د. فاطمة البريكي
انطوت مطلع هذا الأسبوع، آخر صفحة لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الحادية والعشرين لهذا العام، تاركة بعض الأسئلة عالقة في الذهن كعادتها، لا تفارقها، بل تتجدد كلما تجدد الحديث عن الكتاب والقراءة والنشر والحركة الثقافية ومثل هذه الكلمات التي تدور في الفضاء نفسه. لن أتكلم على المعرض، لأنني لم أتمكن من زيارته سوى مرتين فقط، لكني سأحاول تسجيل بعض الملاحظات الخاصة والعامة التي تولدت في الذهن أو انبعثت من جديد خلال هاتين الزيارتين، لعل أولاها هي مباشرة قلة الحضور الجماهيري في الأجنحة وبين الأروقة في معرض هذا العام، وقد يُعزى هذا إلى أسباب كثيرة ليست لها صلة مباشرة بالعلاقة بين الكتاب والقارئ، من مثل التوقيت الذي أقيم فيه المعرض، ومصادفته لأيام إجازة في بعض المراحل الدراسية، وامتحانات في مراحل أخرى، لكننا في كل الأحوال لا نستطيع أن ننكر أن لتوتر العلاقة بين الكتاب العربي والقارئ العربي دوراً بشكل أو بآخر.
حضر الطفل في معرض الكتاب ـ وإن كان حضوراً غير كثيف كما يحدث في معارض أخرى ـ ولكن كالعادة، ينجذب الأطفال بقوة نحو الكتب الخفيفة ذات الرسومات الجذابة، وهذا أمر طبيعي لأنهم لا يستطيعون تقدير قيمة المحتوى، وقد يقع بعض الكبار في المطب ذاته ويُؤخَذون بالعنوان أو بشكل الغلاف الخارجي للكتاب، ثم يصابون بإحباط من مضمونه بعد أن يكونوا قد تورطوا بشرائه. لكن الشيء غير الطبيعي يحدث حين تكون مع الطفل أمه أو معلمته، ومع ذلك تبدو وكأنها غير موجودة، بل تؤثر في أحيان كثيرة على اختياره تأثيراً سلبياً، بحيث تلفت نظره إلى وجود لعبة ما، أو قلم غريب الشكل، أو قرص مدمج يحتوي بعض الأناشيد، فتدفعه نحو أي شيء آخر ـ بقصد أو دون قصد ـ بعيداً عن الكتاب، بدلاً من أن تدفعه ليشتري كتاباً حتى لو كان معيار الاختيار هو الصورة أو الشكل، فمجرد اقتنائه للكتاب يُعد بحدّ ذاته عادة قيّمة يجب أن يُشَجَّع عليها.
لو كان الطفل يعرف قيمة الكتاب وأهميته، لما وجدنا أجنحة الأطفال مليئة بالألعاب والدمى والمكعبات والملصقات بأحجام مختلفة، ومثل هذه الأجنحة تلقى إقبالاً شديداً من قِبَل الأطفال وأهاليهم. وبعض هذه الألعاب فيها بعد تعليمي ولكن بشكل ترفيهي غير مباشر، وهذا مطلوب ضمن حدود ما، بشرط ألا تطغى على الكتاب الذي يُعد في كل الثقافات المصدر الأول للمعرفة المنظمة، والمَعين الذي لا ينضب للثقافة بكل فروعها وفضاءاتها، ومن مسؤولية الوالدين والمعلمين توعية الطفل بأن هناك وقتاً للعب، وللتعليم من خلال اللعب، وأن هناك أيضاً وقتاً للقراءة والاطلاع.
حقيقة.. لا نعرف على من نلقي اللوم؛ فالوضع شديد التعقيد والتداخل، والطفل لن ينجذب للقراءة إن كان لا يرى القدوة أمام عينيه، في البيت والمدرسة وفي كل مكان، كتلك القدوة التي يجدها الطفل الغربي حين يفتح عينيه على هيئة القارئ، بل إنه يبدأ في إدراك هذه العادة وهو لا يزال جنيناً في رحم أمه، إذ يهتم كثير من الأمهات على الجانب الآخر من العالم بالقراءة لأجنّتهن، ويحرصن على مواصلة هذه العادة والاستمرار فيها بمجرد أن يلدن، فلا ينشغلن بمولودهن ولا يبحثن عن ألف عذر وعذر كي لا يقرأن، لأن القراءة تجري في دمائهن، وهنّ يمارسنها غير مجبرات عليها، بل برغبة ذاتية وحاجة نفسية ملحّة. وفي المقابل فإن القدوة الحقيقية التي يجدها طفلنا هي في اللعب والترفيه، لذلك ينشأ منذ نعومة أظفاره وقد عرف أقصر الطرق إلى التسلية وتزجية الوقت، فالكل يعرف ألف طريق وطريق لترفيه نفسه، لكن أين هم الذين يعرفون مائة طريق فقط لتثقيف أنفسهم؟
ومن المضحك المبكي أن نسبةً من «القراء» العرب ـ سواء كانوا أطفالاً أو بالغين ـ لا يجدون دائماً ما يشبع «نهمهم» القرائي باللغة العربية، أو هذا ما يتخذه البعض عذراً لكي يبرر لنفسه معانقة ناظريه للكتب المكتوبة بلغات أجنبية، وإهمال تلك المكتوبة بالعربية. وأشد ما يحزننا أن كثيراً من أبنائنا ينشأون على حب اللغة الأخرى، ويعبرون عن حبهم للقراءة بها، في الوقت الذي ينفرون من اللغة العربية، ولا يخجلون من التعبير عن نفورهم هذا في أي سياق وأي مناسبة.
ولا بد هنا أن نتساءل: على من يقع اللوم؟ من يتحمل مسؤولية العلاقة شبه المبتورة بين أبنائنا والقراءة من جهة، وبين القراء منهم والنصوص العربية من جهة أخرى؟
أطفالنا بين الترفيه والتثقيف
- التفاصيل