يطلبون منه رقم بطاقته البنكية أو أرقام بطاقات والديه وبيانات متعلقة به وبوالديه ومن خلال هذه البيانات يقوم اللصوص بالدخول على الحساب البنكي وسرقة الأموال سواء من حساب المراهق، إن كان له حساب، أو من حسابات والديه.

 

الألعاب الإلكترونية

 

ولعل أكثر التطبيقات التي يمكن من خلالها التغرير بالأطفال هي تطبيقات الألعاب الإلكترونية التي يقوم من خلالها المتحايل ومن خلال الإعلانات باستدراج الطفل وكذلك بالحديث معه مباشرة على أساس أنه نظير له في السن يريد أن يشاركه اللعب فيكسب ثقته. وبعد اكتساب هذه الثقة مع الوقت ومن خلال اللعب المشترك يصبح المتحايل قادرا على فعل أي شيء سواء السرقة أو الابتزاز أو التغرير أو استدراج الطفل إلى ما لا يحمد عقباه في غفلة من الآباء والمجتمع الذي قد يتفطن لكن بعد فوات الأوان.

ويُخشى مستقبلا من أن تتحول الأجهزة الإلكترونية إلى أدوات للتجسس على البيوت ومعرفة ما يتم الحديث فيه بين جدرانها ويتم استغلال الأطفال في هذه العملية بعد إغرائهم للولوج إلى بعض التطبيقات التي تمكن من اختراق جهاز الهاتف أو الحاسوب أو اللوحات أو الساعات. كما يمكن في هذه الحالة أن يستغل اللصوص وعصابات السلب والنهب هذه الأجهزة ومن خلال الأطفال لمعرفة أوقات خلو المنازل من أصحابها لاستهدافها بالسطو واختلاس ما غلا ثمنه.

 

استقالة الأولياء

 

خبير الطفولة والأسرة في تونس إبراهيم ريحاني أكد لـ«القدس العربي» بأن العنف الرقمي هو من أهم التهديدات التي تواجه الأطفال، موضحا بأن كل ابتزاز يواجهه الطفل في الفضاء الإلكتروني يصنف ضمن العنف السيبراني. وأضاف: «والحقيقة أن من أهم الأسباب التي تجعل أطفالنا يعيشون العنف الإلكتروني هو استقالة الأولياء من عملهم التربوي وذلك ليس فقط بالمتابعة والمراقبة وانما بالقرب من أطفالهم والتواصل معهم وتلبية الحاجات النفسية لهم».

وتابع: «لا بد للولي من أن يراقب صغيره على مستوى المواقع التي يبحر عبرها وأن يجد ما يسمى بالمناعة الذاتية لديه، وعلينا أن نجعل أطفالنا يكتسبون المناعة لإدراك الصالح والطالح لهم». وقال إن سوء معاملة الأطفال وفقدانهم للإشباع العاطفي يجعلهم عرضة لمظاهر العنف سواء السيبراني أو غيره. وقال أيضا: «يجب على الأولياء أن يتجنبوا المقارنة بين قدرات أبنائهم وأقرانهم لأن ذلك يجعل الأبناء يشعرون بالنبذ ويبحثون عن مصدر الأمان في مكان آخر بعيدا عن العائلة ويقضون أوقاتهم في الإبحار عبر الإنترنت بكل ما يحمله ذلك من إيجابيات وسلبيات». وأضاف: «بالنسبة للحلول أهمها على الإطلاق الاستماع والتواصل الجيد مع الأبناء وبعد ذلك نستطيع ان نتحدث عن الرقابة، إذ يجب أن نكون أصدقاء ويجب أن نفكر بإيجاد مناعة ذاتية لأولادنا وهذا يصعّب استقطاب الأبناء في المواقع أو الأشياء التي تهددهم، فأهم سلاح هو تقوية الحماية الذاتية لديهم».

 

تحول سوسيولوجي

 

أستاذة الاعلام في الجامعة اللبنانية والخبيرة في الميديا نهاوند القادري قالت لـ«القدس العربي» إن العنف الإلكتروني الذي يطال الأطفال في مجتمعاتنا العربية يحصل ضمن إطار تحول سوسيولوجي شامل في مرحلة الحداثة المتأخرة. وترددت أصداء هذا التحول في مجتمعاتنا التي اعتادت على التماهي مع الغرب الذي تعتبره متقدما. إذ لم تكتف باستيراد التكنولوجيا وانما أيضا الأفكار والبرامج والطروحات وأساليب العمل.

لقد حصلت في مجتمعات الحداثة المتقدمة انعطافة تاريخية فيما يتعلق بأساليب التنشئة الاجتماعية والتي غدت تحركها اليوم آليات تعددية ومفتوحة عمادها الفردانية المُتعية والمُشخصنة واللامبالاة. وتعتبر الاستقلالية الفردية أمرا طبيعيا عزّز من ذلك الأساطير التي أحاطت البيئة الرقمية نفسها بها، وهي بيئة أفقية غير هرمية تفاعلية تسودها المساواة الطبيعية يستوي فيها الجاهل بالعالم والأستاذ بالتلميذ والخبير بعديم الخبرة. وتترك اللامساواة على أرض الواقع جانبا وتصوّر نفسها غير معنية بها، وما يهمها هو ديمومة الاتصال بهدف المراقبة ومضاعفة الأرباح.

وتتابع محدثتنا: «ولذلك أَشيعت ثقافة ما بعد حداثية سمتها أنها غير متمركزة وغير متجانسة تعجّ بالمفارقات اباحية ومستترة ومتجددة وماضوية استهلاكية وبيئية معقدة وعقوبة ناعمة وعنيفة لذلك نشهد دمقرطة غير مسبوقة للكلام. فالجميع متصل بالهواتف، الكبير والصغير والكل لديه رغبة في قول شيء ما، انطلاقا من تجربته الخاص، وأحيانا من غريزته ونزقه. وكلما أكثرنا في التعبير كلما لم يعد هناك ما يقال وكلما ازدادت الذاتية والنرجسية وكلما كان الأثر متخفيا وفارغا».

وتضيف القادري: «لقد شهدت التنشئة الاجتماعية المنضبطة والتي كانت تعهدها المجتمعات في القرن الماضي تشققا طويلا بعد ان تمّ العمل على تشكيل مجتمع مرن قائم على الاتصال والإعلام وإثارة الحاجات والجنس تحت عنوان أخذ العناصر الإنسانية بعين الاعتبار وتقديس الطبيعي والدعابة. وبهذا تغدو الشخصنة شكلا أساسيا لتنظيم المجتمع لتوجيهه وتدبير سلوكياته. فبعد أن كان المنطق الحاكم في الحياة السياسية والأخلاقية المدرسية يغمر الفرد بالقواعد الموحدة ويغرق الخصوصيات الفردية في قانون متجانس وكوني، بدأنا نرى بأن هذا التنظيم الصارم للحرية هو الذي اختفى تاركا مكانه قيما جديدة تسمح بظهور الشخصية الحميمية بحرية وبشرعنة التمتع والاعتراف بالمطالب المتفردة وضبط المؤسسات على تطلعات الأفراد».

وقالت: «لقد تم سحق المثل الأعلى المتمثل في اخضاع الحياة الفردانية للقواعد العقلانية الجماعية ورفعت عملية الشخصنة من شأن قيمة أساسية وهي تحقيق الذات واحترام التفرد الذاتي وهذا ما صعّب من العملية التعليمية في المدرسة، خصوصا بأن التلامذة غدوا يعانون من نقص في الانتباه وقلة تركيز وعدم امتثال للتراتبية، وخاصة للأساتذة وهذا ما صعّب أيضا من العملية التربوية للأهل خصوصا أولئك الذين يعانون من الأمية الرقمية أو أولئك الذين ليس لديهم وقت للاعتناء بأولادهم بسبب اللهاث وراء العمل ومتطلبات الحياة، أما القوانين على أهمها فإن المنصات الرقمية غدت فوق الدول وفوق القوانين تمارس رقابتها وفقا لمصالحها وأهوائها».

 

التربية الرقمية

 

أما فيما يتعلق بالحلول لكل هذه الاشكاليات خصوصا أمام تصاعد أعمال عنف الرقمي الذي يطال الأطفال في هذا الزمن تجيب القادري: «يمكن أن تعمل المدرسة على إعادة النظر في برامجها وان تحدث مواد للتربية على الاتصال وعلى الإعلام والتربية الرقمية، فهذا جيد وقد يخفف من وطأة المشكلة. إنما أيضا المدرسة لوحدها لا تكفي لان هناك حاجة لتدريب الأهل على أساليب العمل في الفضاء الإلكتروني وعلى كيفية المراقبة وتدريبهم على التوسط بين الإنترنت وبين الأولاد. وهذه مسألة قد تكون صعبة انما يمكن التفكير فيها». وتضيف: «وأيضا يجب تفعيل القوانين وتطبيقها بشكل غير استنسابي علاوة على إعادة النظر في طرق التعليم والتربية، لأنه حصل نوع من الانبهار بطرق التربية الحديثة وهذا الانبهار ونبذ كل ما هو قديم والأخذ بكل ما هو حديث ربما أحيانا علينا أن نتوقف أمامه.

وهنا أذكر للأمانة ان جيل ليبوفوتسكي هو من أثار اشكالية الشخصنة في كتابه «عصر الفراغ» (الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة) وقال إن التلميذ عندما يتساوى بالأستاذ والصغير عندما يتساوى بالكبير والجاهل بالعارف يتحول هؤلاء إلى أشخاص مستبدين وهذا دليل على ما نشهده من عنف في الفضاء الافتراضي الرقمي الذي يقدم نفسه على انه خارج أي تراتبية وأي هرمية والكل متساوون بهذا الشكل. وما نشهده هو مزيد من العنف ومن الكراهية والتشتت والتشرذم. فهناك عديد المفاهيم والأمور التي يجب إعادة النظر فيها لمواجهة كل هذه المخاطر».

JoomShaper