تغريد السعايدة
عمان- يواجه الأهل صعوبة متزايدة في تحديد الوقت المناسب “لترك الساحة خالية من الرقابة في عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي”. وبين من يؤيد تجربة الطفل لهذا العالم بوجود بعض الضوابط، ومن يعارض ذلك بشدة، يبقى الهاتف الذكي في متناول الأطفال واقعا لا مفر منه في ظل سيطرة التكنولوجيا على حياتنا.

يلجأ الأهل غالبا إلى نصائح المختصين أو نتائج الدراسات لمعرفة كيفية التعامل مع أبنائهم بالمحتوى الذي تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات البث المختلفة، بما يشمل معلومات وأفلاما وعلاقات اجتماعية وآراء متنوعة. وفي هذا السياق، قد يجد الأطفال أنفسهم “كالإسفنجة التي تمتص كل تلك المعلومات”، وهنا يكمن دور الأهل في توجيههم نحو ما يفيدهم، وتعليمهم كيفية اختيار ما يناسبهم بعيدًا عن التأثيرات السلبية.



يتفق العديد من أولياء الأمور على صعوبة منع أطفالهم من استخدام الهواتف الذكية، سواء كان ذلك للعب، أو مشاهدة برامج الأطفال، أو حتى للدراسة وتعلم مهارات جديدة عبر التعليم الإلكتروني والمنصات التعليمية. لهذا، أصبح من الضروري وجود تدخل من الجهات المختصة لتحديد المحتوى، وتطوير برامج ومنصات ملائمة تقدم مواد تناسب كل مرحلة عمرية للأطفال واليافعين.
مؤخرًا، وفي مؤتمر الأسبوع العالمي للدراية الإعلامية والمعلوماتية، الذي تنظمه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” بالشراكة مع وزارة الاتصال الحكومي، وجرى تنظيمه في عمان، ناقش المشاركون في جلسة بعنوان “التنقل عبر الحدود الرقمية الجديدة: المعلومات التي تخدم المصلحة العامة باستخدام الدراية الإعلامية والمعلوماتية” أهمية تحديد العمر المناسب لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي. وأكد الخبراء أن العمر المناسب لاستخدام هذه المنصات هو 16 عاما فما فوق، نظرا للمحتوى المتاح الذي قد لا يكون ملائما لمن هم دون هذا السن.
يبرر خبراء ذلك بأن الأجيال الجديدة لم تعد تتابع القنوات الإعلامية التقليدية، مما يجعل السن المناسب لهم لمتابعة مواقع التواصل الاجتماعي هو 16 عاما. ويؤكدون على ضرورة تحسين محتوى ما يبث، وذلك من خلال تأثير صانعي المحتوى على اتجاهات الجمهور، وتعزيز مفاهيم الدراية الإعلامية في ظل تراجع الإقبال على مشاهدة التلفاز. إذ يتجه الشباب بشكل متزايد نحو مواقع التواصل الاجتماعي للحصول على المعلومات.
وفي الأردن، يزداد عدد الأطفال واليافعين الذين يمتلكون هواتف ذكية، مما يتيح لهم متابعة كل ما يبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات البث المختلفة، وأشهرها يوتيوب. حيث أظهرت أحدث الدراسات الإحصائية أن عدد مستخدمي الإنترنت في الأردن يصل إلى حوالي 10.33 مليون شخص، ومن بين هؤلاء، هناك 6.38 مليون شخص يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، مما يمثل 56.2 % من إجمالي عدد السكان. ووفقا لمصادر إعلانات جوجل، كان لدى يوتيوب 6.38 مليون مستخدم في الأردن في بداية عام 2024.
ولكن، يتساءل كثيرون عما إذا كان عمر السادسة عشر مناسبا ليكون الطفل متاحا للدخول إلى شبكة الإنترنت بكل ما تحتويه من “غث وسمين”. وفي هذا السياق، يعتقد المستشار والمختص التربوي الدكتور عايش النوايسة أن هذا العصر يتميز بتغيرات كبيرة في مجالات الحياة، بما في ذلك تغييرات في أدوات ووسائل الإعلام وإشكالها، والتي تسهم اليوم، بجميع صورها وأشكالها، بشكل كبير ومؤثر في تشكيل الحياة العامة للناس من خلال تأثيرها المباشر.
يمتاز العصر الحاضر بكثافة العناصر الإعلامية، وتنوع أشكالها، وسرعة تفاقمها وانتشارها، مما يجعل متابعتها ومجاراة تأثيرها أمرا صعبا. وأمام كل ذلك، تراجعت الأدوات والوسائل الإعلامية التقليدية، مثل التلفاز وقنواته الأرضية والفضائية، بحسب النوايسة، ليحل مكانها وبنسبة مرتفعة جدا مواقع التواصل الاجتماعي التي استقطبت شريحة كبيرة من الناس، وخاصة الأطفال والشباب.
يؤكد النوايسة أنه بالمقارنة مع طبيعة المحتوى، ما يزال ما يقدم على الوسائل التقليدية موجها، حيث يتم التحكم فيه وتحديد أهدافه وتأثيره. أما في مواقع التواصل الاجتماعي، فقد اختلط "الحابل بالنابل"، وأصبح المحتوى غير خاضع لمعايير مهنية أو مجتمعية أو ثقافية. وبالتالي، أصبح لدى الشباب كل مرغوب ممنوعا، مما أدى إلى فقدان المجتمع والأسرة السيطرة على طبيعة هذا المحتوى، الذي أصبح بحاجة إلى صناعة وتقديم محتوى يتناسب مع المرحلة العمرية والنمائية. وهذا الوضع أوجد حالة من عدم التوازن العاطفي والاجتماعي والنفسي لدى الأطفال.
يرى النوايسة اليوم أن الأسرة تواجه تحديا كبيرا مرتبطا بتعلق الأبناء المفرط بمواقع التواصل الاجتماعي وما يبث عليها من محتوى يصعب على الأسرة السيطرة عليه أو فلترته. كما أن تقنين استخدام الأبناء للأجهزة الرقمية وزيارة مواقع التواصل، بما في ذلك المحظور منها في الأردن، أصبح أمرا معقدا. في ظل هذا التحدي والعجز، يتشكل سلوك الأبناء بناء على ما يشاهدونه ويتابعونه على تلك المواقع، حتى في جوانب مثل الشرب والأكل واللباس وغيرها. ولا شك أن هذا يشكل خطرا على منظومة القيم الأسرية والمجتمعية، مما يؤدي إلى صراع بين الأجيال، حيث يصر الأهل على أن كل ما هو قديم حسن، بينما يعتبرون كل ما هو جديد ترفا وسلبيا.
يعتبر أستاذ الإعلام الرقمي في جامعة الشرق الأوسط، الدكتور محمود الرجبي، أن فكرة متابعة الأطفال لمنصات التواصل الاجتماعي في سن السادسة عشرة ليست صائبة، إذ إن الطفل في هذا العمر لا يمتلك القدرة على ضبط سلوكه الاجتماعي والأخلاقي، ولا يستطيع تحديد ما يشاهده أو يشارك فيه بشكل سليم.
وواقعيا، نجد أن الأطفال يبدأون في استخدام هذه المنصات والتطبيقات والألعاب في سن أصغر بكثير، مما يعرضهم لمحتوى غير مناسب.
وفقًا للرجبي، فإن بعض هذه المخالفات التربوية قد تسهم فيها بعض الأسر، بسبب رغبتهم في إشغال أطفالهم عنهم قليلا أو نتيجة ضغوط الحياة، أو بسبب عمل الأم أو غيرها من الأسباب. ومع ذلك، يعتقد الرجبي بشكل عام أن مضامين المنصات الرقمية غير ملائمة للأطفال، بل وحتى للكبار في الكثير من الأحيان، خاصة تلك التي لا تخضع لأي رقابة أخلاقية.
يستشهد الرجبي بوجود منصات تسمح بنشر محتوى غير أخلاقي، بما في ذلك خطابات الكراهية والتعليقات المسيئة. يعود ذلك إلى أن الهدف الأساسي لهذه المنصات هو تجاري بحت، حيث تزيد أرباحها كلما استمر المتابع في استخدامها لفترات أطول، مما يؤدي إلى زيادة انتشارها في الوقت نفسه.
وفي هذا السياق، ينوه النوايسة أن التربية تتحمل دورا كبيرا في تقديم تربية إعلامية معاصرة تهدف إلى تسليح الطلبة بالوسائل اللازمة لحمايتهم من مخاطر الاتصال الرقمي، في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات. يجب تعليمهم كيفية الاستفادة من المواقع والمعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت، والتحقق من مصداقية المعلومات المنشورة، والتمييز بين الشائعة والخبر الحقيقي، وكذلك بين وجهات النظر والمعلومات. إن هذا الأمر يعد أمراً مهما في عالم الإنترنت والمعلومات والمجتمع الرقمي، حيث يمكن الطلاب من التعبير عن آرائهم بشكل مسؤول وتفاعلي، وقبول الرأي والرأي الآخر.
ينصح النوايسة بضرورة تركيز التربية الإعلامية المناسبة على تعليم إنتاج المحتوى المرئي، وصحة الأخبار، وأخلاقيات بث ونشر المحتوى الإعلامي، بالإضافة إلى قضايا الخصوصية والأمان عبر الإنترنت. كما يجب تزويد الطلبة بمنهج خاص للتعامل مع الأخبار والأحداث من خلال تمكينهم من مهارات التفكير الناقد، بحيث لا يقبلون الخبر أو الحدث كمسلمات. ينبغي عليهم تحليل الأفكار ونقدها وتمحيصها للوصول إلى الحقيقة ثم نشرها.
من جهته، يعتقد الرجبي أنه يجب على المجتمع اتخاذ موقف حازم تجاه السماح للأطفال بمتابعة منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات والألعاب الرقمية. يتطلب ذلك من الجهات المعنية، بما في ذلك الأسرة والمجتمع والمؤسسات التعليمية، التعاون لزيادة أماكن الترفيه المخصصة للأطفال، وإعادتهم للعب في الأحياء وفق ضوابط معينة، لضمان استمرار تواصلهم مع الواقع الحقيقي بعيدًا عن العالم الافتراضي لأطول فترة ممكنة. بالإضافة إلى ذلك، يشدد على ضرورة إعادة النظر في أساليب التدريس في المدارس لبناء إنسان قوي قادر على مواجهة الطوفان الرقمي، الذي للأسف لا يعترف بالقيم الأخلاقية أو المبادئ، ولا يراعي الخصوصيات الثقافية لكل مجتمع.
ووفق النوايسة على أن للتربية دورا كبيرا في إعداد جيل يتمتع بالمعرفة والفهم لقضايا الأمة، مما يساعدهم على فهم حقوقهم وواجباتهم، وتقدير قيم الشورى والإخلاص وحب الوطن والانتماء الصحيح، واحترام الآخر، والحرية العادلة، ومواجهة الشائعات والتضليل، ومحاربة الانحرافات الفكرية. لتحقيق ذلك، يجب أن يتبنى المنهج التعليمي أساليب مناسبة تتماشى مع هذه الأهداف. ويتطلب الأمر وجود منهاج متطور قادر على استيعاب التغيرات والتطورات المتلاحقة في جميع الأصعدة والمجالات، مع ضرورة الاستناد إلى المنحى التكاملي في المنهج، بحيث تصبح التربية الإعلامية جزءا من تعلم وتعليم كافة المواد الدراسية، بدلا من تقديمها كمادة منفصلة.

JoomShaper