دمشق
عبد الباقي يوسف
يحتاج كاتب قصة الطفل أن يقرأ بتدبر وتأمل ما يكتبه الطفل من أفكار، وإن كان يتمتع بذائقة فنية أيضاً، فيمكنه أن ينظر إلى ما يرسمه الأطفال، هنا يستخلص شيئاً جديداً من عالم الأطفال ذات الشيء الذي أخفق في استخلاصه وهو يتحدث إليهم وجهاً لوجه، لان الطفل يمكن ألا يقول كل شيء من خلال اللفظ اللساني المباشر بسبب بعض العوامل النفسية فهو قد يلقى حرجاً في استرسال حديث طويل أو يشعر بحياء وهو يعبر عن مشاعره، بيد أنه من خلال التعبير الفني والأدبي لا يواجه هذه المشكلة، بل قد يعبر بشكل أكثر تعبيراً وقوة لأن الخيال في هذه الحالة يكون له معيناً، وأيضاً الوحدة التي يكون فيها تعينه على التركيز فيما يود البوح به.
إذاً عليه أن يكون قارئاً ليس جيداً للأدب الذي يكتبه الطفل، بل بارعاً أيضاً ويتمتع بقوة ملاحظة في تلقي النص الأدبي الذي ينظر فيه.
من جهة أخرى، يمكننا الاستفادة من القصة التي يكتبها الطفل في محاولة منا لإجراء مقارنات بينها وبين القصة التي يكتبها الكبار للأطفال، وهي مقارنة يمكن أن تكتسب درجة الأهمية القصوى بالنسبة لكاتب الطفل على وجه الخصوص، لأنه يستمد منها زاد التخاطب الأدبي مع مخيلة الطفل في علاقة تكاملية – هذه المرة – بين الطفل المبدع، وبين الكاتب الكبير المتلقي، ثم قلب هذه العلاقة بكثير من الحذر لتولد منها ثنائية علاقة تكاملية بين الكاتب المبدع، وبين الطفل المتلقي.
إن ما يكتبه الطفل يكتسب أهمية أولى قبل أي كتابة أخرى سواء كانت من الكبار للكبار، أو من الكبار للأطفال، مهما كانت هذه الكتابات متقدمة في درجات التحليل والتوفيق، لكنها بالنسبة لكاتب الطفل تفتقد روح التلقائية الطفلية في التعبير، هذه التلقائية التي هي امتياز خاص بالأطفال دون غيرهم.
أريد أن أوضح بأن التلقائية هنا تشبه حمل آلتي تصوير فيديو، واحدة يحملها رجل، والأخرى يحملها طفل، فترى الرجل يركز على مقاطع التصوير لأنه يشعر بأن المصور يمثله، ويجلب عليه مسؤولية، بيد أن الطفل يقوم بالتصوير التلقائي دون أن يخطر بباله أن المصور يمثله، وإذا كان التصوير في موقع حساس، فلجأ إلى ما قد صوره الطفل بالدرجة الأولى لأنه يكون قد التقط الحقيقة كلها بتلقائيته.
التلقائية تكتسب درجة التصديق والثقة أكثر من غيرها، وبناء عليها قد تصدر أحكام قضائية هامة بحق الكبار الذين وقعوا في قفص تلقائية طفل.
وبناء على هذه الثقة يعتمد الكثيرون على تلقائية الأطفال في معرفة الحقائق، فعندما يخرج طفل مع أبيه لبعض الوقت من البيت يمكن أن تسأله أمه فيما بعد عن الأشخاص والأماكن والأحاديث التي سمعها لأنها تدرك بأنه سيقول الحقيقة كلها ربما أكثر من أبيه الذي قد يواري بعض الحقيقة.
وهذا يحدث أيضاً بالنسبة لأهل التحقيق في الحوادث والجرائم التي تقع بوجود أطفال، ورغم أن الطفل شخص لا يؤخذ بقوله كونه دون سن الرشد أو البلوغ إلا أن قوله يؤخذ على محمل الثقة بالنسبة للمحقق، كما هو الحال بالنسبة للأم في البيت.
وهكذا، فإن كاتب قصة الطفل يثق بالقصة التي يكتبها الطفل، ويسعى إلى قراءتها بكثير من التدبر والتأمل والتأويل.
اشتهر الأطفال عبر التاريخ بالعبقرية والنبوغ، وكان الإغريق يصفون العبقرية بالجنون المقدس، أو بالإلهام الإلهي.
استطاع الطفل كار كويت أن يلفت نظر العالم إلى عبقريته عندما استقبلته جامعة لا يبزغ دكتوراً للفلسفة وهو في الرابعة عشرة من عمره، وكذلك الأمر بالنسبة للفيزيائي الشهير اللورد كلفن/ الذي دخل جامعة / غلاسكو/ في العاشرة من عمره، وبعد سنتين حقق ألقاباً جامعية متقدمة.
لا تقتصر العبقرية على فئة دون غيرها ففي دراسة لـجانكز عام 1964 يقول بأنه تعرف على فئة من العباقرة في أحياء شيكاغو الفقيرة، ولكن ذلك يحتاج إلى البحث عن هذه المواهب يقول: لكي تجد أطفالاً موهوبين حسبك أن تؤمن بذلك، وترغب رغبة حقيقية في البحث عنهم.
حتى أننا يمكن أن نعثر على ملامح العبقرية والإبداع من خلال قراءة صفحات أدب الناشئة في الصحف والمجلات الأدبية فترى أفكاراً مدهشة يكتبها أطفال.
علينا أن ننتبه إلى أن الطفل وهو يكتب، لا يتجه بكتابته إلى الطفل مثلما يفعل كاتب قصة الطفل الذي يركز كتابته إلى عالم الطفولة، بل هي كتابة منبثقة من عالم الطفولة إلى عالم الكبار، ولذلك يمكننا التعرف على الطفل من خلال ما يكتب حتى إذا كان هذا الطفل أصم، وهو حين يكتب لا يتجه بكتابته إلى شريحة معينة، بل يكتب منطلقاً من طبيعة تلقائية الطفولة اللامسؤولة التي هي ميزة خاصة بالطفل دون غيره.
هنا علينا أن نتجنب بشيء من الحذر مقارنة الطفل بالمجنون حتى لو تشابهت بعض التصرفات والأقوال والسلوكيات، لان المجنون هو شخص يدور في متاهة الجنون، وعقله غير قابل للنمو والتطور، في حين أن الطفل، هو شخص عاقل يتقدم في درجات العقل والمعرفة والانفتاح على منارة الحياة.
لذلك يرى بيتر بروك أن نميز كثيراً بين الأدب الذي يكتب للطفل بشكل خاص، وبين الأدب الذي يقرؤه الطفل بشكل عام، لان الطفل قد يقرأ شيئاً للكبار من مكتبة البيت، وقد يحدث العكس، فيقرأ الكبير شيئاً من الأدب المكتوب بشكل حصري للطفل.
عند ذاك يمكننا التعرف بشكل جيد على خصائص وميزات قصة الطفل، ويمكننا التفريق بينها وبين قصة الكبار، والطفل أيضا عليه أن يميز بين القصتين، وعلى قصة الطفل أن تستقطبه أكثر من قصة الكبار، إذا خير الطفل بين قراءة قصتين، واحدة للأطفال، والأخرى للكبار.
إن الطفولة شبيهة بزهرة يانعة شفافة تظهر للوجود في الأيام الأولى من الربيع، وتحتاج إلى عناية مركزة، وعوامل بيئية طبيعية حتى يكتمل نموها، وتتفتح أوراقها، وتقدم للبيت كله، للحديقة كلها أريج عطرها الفواح، ثم تهب طيب العسل من خلال نحلة تقوم بزيارة إليها، ثم تقدم انشراحاً، وراحة نفس ونظر لناظرها، ثم تقدم لمسة جمالية إلى الحياة.
كلما كانت العناية بتربية الطفل مركزة، استمد الطفل ملامح شخصيته من صلب هذه العناية التربوية والأدبية.
حول أهمية ما يكتبه الطفل
- التفاصيل