«كل عام أقضي أسبوعاً من العطلة الصيفية مع زوجتي وطفلتي البالغة من العمر ست سنوات في اللاذقية، لكن إجازة هذا العام كانت مختلفة كلياً،فقد مارست على طفلتي دورالشرطي والرقيب،لم أسمح لها بالابتعاد لحظة عن ناظري ولم أسمح لها بالذهاب حتى إلى السوبر ماركت المجاور لشراء كيس شيبس بدون مرافقتي أنا أوزوجتي. في الماضي لم أكن حذراً هكذا ولم أكن قلقا ًلهذا الدرجة لكن ما حصل مؤخراً نبهني وحذرني وفتح عيني بأن طفلتي صغيرة وبريئة وبأن في الخارج وحوشاً لاترحم وبأن في مجتمعنا نماذج بشعة كثيرة
مسكوتاً عنها لانسمع بها إلاعندما يتصيدها الإعلام وتتحول إلى قضية رأي عام ولا أريد لطفلتي أن تكون الضحية التالية التي تتصدر العناوين وتتحول إلى عبرة لمن يبدو أنه لا يعتبر». تلك هي حال «مازن» الموظف في وزارة الاقتصاد والتجارة منذ أن سمع عن قصة الطفلة خولة ذات الأربع سنوات التي كانت ضحية لأربعة شبان تناوبوا على اغتصابها ثم رموها في مكان مهجور ملقين التراب فوقها بعد ظنهم أنها فارقت الحياة. حادثة بشعة لم يمر من الزمن ما يكفي ليمحيها من أذهان السوريين...أثارت ضجة كبيرة وحركت الرأي العام وتصدرت وسائل الإعلام نظراً لتفاصيلها المؤلمة.
العين تدمع
قصة خولة لم تكن الأولى من نوعها ولا الأخيرة، سبقتها حادثة الطفل ماهر ابن الست سنوات الذي قتل بعد الاعتداء عليه وألقيت جثته في مزرعة، وحادثة الطفلة رقية التي أقدم الجاني على استدراجها بإغوائها بكيس شيبس وقام باغتصابها ثم خنقها ودهس رأسها بقدميه، أما الضحية الأحدث، فهي الطفلة هبة التي وجدت مؤخراً في حالة مزرية بعد تعرضها لاعتداء جنسي في أحد الأحياء الشعبية في مدينة حلب. ما يميز تلك الحوادث عن الأعداد غير المعروفة من الجرائم المشابهة، هي أنها تسربت لوسائل الإعلام أو أن ذوي الضحايا فيها اختاروا أن يحولوا قصتهم إلى قضية رأي عام؛ علّ المأساة لا تتكرر، ولأن الدرس كان قاسياً والثمن في كل مرة كان غالياً، كان يؤمل من تلك الضجة أن تؤتي ثمارها وألا تكون مجرد «جعجعة بلا طحن» فلا يبقى من الحادثة سوى التشهير والألم والذكرى. وهنا يعود دكتور علم الاجتماع في جامعة دمشق مطاع بركات بالزمن إلى عام 1904 عندما تأسست أول جمعية لحماية الأطفال نتيجة اعتداء حصل على طفلة في ولاية أريزونا، يقول بركات «آنذاك لم يكن ثمة جهة تدافع عن الضحية، فلجأ ذووها إلى جمعية الرفق بالحيوان، ما أثار سخط المجتمع المحلي وحرك المحاكم والقضاء والجهات المعنية، فقرورا تأسيس أول جمعية لحماية الطفولة، وهكذا فإن أي حادثة من هذا النوع تشكل صدمة بالنسبة إلى المجتمع، لكن السؤال هو كيف تستثمر هذه الصدمة، البعض يتأثر وينتقد ويعبر عن أسفه واشمئزازه والبعض يرى الأمر مجرد طفرة لا يمكن تعميمها وهنا يأتي دور المختصين والجهات المعنية كي يدرسوا الحالة بكل جوانبها ويعرفوا مدى وجودها في المجتمع».
معضلة الرقم
هنا تظهر مشكلة أخرى تتمثل في الأرقام، فالعنف الجنسي ضد الأطفال من القضايا المسكوت عنها أو التي لا تلقى اعترافا مجتمعيا بوجودها، وبالتالي البحث عن حلول لها وفي هذا السياق تؤكد كندا شماط الأستاذة في كلية الحقوق في جامعة دمشق والناشطة في مجال حقوق المرأة والطفل، عدم وجود أي إحصاءات رسمية في وزارة العدل أو المكتب المركزي للإحصاء حول هذا الموضوع، وحتى الجهود الفردية والشخصية هي غير كافية، لأنها لا تكون على المستوى المطلوب وغالباً ما تواجه صعوبات كبيرة تتمثل في ثقافة الخوف والتستر السائدة وعدم تعاون الجهات المعنية.
ولعل أهم الدراسات التي يمكن الاستناد إليها هي دراسة الهيئة السورية لشؤون الأسرة التي نشرت تقريرها بنهاية العام 2008 حول سوء معاملة الطفل وفي أحد جوانبه العنف الجنسي، حيث بينت الدراسة أن 33 % من الأطفال الذين شملتهم العينة تعرضوا لعنف جنسي، وهذا يؤكد – بحسب شماط - أنه عندما تسعى جهة حكومية لكي تضع يدها على مشكلة ما، فهي قادرة على توصيفها وإظهارها على حقيقتها، بغض النظر عن كل الصعوبات والعقبات، مشيرة إلى أن موضوع الاستغلال الجنسي للأطفال شأنه شأن كل المواضيع الاجتماعية كجرائم الشرف ومشاكل المرأة مع قانون الأحوال الشخصية التي لم تكن قيد التداول، سابقاً لكن الحال تغيرت خلال السنوات القليلة الماضية وبدأ مؤخراً الاعتراف بوجود تلك المشكلات والعمل من خلال دراسات فردية واستبيانات لمعرفة حجمها والمرحلة التي وصلت إليها في مجتمعنا.
وفيما يؤكد بركات وجود العديد من الدراسات، يشير إلى مشكلة أخرى تتمثل في عدم إشهار البيانات وعدم وجود جهات اختصاصية تتبنى الموضوع وإن كانت البداية الحقيقية بجهود فردية والمؤتمر الأول لرعاية الطفولة في حلب والذي مهد لمؤتمر آخر عقد بعده بثمانية أشهر.
"فوق الموتة عصة قبر"
تؤكد الدراسات أن الصدمة التي يتعرض لها الطفل بعد الكشف عن حالة الاعتداء وطريقة استجوابه وفحصه تكون أشد من الصدمة الأولى عندما يقع الاعتداء نفسه، لذلك يجب أن يتم التعامل مع الطفل بطريقة علمية ومنهجية مدروسة. وفي هذا السياق يرى بسام القاضي مدير مرصد نساء سورية في حادثة خولة فرصة أليمة، لكن كان يجب استغلالها لإصلاح الأساس الخاطئ للتعامل مع قضية العنف الجنسي ضد الأطفال من خلال إحداث محاكم خاصة بالأطفال لها محاميها وقضاتها وشكلها وشروط لمن يسمح لهم بالدخول إليها، لا أن يوضع الطفل الضحية في نفس المكان مع المجرمين والقاتلين ويعامل معاملة الراشدين ويوافق بركات على أن النظام المتبع للتعامل مع هذه القضايا يعاني قصوراً شديداً فالنظام القضائي ليس لديه خبراء اجتماعيون ونفسيون، وليس هناك قاض متخصِّص في مواضيع الأسرة، كما هي الحال بالنسبة إلى قضاة العقوبات والجنايات والأحداث. كما يجب أن تتحمَّل كلُّ جهة مسؤولياتها، ابتداء من الأهل، من خلال توعيتهم وتعليمهم كيفية التعاطي مع أطفالهم والبدء في إدخال التربية الجنسية ضمن المواد الدراسية كافة، كل واحدة بحسب اختصاصها، إن كان في الدين أم العلوم أم التربية، وأن يتمَّ- مثلاً- تعليم الدراسات التي تتحدَّث عن عوامل الخطر التي تزيد من احتمال تعرُّض الأطفال لاعتداء جنسي، إلى جانب تفعيل دور مؤسسات المجتمع الأهلي التي نفتقد نشاطها.
عشق الأطفال
نسبة قليلة إذاً من تلك الحوادث تصل إلى الإعلام، وما خفي كان أعظم، لذلك قد لا تكون الأولوية في البحث في تفاصيل الرقم على يمين الفاصلة، بل يجب البدء بالبحث في الإجراءات القانونية والتربوية والإعلامية التي يمكن أن تتخذ للحد من هذه الظاهرة أو على الأقل معالجتها بطريقة مجدية بعد وقوعها. بركات رأى أن القانون الذي يحكم هذا النوع من الجرائم صارم وقوي مقارنة بالقوانين الغربية، حتى إنه يشدد العقوبة عندما يكون الجاني من ذوي السلطة أو الرعاية بالنسبة للطفل، لذلك فإن القانون ليس المشكلة وتطبيقه وحده ليس الحل، سيما أن الفاعل في كثير من الأحيان يكون مريضاً بما يسمى «عشق الأطفال» وهو مرض مثبت علمياً والأمل في الشفاء منه منخفض جداً، لذلك فإن نسبة قليلة ممن يقدمون على هذا الجرم يفكرون بالقانون كرادع. أما النسبة الأكبر من الجناة، فلا يهمهم القانون على الإطلاق. وتختلف شماط مع بركات بأن القانون بصيغته الحالية كاف، ففي كل دول العالم تكون مثل هذه الحوادث مؤشراً للجهاز القانوني بأنه يفترض أن يتغير كما حدث في مصر مثلاُ، حيث اعتبر المشرع المصري جريمة الخطف والاغتصاب جريمة تستحق الإعدام ولفتت شماط إلى وجود ثغرة مهمة في قانون العقوبات تتمثل في التمييز بين أعمار الأطفال الذين تم الاعتداء عليهم. فإذا كانت الضحية تحت سن الـ 13 تكون عقوبة المعتدي أكبر، وهذا الكلام غير منطقي؛ فما دامت الضحية تحت سن الـ18 يجب ان تعامل الضحية معاملة الطفل وتكون عقوبة المعتدي الإعدام؛ فهو يترقب أول ضحية ويخطط عن سابق إصرار وترصد.
إعلام بالألوان
الاستغلال الجنسي للأطفال ظاهرة خطرة نتَّفق جميعاً على بشاعتها وخطورتها، لكنها تبقى إحدى المحرَّمات الكثيرة التي يمنع على المجتمع- وأحياناً على الإعلام- التطرُّق إليها، وحتى عندما يتجرَّأ الإعلام على تناول مثل هذا الموضوع، تكون النتيجة أحد أمرين: خبر بسيط في صفحة الحوادث مع عنوان مثير يجذب أكبر عدد ممكن من القرَّاء، أو محاولة فعلية لرصد القضية بكلِّ جوانبها وأبعادها، لكنها تصطدم بعدة حواجز؛ منها عدم وجود دراسات وعدم وجود أرقام، وعدم تعاون الجهات المعنية، والأهم ثقافة الخوف والتستُّر.. وحول التغطية الإعلامية لظاهرة الاستغلال الجنسي للأطفال، يرى بسام القاضي، مدير مرصد نساء سورية، أنَّ مجرد اهتمام الإعلام بمثل هذه الحوادث وتسليط الضوء عليها وجرأته في الحديث عنها بصراحة ووضوح، تعدُّ خطوة إيجابية جديدة، لكن الجزء السلبي يكمن في أنَّ قضية من هذا النوع يفترض أن يكون التعامل معها أكثر وعياً، ومعالجتها يجب أن تكون على أساس أنها قضية مجتمعية، مصلحة الطفل فيها فوق كل شيء، وليس مجرد خبر على طريقة الصحافة الصفراء يتمُّ التركيز فيها على التفاصيل المثيرة وإهمال جوانب أخرى مهمة، لأنَّ هذا التعاطي يؤدِّي إلى ردة فعل سلبية تتمثَّل في الخوف المبالغ فيه من قبل الأهل. ذلك ان قصة خولة فضحت العديد من القصص المشابهة المستورة، ولا يجب ان ننتظر وقوع مثل هذه المأساة حتى يتحرك الإعلام ويوافق بركات على التزايد الملحوظ للتعاطي الإعلامي مع هذه القضايا، بدءاً منذ العام 2002، حتى إنَّ الأخبار التي تنشرها الصحف الرسمية حولها ازدادت، وهذا مؤشر جيد لأنه يرفع الوعي، لكن المطلوب هو وجود تخطيط للنشاط الإعلامي واستثماره على شكل حملات توعية حتى تساعد على تلقِّي الخبر وفهمه والاستفادة منه بالطريقة الصحيحة
ميس محمد - جريدة بلدنا