بعضهم تحرقهم الأضواء والعديد منهم يدفع ثمن فشل أو طموح الأباء
القاهرة: صابرين شمردل
قمع الطفل أو استغلاله، من القضايا الشائعة في عصرنا، وتقع تحت مسميات وأقنعة كثيرة. بعضها يتم بشكل غير مباشر وباسم حسن النية مثل وضع الطفل في دائرة الضوء والشهرة، كتقديمه إلى عروض الموضة والأزياء أو الإعلانات التلفزيونية، في استغلال واضح في بعض الأحيان لحس الطفولة البريء في ملامحهه. وفي أحيان أخرى يتم الأمر باسم الطفل نفسه الذي يستعجل خطواته ومراحل نموه، أو يزج به لتعلم هوايات واكتساب مهارات، ربما في الغالب الأعم لم يكن ليعرفها أو يهتم بها لولا اهتمام والديه بها. فالأب يدفع بابنه لتعلم رياضة ما حتى يصير نجما فيها، ويعوض ما لم يستطع أن يفعله في طفولته وشبابه، والأم تريد أن تحقق لها طفلتها ما لم تحققه بسبب ظروفها العائلية التي كانت تمنعها، أو تريد أن تكون ابنتها صورة طبق الأصل منها، لها ملامحها وطبيعتها وروحها، بل مجال تعلمها وسلكها الوظيفي. وفي كل هذا يفقد الأطفال حريتهم مبكرا، وبعد أن تذوب فرحة الطفولة بشيء جديد وجميل، يشعرون بالتعاسة لأنهم لا يكونون على وفاق مع أنفسهم.
وفي حالات كثيرة يكتشفون أنهم يقومون بأشياء لا تعبر عن همومهم وطموحاتهم في الحياة، بل تجعل فكرة النموذج القدوة، فكرة مشوهة ومضطربة، بل منفرة أحيانا. وهناك حالات كثيرة أودت بعدة أطفال إلى براثن الإدمان المبكر بسبب تعاستهم وعدم قدرتهم على التعامل مع الأضواء والشهرة، أو فقط لأن الأضواء انحسرت عنهم بعد بلوغهم سن المراهقة وفقدانهم ملامح الطفولة البريئة، التي كانت رصيدهم الوحيد.
وفي الحياة الواقعية، هناك أيضا حالات قد لا نسمع عنها، لكنها معاشة. بنبرة لا تخلو من آسى تقول مدام كوثر محمود، ربة منزل: «أنا المسؤولة عن جعل ابني يبتعد تماما عن ممارسة إحدى هواياته المفضلة التي لاحظت أنه يحبها. كنت ألاحظ أنه يحب الموسيقي فكنت أهتم بأن يدرسها ويتدرب عليها، وأحلم بأن يصبح موسيقارا كبيرا، لكن ربما أرهقته بكثرة دروس الموسيقى وما يتبعها من واجبات وتدريبات شاقة، حتى قال لي ذات يوم بغضب مكتوم: (أنا في إجازة يا ماما نفسي ألعب شوية.. كل الأجازة واجبات وتدريبات أنا تعبت). وبالفعل امتنع عن الذهاب للتدريب ولم يقترب من يومها من آلة موسيقية، على الرغم من موهبته، وهو الآن في الحادية والثلاثين من عمره».
أما حنان عادل، الفتاة الجميلة التي تخرجت في الجامعة حديثا كمهندسة، وتخطو خطواتها الأولى على سلم الوظيفة، فتروي باكية، كيف أن كل أحلامها كانت وهي طفلة أن تلعب مثل بقية الأطفال وتلهو معهم، لكنها في المقابل دخلت مجال العمل مبكرا، حيث عملت كطفلة في الأفلام والإعلانات، وكان والدها يصطحبها للغناء في الحفلات». تضيف أن الأمر في بدايته كان ممتعا «فأنا سأظهر في التلفزيون، وسيراني أصحابي والمعلمون في المدرسة والأقارب، ولم أكن أعلم أني لن أعيش طفولتي وأتحول إلى مجرد لعبة يحركونها حسب متطلبات العرض. وإلى الآن أشعر بالحسرة على طفولتي الضائعة التي لن يعوضني عنها مال الدنيا. حتى موهبتي التي كانت تدهش الناس باتت مكبوتة بداخلي فلم أعد النجمة ونسيني الجميع، ولم تعد عندي رغبة ولا طاقة للدخول في هذا العالم مرة أخرى. عندما أنجب أنوي أن أبعد أطفالي عن هذه التجربة وأتركهم يعيشون طفولتهم بحرية، وربما أعيش طفولتي المؤودة معهم».
تفاصيل المشهد لا تختلف كثيرا لدى (ن.أ.ع) موظفة مرموقة بمؤسسة حكومية، فعلى حد قولها لا تزال تشعر بالنقص الذي صاحبها حتى بعد أن أصبحت زوجة وأما بسبب معايرة أبيها لها بأنها لا تصلح للتمثيل في برامج الأطفال مثل إحدى القريبات، بحكم أنها كانت خجولة، وفشلت في اختبار قبول أطفال للتمثيل والاستعراضات.
صفاء عباس محمد تعمل في مجال الغرافيك، اكتشفت أن ابنها البالغ من العمر خمس سنوات شغوف بالرسم والتلوين، وأنه موهوب جدا في مجال الفن التشكيلي وعمل التركيبات المختلفة، حتى ألعابه يقوم بتركيبها فوق بعضها صانعا منها أشكالا متناسقة. تقول بحماس: «أشجع ابني على تنمية موهبته بتوفير الأدوات اللازمة وباصطحابه إلى المعارض الفنية لتنمية ذائقته البصرية، وأذهب به إلى الورش المختلفة التي تعلم الرسم، لكن المشكلة في زوجي الذي يتهمني بأني أضغط على ابني ليتعلم شيئا لا يريده لأعوض من خلاله ما كنت أتمنى أن أحققه. لكنني لا أتفق معه، فأنا فنانة ولا أحتاج أن أحول ابني إلى ضحية، بل فقط أساعده على أن يكون نفسه، بتشجيعه على اكتشاف موهبته ويستغلها أحسن استغلال. كل ما أتمناه له أن يقرر ما يريد بعد أن يكبر ويستطيع أن يأخذ قراراته بنفسه، لأن ما كنت أتمناه وأنا صغيرة هو أن يكون لي زوج يفهمني يقدر ما أقوم به من مجهود من أجل طفلي بدلا من إحباطي».
لكن السؤال الملح هنا هو: ما الخيط الفارق بين تنمية موهبة الطفل وحثه عليها؟ وهل من الممكن أن ينفر الطفل من شيء يحبه فعلا؟ وما تأثير عمالة الأطفال في التمثيل والإعلانات وعروض الأزياء على نموهم النفسي؟ وكيف نشجع أطفالنا وننمي مواهبهم من دون أنانية؟
توجهت «الشرق الأوسط» بكل هذه الأسئلة للدكتور صلاح الدين صبحي بولس، استشاري طب المخ والأعصاب والطب النفسي، فرد قائلا: «هناك عوامل تنفّر الفرد عموما، وليس الطفل فقط، من أمر ما، أو على العكس ترغبه فيه. عندما يكون الأمر ضد رغبات الطفل، فهو هنا لا يكتسب أي مهارة بل يكره وينفر من الموضوع كله، وبالتالي لا يجب إكراه الطفل على تعلم شيء لا يحبه أو غير موهوب فيه، أما إذا تم اكتشاف أن الطفل يميل إلى أمر ما، إما رياضة أو قراءة أو رسم إلى آخره فيجب الأخذ بيده وتنميته، لكن من غير تشدد أو تعنت حتى لا يتحول الحب إلى فرض ثقيل. فهذا سلوك مرفوض وغير تربوي حتى بالنسبة للبالغين».
وأشار إلى أن دخول الأطفال مجالات التمثيل والإعلانات وعروض الأزياء في سن مبكرة، أمور غير مستحبة، خصوصا إذا لم تكن نابعة منه، وتم إجباره عليها. فعلى الطفل أن يعيش مرحلته السنية وتوجيهه فقط.
فعندما يميل الطفل إلى هواية يكون أساسا موهوبا فيها، أما إذا شعر الآباء أنها كامنة وتحتاج فقط إلى إخراجها وصقلها، فعليهم أن يساعدوه على أن يكتشفها بنفسه وبشكل تدريجي، بتشجيعه وتحبيبه فيها، من دون أن يشعر أنها مفروضة عليه. فهذا هو دور الأسرة عموما، أن تحتضن موهبة الطفل لا أن تفرضها عليه.
حرية طفلك في الاختيار.. حق له وواجب عليك
- التفاصيل