نعم الباز/المصري اليوم
بلا جدال ولينظر كل منا حوله لأطفاله، وأطفال الآخرين، ليس فى مصر وحدها، ولكن فى المنطقة العربية كلها، وكأننا عن تعمد نفرغ المنطقة من البشر المنتمين إليها.. لينظر كل منا لهؤلاء الصغار الذين تحولوا إلى حيوانات استهلاكية ليس للطعام المُغَرَّب فقط، مثل البطاطس فى الأكياس، والهامبورجر، والدجاج المقلى، وأنواع الحلوى التى تنزل إلى المعدة فتصيبهم بأمراض لا يستطيع أى طبيب اكتشافها،هذا عن غذاء الجسد، ناهيك عن غذاء الوجدان بأغان وموسيقى هى خليط من موسيقى الغرب وموسيقى الجاز وموسيقى تصدع الأدمغة، وتجعل أجسامهم الصغيرة تتحرك مثل الزمبلك، ضاعت موسيقى العبقرى على إسماعيل، رحمه الله، التى استقاها من أغانى الحصاد وأنين الساقية والناى المصرى منذ «الفرعونية» وحتى الآن، ولا يعلمون شيئًا عن موسيقى وغناء العبقرى سيد مكاوى، ولا يعلمون شيئًا عن بيرم التونسى، أو أحمد رامى، وصولاً للغارف من أرض الوطن القادر على التواصل الوطنى والشعبى عبدالرحمن الأبنودى.. تم إبعاد الطفل وتهميشه غذائيًا ووجدانيًا، ثم اقتصاديًا أيضًا.
الطفل يأخذ مصروفه الآخذ فى الزيادة بشكل مدهش، ليجرى فورًا ليشترى ما لا يشتريه الآن الطفل الإنجليزى أو حتى الأمريكى، وهم مخترعو الهامبورجر، والدجاج المقلى الذى يملأ مخ الطفل بالكوليسترول..
فهم يفتحون الثلاجة ليتناولوا علبة المشروب الغازى ويشربوا نصفها ويلقوها فى «الزبالة» ليتناولوا غيرها بعد نصف ساعة، والأمهات يتشدقن بإعجاب، «الولد طول النهار على علب الكذا والكذا»، حتى لا أسقط فى بئر الإعلانات، وتقوم الأم فورًا بطلب السوبر ماركت لأن الثلاجة ليس بها سوى 4 علب، ولن تكفى حتى آخر الليل!! ثم تفتح له التليفزيون لتملأ وجدانه بما تبثه القنوات الفضائية من أغان ملتهبة.
وأشارك منذ أشهر بسعادة كبيرة فى التحكيم فى مسابقات الأطفال سواء إبداعهم المكتوب من شعر ونثر وقصة، أو ما يقدم لهم من أغان وبرامج ومسلسلات، وأفتح التليفزيون لرصد ما يقدم لهم.. أختبر حفيدى وحفيدتى وأفراد أسرتى من الأطفال وهم أحفادى أيضًا أرصد ما يقدم، وكأن هناك تعمدًا لتهميش هؤلاء الأطفال، وكسر انتمائهم للوطن..
لم أجد برنامجًا - إلا لوجه الحق فيما ندر - يقدم حكاية من تراثنا، أو موسيقى من تراثنا، أو قصة بدوية مثلا تحض على الفروسية، أو كاميرا تنقل أطفالاً يمشون من بيوتهم إلى المدرسة فى المركز المجاور، أو صغارًا يجمعون القطن، أو ينقذونه من الدودة.. لم أر أطفال الفيوم يجمعون العنب أو التفاح.
- سألت طفلة فى العاشرة عن حلمها؟
- قالت أسافر أمريكا وأنا راكبة طيارة هيلوكوبتر علشان أشوف أمريكا من فوق.
حلم عجيب!! حلم غريب وكأنها تريد أن ترى كل شىء فى أمريكا، ولا تمشى فى الشوارع فقط.. استيقظت فيها الرغبة فى رؤية كل شىء مرة واحدة.. خوفًا من عدم تحقيق الحلم مرة أخرى.
وطفل سألته عن مستقبله.. لم يقل «طبيب أو ضابط أو مهندس»، كما كانوا يقولون منذ ثلاثين عامًا، وإنما قال:
- عاوز أسافر وأتعلم هناك!
- فين؟
- فى أى بلد من البلاد اللى مالية التليفزيون.. أمريكا، سويسرا، ألمانيا.. أى بلد نظيف. الولد.. والده طبيب ووالدته مهندسة كمبيوتر، وبيتهم فى الشيخ زايد، فيلا جميلة بحمام سباحة أى طبقة فوق المتوسطة وتقترب من الطبقة الأرستقراطية، لكنه يعيش مناخ وأحلام الهجرة إلى الخارج!!
حينما اجتاحت العراق الكويت كنت عائدة من إيطاليا بالطائرة، وقابلت أسرة كويتية عائدة من لندن إلى القاهرة ليستقروا بعد اجتياح الكويت، وسألت الصغير.
- أين كنت؟
- عند خالى فى لندن.
وكانت الطائرة مليئة بالكويتيين الذين طاروا ليقضوا الصيف بالخارج، وهذا وارد للحر القائظ فى الكويت، ولكن فى صيف عام ألفين كنت فى شهر أغسطس فى الكويت، وكانت الصديقة الدكتورة سعاد الصباح تقضى الصيف فى بيتها على الخليج المجهز للصيف بالتكييف وكل ما يجعل البيت مريحًا، وقالت لى وقتها «أحب الصيف هنا والليل بديع وليس حارًا كما تتصورين وليست كل الأيام حارة»..
كان حديثها ليس شرحًا لكنه كان انتماء حيث استطاعت أن تنتمى، وحتى حينما تركت الكويت وزوجها المبارك جاءت واشترت بيتًا فى القاهرة، وذاكرت للدكتوراة وحصلت عليها، ولم تشتر بيتًا فى نيس أو كان أو كاليفورنيا كما يحدث الآن. الانتماء ليس أغنية ولا عقالًا ودشداشة، وليس أكلة ذرة مشوى على النيل، الانتماء سلوك وتربية وإعداد.. الانتماء للأطفال حكايات وطعام وأغان فيها رائحة الوطن.
إن ما شاهدته من إنتاج الصغار وما يقدم للصغار لا يبشر بمستقبل جيد لكل المنطقة.. إنه تفريغ للمنطقة من البشر والوصول لمستقبل شديد التشويه.
أطفالنا مهمشون ولا ينتمون
- التفاصيل