لها أون لاين
لم تعد شبكة الإنترنت ولا التقنيات الحديثة حكراً على رجال الأعمال والمشتغلين في المجال التقني، ولا حكراً على الشباب والناضجين، بل باتت ميسرة ومتوفرة بين يدي المراهقين والأطفال. لا تخلو الكثير من المنازل والأحياء من أجهزة كومبيوتر ومقاهي إنترنت.
هذه الظاهرة غدت تنتشر رويداً رويداً في المنازل والبيوت العربية، وأعداد المراهقين والأطفال المستخدمين للإنترنت، في ازدياد، مما جعل من الأهمية طرح هذا الموضوع.
فإلى أي حد تعتبر هذه الظاهرة إيجابية؟ وما سلبياتها؟ وهل من مخاطر لها.؟ وإن كان كذلك، فما هي نصائح المتخصصين في هذا المجال؟
في شوارع القاهرة:
حين تسير في شوارع القاهرة، لاسيما أحيائها الشعبية سيلفت انتباهك هذا العدد الهائل من محلات "الكوفي نت" والتي يطلقون عليها "السايبر"، وتكون في العادة مجهزة بعدد من أجهزة الحاسب المتصلة بالإنترنت، وخلف كل شاشة يجلس طفل يغوص في بحر التقنية، والفضاءات المفتوحة التي تمنحه الثقافة والمعرفة والمتعة وقد تجرفه للانحراف أيضا!

مراسل لها أون لاين في القاهرة، سأل بعض الأطفال الموجودين بهذه المقاهي عما يشد انتباههم، وعن حجم الوقت الذي يقضونه في هذه الملاهي الحديثة، فكانت أجوبتهم متقاربة.
بداية يقول محمد (13 سنة) تلميذ بالمرحلة المتوسطة: آتي إلى هنا بمعدل ثلاث مرات بالأسبوع، وأجلس 45 دقيقة فقط أقضى أغلبها في الألعاب، ولا أستطيع البقاء أكثر من ذلك لأن 45 دقيقة أجرتها جنيه واحد والكثير من الأطفال ينتظرون دورهم.

وقد لا حظنا حين سألنا محمد عن الألعاب التي يفضلها، أنه لا يتحدث عن عالم افتراضي، وإنما يتحدث عن جيوش يواجهها، وأن بعضهم ربما تعقبه وجذبه من ملابسه، أو صدم سيارته وأحدث بها تلفيات وكثير من المعاني الافتراضية التي يحكيها بتأثر كما لو كانت تحدث في الواقع.

أما زياد فيقول إنه يتعلم اللغة الانجليزية بواسطة الترجمة في جوجل، ويأتي إلى هذا السايبر ومعه الكتاب ليكتب الكلمة ويسمع نطقها الصحيح وترجمتها.
وحين سألناه كيف يتخيل الحياة بدون هذه الأجهزة وهذه الحواسيب، فقال: لا يمكن أن أتخيل أننا نعيش بدونها، وأضاف: هذه الحواسيب علمتني كثيراً، وأغنتني عن كثير من الصداقات.

طفلة في جدة تدمن التقنية:
ومن مدينة جدة السعودية، تقول الصغيرة رغدة منشي: إنها تمتلك جهاز زوّال (يعني جوال) وعلى الرغم أنها ما زالت لا تستطيع نطق مسميات الأجهزة الإلكترونية، لكنها تعرف الكثير من خباياها وطرق تشغيلها واستخدامها.
فيما تقول عواطف البلوي: إن ابنتي ريتاج التي لم تكمل الخامسة من العمر، و تهتم بأجهزة الكمبيوتر و الألعاب الموجودة في الجوال حتى أنها تقضي معظم النهار في اللعب بالأجهزة الإلكترونية حتى أصبحت متمكنة من استخدامها أكثر مني، وفي أحيان كثيرة ألجأ إليها في تشغيل البرامج والألعاب، وهو ما يزيد في ثقتها بنفسها، ويدفعها لتعلم المزيد؛ لأن تعلم مثل هذه التقنيات يكون له رهبة في الكبر والمستوى الذي يصل إليه المتعلم وهو كبير أقل من المستوى الذي يصل إليه الأطفال.

الحصار لم يمنع الأطفال من التقنيات الحديثة:
لا تبدو الصورة مختلفة جداً في غزة المحاصرة، ومنها تنقل مراسلة موقع لها أون لاين تجربة الأطفال هناك، مشيرة إلى أن الوسائل التكنولوجية والإنترنت برزت خلال العقد الماضي على أولى درجات سلم القيادة في الاتصال الإلكتروني لدى الأطفال بعمر 5-13 عاماً، فكانت تقنيات لعب الحاسوب والأدوات المتطورة ضمن الدرجة الثانية من اهتماماتهم بعد الوجبات السريعة والحلويات.
نجاح مطر أم فلسطينية تعيش في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، لديها طفلتان، وعلى الرغم من صغر سنهما إلا أنهما وخاصة الكبرى (شهد) مولعة بالتقنية، فهي بإمكانها وهي ذات السنوات الأربع أن تفتح جهاز الكمبيوتر وتشغل لعبة الذاكرة أو حتى فتح فيلم رسوم كارتون عن السندريلا والأقزام السبعة وغيرها.

وتفسر أمها وهي ربة منزل انجذاب الأطفال للتقنية بحبهم لجانب اللعب، ناهيك عن الملامح المتعددة الأبعاد المستخدمة في إنتاج رسوم الكرتون، بالإضافة إلى احتوائها على الصوت والألوان والأشكال التي هي عامل جذب كبير، مؤكدة أن للتقنية وانجذاب الأطفال إليها سلبيات وإيجابيات قائلة: "التقنية والتكنولوجيا سلاح ذو حدين" لافتة إلى أن المتابعة من شأنها أن تقلل خطر انجرار الأطفال وراء التقنية، بإشغال وقت الطفل بأشياء أخرى، كالرسم كما تتعامل مع ابنتها، أو القراءة أو حتى الاندماج في ألعاب الذكاء الفك والتركيب.

الصورة عالمياً:
العديد من الدول الغربية سبقت العالم العربي في إدخال التقنية إلى تفاصيل الحياة اليومية للجميع، بما فيهم الأطفال، لذلك فإن العديد من الدراسات هناك أشارت في وقت سابق إلى درجة الارتباط ما بين الأطفال والتقنية. ومنها: الدراسة التي أجراها باحثون بريطانيون عبر الإنترنت على أكثر من 2200 من الأمهات في أكثر من 11 دولة، وجاءت النتائج لتؤكد أن انغماس الأطفال في التقنية يكاد يكون كلياً مقارنةً بانغماسهم في تفاصيل حياتهم اليومية الاجتماعية والأسرية، حيث أظهرت أن 23% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3-5 سنوات بإمكانهم إجراء مكالمات هاتفية عبر الهواتف النقالة، فيما يتمكن الربع منهم من الإبحار في مواقع الإنترنت بسهولة وطلاقة، بينما يبدو إتقانهم للتعامل مع الهواتف الذكية "آبل"، و"الآيباد" يحصى بإتقان طفل واحد من بين كل خمسة أطفال لهذه التقنية، وبيَّنت الدراسة أن الثلث من الأطفال يعرفون استخدام الحاسوب، بينما 73% يعرفون استخدام الفأرة.

التوجيه أهم من الرقابة:
الخبير التربوي ماهر بركات، يقول: لا نستطيع حصر إيجابيات التقنية الكثيرة، كما لا نستطيع حصر سلبياتها،  التي تعمق الفردية وانكفاء الأطفال والمراهقين على ذواتهم، وعيشهم في عزلة العالم الافتراضي! فضلا عما يبث في هذه الوسائل من مواد تفسد الأخلاق.
وحين سألناه عن الآلية الصحيحة لرعاية أطفال التقنية قال: "لابد من وجود التوجيه من البيوت"، وأضاف: أكرر التوجيه ولا أقول الرقابة؛ لأن الرقابة الصارمة فات أوانها في هذا الزمن، ولم يبق أمامنا غير التوجيه والتحصين ضد آفات التقنية والدفع باتجاه الاستفادة منها والتوعية من خاطرها.
كما يدعو الخبير التربوي ماهر بركات أصحاب هذه "المقاهي" إلى تقوى الله، ومتابعة الأطفال الذين يرتادون يأتون إليهم ربما دون علم ذويهم، وأن يستشعروا المسؤولية الاجتماعية تجاههم ويتعاملون معهم كما لو كانوا أبنائهم، وأن يحاولوا بما لديهم من وعي تقني تعطيل المواقع الضارة أخلاقيا، وتوجيه الأطفال للاستفادة من هذه الوسائل الحديثة.

الأطفال ينغمسون بالترفيه وليس بالتقنية:
الأستاذ المساعد بكلية تكنولوجيا المعلومات بالجامعة الإسلامية غزة د. أشرف العطار يؤكد أن الحالة الواقعية للطفل في العالم العربي تشير إلى انغماسه بشكل كبير جداً في عالم التكنولوجيا وتقنية المعلومات والاتصالات.

وأضاف د. العطار في حديث خاص مع " لها أون لاين" أن حالة الانغماس غالبها في تقنية الترفيه والألعاب ومواقع التسالي، وقليل جداً تجدهم منغمسين في عالم التقنية والتكنولوجيا المفيدة، التي من شأنها كسب خبرات ومعلومات ومهارات كالتعليم الإلكتروني، وبيَّن أن مثولهم في طور الطفولة يجعل انجذابهم إلى جانب الترفيه أكبر.

ويُرجع د. العطار أسباب انجذاب الأطفال لعالم التقنية وتكنولوجيا الاتصالات إلى بحث أولئك الأطفال وشغفهم بعالم الترفيه والتسالي الذي باتت وسائل التقنية والتكنولوجيا الحديثة توفره بشكل مبهر لهم.

لافتاً أن الطفل حالياً بات لا يمكنه الاستغناء عن الكمبيوتر والإنترنت وحتى الجوال المحمول المزود بتقنيات عالية وبرامج تسالي مختلفة تثير فضوله لسبر أغوارها والتعرف على تفاصيلها.
مشيراً أن الأجيال السابقة لم تكن تحظى بتلك التقنيات، وأيضاً انجذابها للتقنية لم يكن لذلك الحد.
مؤكداً أن تكنولوجيا الحاسوب والاتصالات باتت تسيطر بمستويات عمرية أقل.

دعوة لاحتواء الآباء لأبناءهم:
أثناء حديثنا مع أمير زكي أحد أصحاب هذه المحلات عن رواد المحل من الأطفال قال:  على الرغم من استفادتي من هذه المهنة إلا أنني لاحظت أن التقنية تنمى خيال الطفل وتأكل إرادته، وتجعله اتكاليا عجولا لا يقنع ولا يشبع!
وأضاف أن أغلب رواد محله من الأطفال، خصوصا أن الإنترنت متاح بالبيوت، ولا حاجة للكبار للمجيء إلينا، لكن الأطفال يأتون إلى هنا هرباً من رقابة الأهل غالبا، لكنني منذ أن افتتحت هذا المحل، وأنا أتتبع ما يتصفحه الأطفال وإذا وجدت أحدهم يستخدم الإنترنت بشكل غير أخلاقي منعته من الدخول مرة أخرى، وأتعامل معهم وأخاف عليهم كأبنائي.

ويقول زكي: أنا كأب أطالب الآباء باحتواء أولادهم والقرب منهم، ومساعدتهم على الاستفادة من التقنية ولا يتركوهم للتعامل معها بوصفها ألعاب فقط؛ لأنني من واقع مراقبتي للأطفال من بعيد أراهم خامات جيدة تحتاج إلى احتضان، والتقنية بحر زاخر به النافع والضار.. والضار فيه أكثر، خصوصا أنه يطرح في قوالب جاذبة للأطفال والمراهقين.

فكرة الإدمان مرعبة:
السيدة أسماء نوفل - 25 عاماً – وهي حاصلة على دبلوم خدمة اجتماعية، ترى أن الحاسوب والتقنية بشكل عام تمنح الطفل فرصة أسرع للتعلم عبر الملاحظات الفورية والذاتية التي يطلقها الجهاز بين الحين والآخر، كما أن وسائل التقنية بالعموم – طبقاً لقولها- تُطور لدى الأطفال مهارات الفهم بشكل أسرع من أي وقت سابق، وتكسبهم مهارات التواصل مع الآخرين والاحتفاظ  بالأصدقاء، كما ترى أن التقنية الجديدة يمكن أن تسمح بأن يكونوا مبدعين من خلال انغماسهم في عمليات البحث والاستكشاف على شاشة الحاسوب.
أسماء تحب أن ينجذب طفلها عمار – 5 سنوات – لهذا العالم كي ينمو ذكائه، لكنها أيضا ترتعب من فكرة إدمانه وتعلقه بالحاسوب للتسلية والترفيه فقط؛ لذا تجتهد بتحديد وقت معين له أمام الحاسوب، وكثيرا ما تطلب منه تنفيذ بعض المهام وهو أمام الحاسوب حتى تتجنب عناده.

سلبيات أخرى عديدة:
عن سلبيات التقنية تقول أم ريما (من مدينة جدة) دهشت عندما انتقلت ابنتي من مدرسة لمدرسة أخرى، وعلى الرغم من أنها فقدت صديقاتها لم تبدي أي تأثر، وعندما سألتها عما إذا كانت ستفتقد صديقاتها أم لا، قالت سأتكلم مع صديقاتي بالهاتف ونعرف أخبار بعض عبر الفيس بوك كما كنا من قبل و أكثر!

فهل يعني أن العلاقات الإنسانية للجيل القادم ستكون عبر الأجهزة الإلكترونية؟ و هل سيصاب أبناؤنا بنضوب العاطفة و يصبح برهم بآبائهم عبر رسالة جوال أو عبر دردشة على الماسنجر.
أم ريما تضيف بالقول: إن تعلق الجيل القادم بالتقنية تعلق محصور في أجهزة التواصل والتسلية، واللعب بمعنى أنه تعلق بتقنية تضييع الوقت ولا يعني أني ضد التقنية الحديثة، لكنني أتمنى أن يتطور مفهوم التقنية عند الأطفال، والشباب من تقنية تساعد على الدردشة والتسلية لتقنية مفيدة ترتقي بفكرهم وثقافتهم وعلمهم.

من جهتها، ترى ابتهاج صحفي، أن التقنية هي لغة العصر، و أنها منذ كانت صغيرة تقتني كل ما هو جديد في عالم التقنية حتى أصبحت محترفة في استخدام الحاسب الآلي، و عندما عملت في مستشفى تفوقت على زميلاتها في العمل بقدراتها في استخدام البرامج الحديثة.
وقالت: إن أي مهنة في عصرنا لا تستغني عن الإلمام بكل ما هو جديد تقنيا، حتى أن العامل و البائع في البقالة لا يستغني عن استخدام التقنية، و أن من يتخلف عن استخدام التقنيات يجد نفسه يتخلف أيضا في دراسته وعمله، فحتى نحاول اللحاق بالعالم الذي يتطور بسرعة رهيبة؛ علينا التطور سواء كنا  كبارا أو صغارا في المجالات التقنية على أنواعها بنفس السرعة التي يتطور بها العالم.

الأطفال المبدعون ينجذبون نحو التقنية:
يشير الأستاذ المساعد بكلية تكنولوجيا المعلومات بالجامعة الإسلامية غزة د. أشرف العطار إلى أن بعض الأطفال المبدعين كان انجذابهم إلى عالم التقنية والكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات محكوماً بعامل الإنتاج لا الترفيه والتسلية، فبعض الأطفال نجحوا في استخدام التقنية للإنتاج النافع الذي يضيف قيمة للمجتمع، قائلاً:"هناك أطفال في سن 12-14 استطاعوا أن يتعلموا لغات برمجة الكمبيوتر، وينتجوا برامج نافعة كانت فائدتها عظيمة عند تطبيقها".

وفي ظل انغماس الأطفال في عالم التقنية وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، يرى د. العطار مصيرين لجيل شباب الغد الذين هم اليوم أطفال التقنية، الأول مصير قاتم قائم على النظرة التشاؤمية، وهو لا يشجعه أبداً بأن حالة انغماس الأطفال وتركيزهم في تعلم التقنية، واستخدامها لمجال الترفيه والتسلية قد تنتج أجيالاً شابة خالية من المضامين الإبداعية، بل أجيال مدمنة على التقنية ولا يمكنها الاستغناء عنها في مجال التسلية، بينما المصير الآخر أكثر إشراقاً ويصر على اتباعه وتأكيده، يقول:"أطفال اليوم الذين ينجذبوا للتقنية من خلال متابعتهم وتدريبهم وتوجيههم يمكن أن يكونوا علماء في الغد يزينوا حاضر أمم بإنجازاتهم".

وأضاف انغماس الأطفال الآن في مجال التكنولوجيا بمزيد من الرعاية والتوجيه من شأنه أن يزيل الحواجز والعقبات التي قد تقف أمامه في مرحلة الشباب والدراسة الجامعية والبحث العلمي والتجارب العلمية، داعياً إلى ضرورة الاهتمام بمتابعة انغماس أطفالنا في عالم التقنية بالجانب الإيجابي المفيد لا الترفيهي السلبي.

-------------
شارك في التحقيق
مكتب القاهرة
مكتب غزة
مكتب جدة
مكتب الرياض

JoomShaper