فارس محمد عمر
"وجوه وأصوات مخيفة". " أتحرك، أثبت، أنشد، أسكت، أكتب، ألون، لا فرق، لا شيء يعجبهم". "لم أنا فاشل لا أفهم ولا أفلح؟". أسئلة تُثقل رأسه فينغمس في حيرة وظلام وسط الكبار.
"يسخرون ويضحكون مني". "اهانات وإعراض مهما عملت، لا مساعدة". اشتد عليه احتقان عينيه وازدحام أنفاسه حتى انفلتت خواطره تباعا. "كيف أكون كما يريدون؟ متى يبتسمون؟ متى يهتمون؟ متى يَصدُقون؟ متى يكلمونني بلا إهانات؟". توقفت أفكار الغلام وهو يتساءل "لم لا يحبونني؟" وماج التراب تحت قدميه وسط دموعه وهو يبتعد بخطى مهزوزة بطيئة عن المدرسة ليصل البيت ويتجاوزه، فكلاهما من اركان باقي سجنه حيث لا طعم ولا حب ولا هدف.
إنتفخ رأسه وصدره حزنا وغيظا من اعراضهم. الألم جعله يدرك أن خواطره وافكاره ملكه هو، يقودها ويتحكم بها كجوارحه فاخذ يجمع الأحرف والكلمات التي حفظها ويشكل بها افكارا جديدة جريئة في رأسه لا يسمعها غيره: "أقدر أن أتصرف، أقدر أن أكون مثلهم. أنا قوي وعنيف وسألفت انتباه الـ....."، وراجع ذاكرته مقهورا ليقبض بقوة على صفة كريهة يرمونه بها فيردها عليهم أمام نفسه، وأكمل: "وسألفت انتباه المغفلين... كلهم... نعم سيلتفتون الي".
تدفقت الكلمات ساخنة في جسده وتسارعت أنفاسه وخطاه فاصطدمت قدمه بحجر حاد آلمه وزاد بكاءه فاذا حقده المتراكم يتفجر على كل حي وجامد، واذا القشة شرارة قوية. رفع الحجر وجسمه يرجف، وقذفه بقوة وتابعه بنظره وهو يهوى ويحطم زجاج سيارة واقفة في طرف الشارع.
وقف الصغير يحملق في الشظايا وحولها الحياة الرتيبة الجامدة فارتخت اجفانه وأصابعه وجسده. قفز وعيه من الظلام واتسعت دائرة نظره في لحظة. اتضحت الأشياء في الشارع الصغير أمامه كأن لم يره منذ ولد فيه. اختفى شلال دموعه وارتوى بها قناع وجهه الجامد فانشق عن ضحكة طويلة واسعة، وانطلق يجري ويضحك ويصيح مناديا أقرانه، ويقفز كأنه يرقص وحقيبته تثب وتتدحرج خلفه وهو لم يجرها وراءه بتجاهل قط، فلطالما حملها على ضعف وكُرْه. لم يكن لأحاسيسه معنى يفهمه لكنه ظل يجري ويضحك، ثم ألقى بحجر ثان وثالث وبما التقطته أصابعه من خشب أو حديد، ومعها كلمات بذيئة لم ينطق بها من قبل. في لحظات تمرد على ظلام سجنه وتصرف بجوارحه كما يتصرفون مهما كانت النتيجة. في لحظات تولّد فيه دافع جديد خطر لا ذنب له فيه.
انتقل السجن المظلم الخارجي الى داخل الطفل على ما ألقي في إناءه، فكبر لا يصدر منه غير العجلة والتصيد والتشفي. فطرته البريئة السليمة ابتلعتها دوامات القدوة السيئة. تُربته النظيفة الخصبة الطرية جففتها أجواء ملتهبة وشتتتها رياح عقيمة وزلزلتها الأرض بعنف فامست بؤرة حمراء تسيل بالصديد على ما حولها بلا مقدمات وبلا تمييز، وباطنها لا يهدأ اضطرابه ولا تنتهي حرارته، فقد افتقد برد اللطف وجمال التقدير ولذة حسن الظن.
وتكون خراج جديد في جسم المجتمع.
في جسم المجتمع
- التفاصيل