رشا كناكرية
عمان- يواجه الكثيرون صعوبة في التعبير عن حبهم ومشاعرهم، حيث يجدون صعوبة في قولها أو إظهارها في تصرفاتهم. ولكن عندما يتعلق الأمر بأطفالهم، وعجزهم عن التعبير عن حبهم لهم، هنا تكمن المشكلة الحقيقية.
في مرحلة الطفولة، يحتاج الطفل إلى أن يشعر بحب وعاطفة والديه، وأن يبادلهم ذات الشعور. يجب عليهم إظهار حبهم له من خلال الكلمات والتصرفات والسلوكيات، والاهتمام والرعاية.
الأمر لا يقتصر فقط على توفير الأساسيات والاحتياجات لعيش كريم، بل للأسف، بعض أولياء الأمور لا يعرفون كيف يعبرون عن مشاعرهم لأطفالهم، مما يجعلهم يعيشون طفولة فيها حرمان عاطفي.
وهذا الحرمان العاطفي الذي يعيشه الأطفال تسقط آثاره السلبية النفسية والاجتماعية على حياتهم المستقبلية.
يعترف عامر عبد الرحمن (38 عاماً) بأنه يجد صعوبة في إظهار عاطفته لأطفاله، على الرغم من حبه الكبير لهم. لكنه يشعر بالخجل من التعبير عن مشاعره، سواء بقول "أحبكم" أو حتى من خلال احتضانهم.
يبرر عامر تصرفه بأنه لم يتلق هذا النوع من التعبير عن المشاعر من والده، حيث لم يخبره يوما بحبه أو يحتضنه أو يعبر عن مشاعره له، ولهذا وجد نفسه يتعامل مع أبنائه بالطريقة ذاتها.
"شعور أنا انحرمت منه، صعب أعبره لأبنائي"، يقول عامر بحزن. فهو يدرك تماما أنه بحاجة إلى التعبير عن حبه لأطفاله، لكنه لا يعرف الطريقة المناسبة لفعل ذلك. وعلى الرغم من بساطة الأمر، إلا أنه يجده صعبا، بحسب وصفه.
توضح سمر (17 عاما) أنها لا تعلم ما إذا كان والدها يحبها أم لا، إذ لم يسبق له أن أخبرها بحبه أو احتضنها، وتصفه بأنه "إنسان جامد".
وتشير سمر إلى أن طبيعة والدها في عدم إظهار عاطفته جعلتها تتساءل عن مشاعره تجاهها، ما تسبب لها بشعور بالحرمان العاطفي. هذا الإحساس دفعها إلى العيش في حالة من الوحدة والعزلة، مبتعدة عن عائلتها.
تذكر سمر أنه عندما لاحظت والدتها أنها تجلس وحدها لفترات طويلة، بدأت تسألها عن سبب هذا التصرف. حينها، صارحتها بأنها تشعر بأن والدها لا يكن لها مشاعر الحب. فأخبرتها والدتها أنه يحبها كثيرا، لكنه لا يعرف كيف يعبر عن حبه، لأنه لم يتلق العاطفة في طفولته.
وهنا بدأت سمر تعذر والدها وقررت أن تتخذ خطوة لمساعدته، حيث بدأت بالتعبير عن حبها له والاقتراب منه لتساعده في أن يعبر عن مشاعره تجاهها. وفعلا، بدأت تشعر بتغير في علاقتها به كلما اقتربت منه أكثر.
من الجانب التربوي، يبين الاختصاصي عايش نوايسة أن الطفل بحاجة إلى نمو متوازن في الجوانب النفسية، الاجتماعية، والعاطفية، وأي نقص في أحد هذه الجوانب يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات كبيرة وسلوكيات سلبية. فالإنسان ككل يحتاج إلى العاطفة، الحنان، الحب، بالإضافة إلى جانب اجتماعي يتعلق بالتعبير عن المشاعر.
يوضح نوايسة أن الحرمان بجميع صوره، أيا كان نوعه، هو شكل من أشكال السلوك السلبي الذي يعيشه الطفل، وله انعكاسات كبيرة على شخصيته. ويشير إلى أن الآباء لديهم عاطفة تجاه أبنائهم، لكنهم قد لا يعرفون كيف يعبرون عنها أو لا يمتلكون طريقة لإيصالها. أحيانا، قد ينظرون إلى هذا الأمر على أنه شيء عادي. في الواقع، هم يحبون أبناءهم ويريدون لهم الأفضل، ويرغبون في تقبيلهم واحتضانهم، ولكن بسبب أنهم حرموا من هذه العاطفة في طفولتهم، لا يستطيعون ممارستها كسلوك.
ووفق نوايسة، فإن المجتمعات العربية عموما تميل إلى تصوير الأب كشخصية خشنة، بينما تعتبر الأم أكثر ميلاً للحنان والعاطفة، وهذه طبيعة سيكولوجية. ومع ذلك، يفترض أن يكون الأب في البيئة والثقافة العربية جافا وخشنا، رغم أنه يحمل في داخله عواطف كبيرة وجياشة. إلا أن طبيعة الثقافة والمجتمع الذي يعيش فيه تؤثر عليه، مما يجعله يمارس هذا السلوك مع طفله.
يؤكد نوايسة أن سلوك الحرمان بشكل عام هو سلوك سلبي، إذ يتكرر عبر عدة أجيال؛ حيث يربي الأب ابنه بالطريقة نفسها التي تربى بها، وبالتالي سيربي الابن بدوره أبناءه بنفس الأسلوب. وهكذا، يبقى جانب الحرمان من العاطفة مستمرا.
وينوه نوايسة إلى أن تعليم الطفل أنه يجب أن يكون خشنا بقول "كون زلمة، لا تبك، لا تتدلل" هو أمر خاطئ. فالشخص يتأثر بمجموعة من العوامل الكبيرة. لذلك، عندما يعاني الطفل من حرمان عاطفي، فإن هذا الحرمان يتجذر لديه ويؤثر عليه في علاقته بأبنائه في المستقبل. وبالتالي، يصبح هذا السلوك سلوكا مجتمعيا.
يبين نوايسة؛ تعتبر الأم الوحيدة القادرة على العناية بالجانب العاطفي وتخفيف الحرمان، لكن الطفل يحتاج إلى تلقي جرعات من العاطفة من والديه، وأحيانا من خلال تصرفات بسيطة مثل مسح يد الابن أو تقبيله واحتضانه. هذه سلوكيات بسيطة، وليست مجرد أقوال، بل هي أفعال يجب أن يعيشها الطفل ويشعر بها.
من جهة أخرى، إذا كانت درجة الوعي والثقافة عالية جدا لدى الابن، وكان تعليمه وثقافته مختلفة، فقد يتمكن من التعويض عن ذلك ولا يتصرف مثل والده. ورغم أن هذه حالة موجودة، إلا أن القالب العام الذي نتعامل به مع أبنائنا غالباً ما يكون فيه بعض الخشونة.
يؤكد نوايسة أن الإنسان بحاجة إلى من يشبع حاجاته النفسية من الحب والحنان والعاطفة والصداقة. في بعض الأحيان، يجب أن يكون الأب قريبا من أبنائه وأن يكون صديقا لهم، فهذا جزء من الحنان الذي يساعده على فهم نفسية الطفل وكيف يفكر وينظر للحياة ومنظوره بشكل عام.
يؤكد نوايسة أن الحنان هو نوع من أنواع التربية، ولكن للأسف، نحن نمارس الرعاية من خلال توفير احتياجات الطفل بشكل كامل، وهذا لا يغني عن الجانب التربوي الذي يتعلق بتقديم جرعات من الحنان لأطفالنا. وبذلك نكون قريبين منهم.
يذكر نوايسة أن حرمان العاطفة قد يدفع الطفل إلى الابتعاد عن عائلته والبحث عن العاطفة في أماكن أخرى، مما يؤدي إلى شعوره بالعزلة. واليوم، هناك أمور تشجع على هذه العزلة، مثل الأجهزة الرقمية التي أصبح الطفل يتعرض لها بكثرة. والمحتوى المعروض على هذه الأجهزة يؤثر على سلوكه وتربيته، وهذا هو واقعنا اليوم ومشكلتنا الرئيسية.
نحن أمام جانبين لحل هذه الإشكالية، بحسب نوايسة. الجانب الأول هو مسؤولية الأسرة، حيث يجب عليها الاقتراب من الأبناء، خاصة أن التقنيات الحديثة قد فرضت عزلة بينهم. لذلك، من الضروري أن تقضي الأسرة وقتا معا لتعزيز الروابط العائلية.
يشدد نوايسة على أننا بحاجة إلى نوع من التربية يختلف عن مجرد الرعاية، والأهم هو تقديم التربية الفعالة. يجب أن نكون قريبين من أطفالنا ونتفاعل معهم في حياتهم اليومية، مما يعزز التواصل والتفاهم بينهم.
ومن الجانب النفسي يبين الاختصاصي باسل الحمد أن مشكلات الحرمان العاطفي تمتد من اضطرابات في النمو وقد تصل في بعض الحالات إلى أشكال معقدة من الاضطرابات الصحية.
يذكر الحمد أن هناك دراسات أكدت أن الأطفال الذين يفتقرون إلى الاتصال المستمر مع والديهم، حتى في حال توفير الاحتياجات الأساسية، قد يتعرضون لخطر الوفاة المفاجئة.
وينمو الأطفال ليصبحوا غير قادرين على التعبير عن مشاعرهم، مما قد يدفعهم إلى الدخول في علاقات سامة مع الآخرين، سعيا لتعبئة فجوة الحرمان العاطفي من خلال الاعتماد على الإشباع المادي.
ويشير الحمد إلى أنه قد يبدو أن الأمر يقتصر على ذلك ولكن الأمر أكثر تعقيدا، حيث إن كثيرا من الاضطرابات النفسية المنتشرة اليوم نمت في بيئات قاسية عاطفيا أو في بيئات يسود فيها الدلال بحيث يتم إغراق الطفل بالاهتمام بديلا عن التعبير عن الحب.
ويبين الحمد أن عدم قدرة التعبير عن العواطف سببها الرئيس حلقة طويلة من العلاقات العائلية السامة التي تنتقل عبر الأجيال، مبينا أننا نميل غالبا إلى نمذجة أشكال الحديث والتواصل والتعبير وننتهي إلى أنماط تشبه أنماط الوالدين.
ووفق الحمد فإن التغلب على الحاجز العاطفي يبدأ باعتراف الوالدين بأن أنماط الحرمان العاطفي في أسرهم لم تكن صحية. ولا فائدة من ادعاء قدرتهم على تربية الأبناء تربية صحية بينما يقارنون تربيتهم بأنماط تربية غير صحية.
ويختتم الحمد حديثه؛ إذا كانت تربيتنا قاسية، فلا يعني ذلك اللجوء إلى أنماط تربية متساهلة. وإذا كان أهلنا قد حرموه من العاطفة والحب، فلا داعي لتكرار هذا الأمر أو إغراق أطفالنا بعواطف قد تؤثر عليهم سلبا.