زينب نبّوه
في مركز انطلاق السومرية في ريف دمشق، حيث يوجد تجمع السيارات والبولمانات المتجهة من العاصمة دمشق إلى لبنان والأردن وبعض المناطق السورية.. أول ما يستقبلك عند المدخل الأطفال وهم يتزاحمون حولك بشكل جماعي لحمل حقيبتك وما معها من أغراض إلى موقف السيارات داخل المركز، وفي حال عدم حصول أحدهم على فرصة للحمل يتقاسم البعض فيما بينهم الأغراض، وعندما تقترب أكثر تكتشف أعداداً كبيرة من الأطفال ذكوراً وإناثاً يتجولون بين السيارات الواقفة والتي تستعد للانطلاق يعرضون عُدة تسوّلهم العلكة والمياه واليانصيب وبعض المنتوجات السورية، من جرابات وقمصان ومناشف وشراشف صغيرة وغيرها.
أعمارهم لا تتجاوز الثانية عشرة يرتدون أسمالاً بالية، وينطقون كلمات يستجدون فيها الركاب بكلمات تحمل الذل والانكسار، وجوههم شاحبة، وعلاماتهم الفارقة بشرة سوّدتها الشمس، وجمعهم الفقر والجهل والإهمال، فأصبحوا زملاء، أطفالاً مشردين جائعين، مظلاتهم الشمس المحرقة صيفاً وأكياس النايلون الممزقة التي تنساب منها الأمطار شتاء. دوامهم أكثر من كامل، يبدأ صباحاً مع شروق الشمس ويستمر حتى غروبها، وأحياناً يستمر إلى الليل مع وجود السيارات في المركز.
الركاب بشكل عام ينفرون من هذا المنظر، ويتعرض الأطفال للإهانة والشتيمة أحياناً والرفض بشكل قاطع عند عرض بضاعتهم. فمن الركاب من يغلق نافذته أو باب السيارة لمنعهم من الاقتراب، فيعاودون الكرة من جديدة بطرقِ شباك السيارة والإلحاح على الركاب لشراء شيء ما.
إنه نوع من التسول القاهر الذي يجبر الأطفال على تلقي الصدمة تلو الصدمة، ويشعرك هذا المنظر بطعنات موجعة في داخلك، إنهم أولادنا، جزء مظلم من كيان الوطن ومستقبله وحضارته التي نتغنى بها.
والمؤسف أنك تجد مثل هؤلاء الأطفال أينما انتقلت وأينما اتجهت متمركزين في مواقع استراتيجية يطبقون على السيارات يريدون تنظيف زجاجها أو يعرضون العلكة أو محارم الورق، وهناك من يمد يده مباشرة للتسول. وفي كل المراكز المخصصة لنقل الركاب في مرآب البولمانات المتجهة إلى المحافظات السورية، وفي مرآب السويداء وحوران ومركز انطلاق القابون، وسرفيس صيدنايا ومعلولا، وتحت جسر الرئيس وبوابة الميدان، ونهر عائشة وفي البرامكة ومركز المدينة وفي كل مكان من شوارع دمشق وتحت جسورها وأعاليها وعلى أرصفة الشوارع تراهم في كل مكان.
يتمتع هؤلاء الأطفال بطاقات هائلة فيما لو نُميت واستُخدمت استخداماً سليماً.. يتميزون بالذكاء والجرأة والإقدام حتى الوقاحة، ومحاولة اكتشاف الأساليب المناسبة للحصول على الهدف مهما كانت الصعوبات، ولكنهم بكل أسف يعيشون في عالم من الطفولة المجروحة والمستثمرة، فبحكم وجودهم خارج المنزل والمدرسة لساعات طويلة ينجرّون وبحكم السن إلى المخاطر والانحراف والتهلكة.
وينحدر هؤلاء الأطفال إجمالاً من عائلات فقيرة كبيرة العدد، يكون فيها الأب إما عاطلاً عن العمل أو يعمل في مهن متواضعة قليلة الدخل وغير ثابتة أو بسبب التفكك الأسري. واللافت أن أبرز العوارض المتشابهة لدى هؤلاء الأطفال هي الأمراض الجلدية وسوء التغذية، إضافة إلى الحالات النفسية المتردية جداً والناجمة عن الاعتداءات الجنسية المتكررة.وهناك رابطة بين الأزمة المعيشية وتفاقم الوضع، فللوضع الاقتصادي الصعب أثر كبير في هذه الحالة. فالعائلة الفقيرة المعدمة والتي لا تجد ولو فتات الخبز تسكت بها جوعها، تدفع بأطفالها إلى الشوارع بغية التسول وتأمين مدخول مادي، بصرف النظر عن المخاطر التي يتعرضون لها.
لن أتناول اليوم وضع الأطفال الذين يعملون في مهن شاقة صعبة، مثل خدمات السيارات وصيانتها، ميكانيك، دهان، تلحيم إطارات، أو ورش البناء وحمل الأثقال والوقوف على السقالات العالية وغيرها من أشكال عديدة لعمل الأطفال البشعة وغير المقبولة، لأن آثار الأعمال الخطيرة عليهم هي أكثر حدة منها على البالغين، وذلك بسبب الفروق في وظائف أعضائهم وتركيبهم الجسدي، وأن الدوام اليومي الطويل للعمل مرهق للطفل وطاقته الجسدية.
ورغم أن سورية أصدرت تشريعات تحظّر تشغيل الأطفال أو تضع قيوداً صارمة عليها مستمدة عدداً كبيراً من المعايير التي اعتمدتها منظمة العمل الدولية، ورغم هذه الجهود لايزال عمل الأطفال منتشراً على نطاق واسع، وفي بعض ا لأحيان في ظروف مروعة، وإذا كان التقدم بطيئاً أو غائباً لأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفقر، فهؤلاء الأطفال يعملون لأن بقاءهم وبقاء أسرهم يعتمدان على ذلك، ولأن من يملكون المال يستفيدون من ضعفهم ويستمر قبولهم عمالاً كنظام طبيعي للأمور.
ويلاحظ في سياق حقوق الطفل موجات من الحماسة من المعنيين والمسؤولين، فتوضع الخطط والبرامج الرعائية وتعقد المؤتمرات التي تكلف الدولة المال الكثير، وتعود المشكلة بعد ذلك إلى مكانتها الهامشية في سلم الاهتمامات، رغم أن سورية كانت من أوائل الدول التي استجابت لدعوة الأمم المتحدة في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتبني وتصديق اتفاقية حقوق الطفل، فقد صدر القانون رقم 8 تاريخ 13893 بالانضمام لهذه الاتفاقية والتي عُدّت “جزءاً من التشريع الوطني الواجب التطبيق”. وأرى أنه من الضروري ملاءمة التشريعات الوطنية مع روح ومضامين اتفاقية حقوق الطفل والمصادقة على كل الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان. وضمن توجهات وزارة العدل، أُحدثت لجان استشارية للأسرة والطفولة مؤلفة من قاض شرعي وقاضٍ للأحداث وباحث اجتماعي مهمتها المشورة القانونية والاجتماعية لأطراف الأسرة حول حقوقهم ووسائل ممارستها وإزالة عوامل التناقض بين أطرافها، وتستمع اللجان لأي طفل يدّعي سلب حق له أو يخشى ضياعه، بدلالته على وسائل لقضاء حقه ومتابعته في الجهات القضائية والإدارية. كما تبنت سورية إعلان التعليم للجميع وغيره من المواثيق الخاصة بحقوق الأطفال وحمايتهم.
والسؤال هل يتحقق ذلك؟ غالب الظن أن الإجابة هي لا، فهناك لائحة طويلة من المعوقات والصعوبات التي يعيشها الأطفال لا تتناسب شكلاً ولا موضوعاً ولا حتى اسماً مع عالم الطفولة. وأوضاع أطفال الشوارع تسقط كل كلام أو حتى اعتراف بمشكلاتهم الأساسية.
إن التحولات الاقتصادية في سورية نتيجة سياسة اقتصاد السوق انعكست على الأسر ذات الدخل المحدود، فأضافت فئات جديدة من الأطفال المحرومين إلى أطفال الشوارع والعاملين المعرّضين للاستغلال والمحرومين من فرص التعليم ورعاية الأسرة. وبرغم جميع التشريعات والأنظمة والاتفاقيات الدولية التي تنظم عمل الأطفال، تدل المشاهد اليومية على ازدياد هذه الظاهرة المقلقة ذات الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، فمكافحة عمل الأطفال مسألة معقدة وطويلة الأجل وتحتاج إلى تعاون الأطراف المعنية بالموضوع. وهي مسؤولية ملقاة على عاتق الجميع، ولابد أن يكون لدينا سياسة اجتماعية وإرادة وطنية واضحة وتنمية ثقافة حقوق الطفل في مجتمعنا، وأن يلعب الإعلام دوراً في طرح الأوضاع الحقيقية للأطفال، لا من باب اللهو والتسلية، بل بربطها بمضامين جادة.
صور موجعة لأطفال بؤساء من بلادنا
- التفاصيل