كان التفاعل في ألمانيا مع جريمة درسدن التي سقطت مروة الشربيني رحمها الله ضحية لها، تفاعلا يلفت النظر بخطورته.. وتكشف متابعته خلال الأسبوعين الأولين كيف كان يتبدل مرحلة بعد أخرى، رغم قصر المدة نسبيا:
المرحلة الأولى: بقيت حقيقة الجريمة غائبة أو موضع التجاهل السياسي في ألمانيا لعدة أيام بعد مقتل مروة الشربيني رحمها الله، وبقي الإعلام يتحدث عنها كخبر هامشي من أخبار عالم الجريمة.. فقط.
المرحلة الثانية: وصلت إلى ألمانيا الأصداء الأولى لانتشار الغضب الواسع النطاق في مصر خاصة.. فبدأ الحديث بصيغة التساؤل.. هل كانت الجريمة معزولة عن سواها، من صنع فرد، نتيجة شجار في ملعب أطفال، أم أن لها بعدا عنصريا؟..
المرحلة الثالثة: بدأ تدريجيا ربط الحديث عن الجريمة بذكر الخوف المرضي من الإسلام، وخطورته، ومشاعر العنصرية ضد المسلمين، وإفرازاتها، وتزامن ذلك مع اقتران التعبير الجماهيري عن الغضب في مصر وسواها، بمشاعر النقمة تجاه ألمانيا تحديدا، وانتشار مقولة "شهيدة الحجاب"، وكذلك مع تواصل متابعة القضية في وسائل إعلام عربية، وإبراز خلفيتها البالغة الخطورة.
المرحلة الرابعة: مضت أيام أخرى بعد مواراة جثمان الضحية في التراب، ووصلت الاحتجاجات إلى بلدان إسلامية عديدة، وتصدرت القضية عددا من الفضائيات العربية، ثم كان يوم التأبين بتنظيم الطلبة المصريين في جامعة درسدن مع بعض الجهات غير الرسمية الألمانية.. فشارك في التأبين مسؤولون رسميون من الدرجة الثانية والثالثة!..
رغم ذلك كله لا يزال يوجد من يحاول تصوير ردود الفعل الرسمية الألمانية وكأنها لم تتأخر، ولم تكن ناقصة، ولا غبار عليها.. وليس هذا صحيحا!..
قصور معبر عن نفسه
بشيء من التحديد:
1- كان أول ذكر رسمي للجريمة بعد أربعة أيام، وورد على لسان المفوضة الحكومية لشؤون الأجانب، ولا ينفصل ذلك عن محاولة حصر الجريمة -بعد الاضطرار لذكرها رسميا- في نطاق "كراهية الأجانب"، وليس كراهية "الإسلام والمسلمين"..
2- ثم كان الموقف الحكومي الرسمي التالي "تحت ضغط السؤال"، بعد سبعة أيام من وقوع الجريمة، وعلى لسان (نائب) الناطق الصحفي باسم الحكومة الألمانية..
3- ويظهر القصور أوضح ما يكون من خلال مثال آخر.. وهو أنه لم يصدر حتى ساعة كتابة هذه السطور موقفٌ واجبٌ صدوره عادة من جانب وزير الداخلية شتويبلي، لا سيما وأنه كان في مصر قبل أيام من وقوع الجريمة، وتحدث هناك عن مشروع "مؤتمر الإسلام في ألمانيا" الذي نشط بمبادرة منه خلال ثلاث سنوات مضت!..
4- بعد مضي أكثر من أسبوع ارتفعت تدريجيا نسبة الحديث الإعلامي عن الجريمة وأبعادها، فبدأت أقلام إعلامية ألمانية تقارن -بما يشهد على مدى القصور السياسي- بين:
- المواقف والتصريحات الرسمية العنيفة، العلنية والمتكررة، كلما وقعت حادثة من الحوادث، داخل ألمانيا وخارجها، وحقيقة صدورها على أعلى المستويات، في شكل بيانات أو تصريحات، أمام وسائل الإعلام، ليكون لها مفعولها المعروف على صعيد الرأي العام..
- وعدم صدور شبيه ذلك في قضية مروة رحمها الله، وما تعنيه، واكتفاء المستشارة الألمانية ميركل بتبليغ تعازيها للرئيس المصري -بعد أيام أيضا- بعيدا عن الأنظار والأسماع، على هامش قمة الثمانية، وكذلك اكتفاء وزير الخارجية ومرشح الديمقراطيين الاشتراكيين لمنصب المستشار شتاينماير، بتعزية كتابية لقرينه المصري، ثم عدم حضور التأبين في درسدن بنفسه، بينما حضر رئيس حزبه مونتيفيرينج، ولا يستوي هذا وذاك بموازين الممارسات السياسية بألمانيا وما ترمز إليه.
5- وقد كان قصور الحكومة وتأخر ردود أفعالها، وبقاؤها دون المستوى الواجب، مما رصده أيضا حزب اليسار المعارض وهو يتحدث عن ذلك في مناقشة نيابية "عاجلة"، أو وهو ينظم حملة شبكية لجمع التوقيعات لمطالبة ميركل بموقف رسمي علني.. إنما يصعب تقويم هذا الموقف بعيدا عن دوافعه الحزبية الانتخابية الداخلية، ودون ملاحظة أنه لم يصدر عن حزب اليسار نفسه شيء في الأيام الأولى!.
6- ويسري شبيه ذلك على زعامة حزب الخضر التي طرحت الموضوع ببعده العنصري، وحذرت من استمرار انتشار ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام.. إنما لم يصدر ذلك عنها إلا بعد مرور الأيام السبعة الأولى!..
7- وبقي كثير من التصريحات بصياغة تعميمية لا يمكن القول إنها غير مقصودة، كقول وزيرة الدولة ماريا بومر، عند زيارتها لزوج الضحية المصاب في المستشفى: "لا مكان في ألمانيا لعنف بدوافع عنصرية أو دينية".. أما الأسباب والأجواء التي جعلت له مكانا على أرض الواقع، فلا تتطرق التصريحات الرسمية إليها.
ويمكن ذكر المزيد من الأمثلة الأخرى التي توصل كهذه الأمثلة إلى النتيجة ذاتها:
لقد كانت الجهات الرسمية في ألمانيا حريصة (ولا مجال للقول إنها جاهلة بالأمر أو لا تقدر أبعاده الحقيقية) على أن تبقي الحدث في إطار دون مستوى الحدث، ثم بعد أن فرض نفسه، ألا تشارك في وصفه على حقيقته، أنه نتيجة من نتائج انتشار الأجواء العدائية للإسلام والمسلمين في ألمانيا.. فهذا بالذات ما لا يمكن اعتباره مسؤولية فرد أو أفراد، ولا نتيجة جريمة أو جرائم فردية، بل كان انتشار تلك الأجواء العدائية الخطيرة، ولا يزال، من حصيلة سياسات وممارسات على امتداد سنوات عديدة مضت، لم تبدأ -كما يتردد كثيرا- مع تفجيرات نيويورك وواشنطون، بل قبلها، ولم تنقطع حتى الآن.
جريمة القتل وجريمة التخويف من الإسلام
يجب أن يكون واضحا بصورة قطعية، أن هذه الجريمة العنصرية شاهدٌ مأساوي صارخ على ما وصلت إليه خطورة أجواء المعاداة للإسلام، والتخويف منه..
إن الخوف من الإسلام خوف مرضي، وليست "مشاعر الخوف" مما ينشأ تلقائيا دونما سبب، وليس في الإسلام نفسه ما يسوّغ الخوف التلقائي منه، ولا قيمة للذريعة التي تعتمد على أعمال العنف غير المشروع باسم الإسلام لتعليل انتشار الخوف منه، وإلا لوجب انتشار الخوف أضعافا مضاعفة من الديمقراطية التي تُرتكب فظائع الحروب باسمها، ومن المسيحية التي وُلد الإرهاب الغربي القديم والحديث تحت عنوانها.
إن الخوف من الإسلام في الغرب (وفي بعض الأوساط المتغربة) مصنوع صنعا، ولهذا اقترن نشره بحصيلة الجهل بالإسلام، والتجهيل به على صعيد كثير من العامة، وقد أوجد نشر هذه الظاهرة الخطيرة من العداء "الفردي" ما يعبّر عن نفسه بصور لا حصر لها، منها وأخطرها ارتكاب جريمة قتل كهذه الجريمة، فلا يمكن فصلها عن أجواء كانت تنذر مسبقا بوقوعها..
إن الارتباط وثيق للغاية بين أجواء الخوف المرضي تلك وبين جريمة درسدن، وذاك ما توضحه تماما نوعية الشتائم الصادرة عن القاتل، منذ اللحظة الأولى لتعدياته على مروة بالإهانة في ملعب أطفال، وحتى اللحظة الأخيرة عند تعدياته عليها بسكينه القاتلة داخل قاعة المحكمة في درسدن.. وقد أشارت وسائل إعلامية مؤخرا إلى قوله للقاضية قبل دقائق من ارتكاب جريمته:
"لا مكان لجنس غير أوروبي هنا.. ولا يصح ألاّ تطردوا هذه الوحشة من ألمانيا بعد 11 سبتمبر"، موثّقا بنفسه ارتباط عدوانيته بما قيل وما يزال يقال رسميا وإعلاميا تحت عنوان "إرهاب إسلامي"!.. ثم ارتكب جريمته وهو يردد "أنت لا تستحقين الحياة"!..
انكسار الطوق الحديدي
إن السؤال الأهم الذي يطرحه بدء الحديث الإعلامي عن السبب والنتيجة في قضية مقتل مروة رحمها الله، لا يكمن عند حدود إثبات هذه العلاقة لتفسير وقوع أحداث فردية، بل يكمن في حقيقة أن هذه العلاقة لم تكن مجهولة، ولكن كانت موضع تعتيم، أو لا يريد أحد الاعتراف بها.. لماذا؟..
لقد أصبح الخوف المرضي في الغرب من الإسلام والمسلمين ظاهرة عامة، وليس مجرد نتوءات اجتماعية، وأصبحت آليات نشره مكشوفة فلم يعد يفيد تصوير الظاهرة وكأنها مجرد إفرازات ناتئة اعتباطيا..
يعني ذلك أن جزءا كبيرا من المسؤولية يقع على صانعي القرار السياسي والثقافي والفكري والإعلامي في الغرب عموما، وأنه لا يمكن حصر المسؤولية -كما يصنع عادة- فيمن ارتكب ويرتكب أعمال عنف غير مشروع تحت عنوان إسلامي..
لكن الإقرار الرسمي بالوضع على حقيقته، وبالمسؤولية عنه، يرتّب على الحكومات والأحزاب والجهات الأخرى من صانعي القرار في الغرب مسؤولية العمل لمواجهة المشكلة، وتغيير الأجواء العدائية، والوقاية من عواقبها، ومكافحة ما قد يقع نتيجة لها!..
أما عدم الإقرار الرسمي.. أو محاولة التمويه على الظاهرة الخطيرة.. فيعني التمويه على التبعات المترتبة عليه، والامتناع عن أداء ما توجبه على المسؤولين.
لهذا كان القصور عن سرعة التفاعل، وكان وما يزال الإصرار على عدم طرح البعد العنصري الديني رسميا في متابعة الحدث.
هذا بحد ذاته سلوك بالغ الخطورة، فحصيلته تفاقم المشكلة، وتفاقم الإفرازات الفردية وغير الفردية الناشئة عنها، لا سيما وأنها مشكلة عامة، وأن عواقبها تصيب الجميع، على حساب المجتمع الألماني (والغربي) بمختلف مكوناته، من المسلمين الألمان أصلا، وأعدادهم كبيرة، وممن هم في حكمهم من مواليد ألمانيا المسلمين، ومن حملة جنسيتها والمقيمين منذ عشرات السنين فيها، المساهمين في بنائها، المندمجين في مجتمعها.. وهؤلاء مع بعضهم بعضا يناهزون ثلاثة أرباع مجموع المسلمين في ألمانيا وقد تجاوز عددهم أربعة ملايين، والباقي فقط من الوافدين المقيمين إقامة مؤقتة.
هؤلاء الملايين تعنيهم كلمة القاتل (أنت لا تستحقين الحياة هنا!)..
وهؤلاء مع كافة فئات المجتمع الأخرى تعنيهم محاولات التمويه، ويعنيهم القصور عن مواجهة مشكلة الخوف المرضي من الإسلام، من جذورها، وعلى صعيد أسبابها المباشرة وغير المباشرة، وهذه الأسباب لا تقتصر على ما يصنعه "المتطرفون" فقط!..
جميع المعالم الأساسية لهذه الصورة الإجمالية وجميع تفاصيلها كان محاطا بما يشبه الطوق الحديدي، فلا يسهل الحديث عنه، وإن جرى الحديث قليلا ما يفرض نفسه على وسائل الإعلام، ناهيك أن يصل بصورة فاعلة إلى المستويات السياسية المسؤولة.
مروة الشربيني كسرت هذا الطوق الحديدي.
هذا ما يعنيه مثلا قول معلق القناة التلفازية الأولى إن هذه الجريمة هي اعتداء على "دولة القانون" وينقل تساؤل أهل مصر: لماذا لا يقول أحد شيئا؟..
وهذا ما يعنيه أن يربط آخرون في الإعلام بين أجواء العداء وبين الربط المتواصل ما بين كلمات إسلام، وعنف، وإرهاب وما شابه ذلك، وأن يأتي هذا الكلام تحت عنوان "ما يزال هتلر حيّا في قلوب كثير من الألمان".
حتى بعض الكتاب العرب الذين كان يستشهد بهم في مواقف أخرى، يدلون الآن بمواقف تؤكد الاتجاه نفسه، بشأن الأجواء العدائية للإسلام والمسلمين والمسؤولية عنها، كما هو الحال مع علاء الأسواني من مصر، أو عبد المطلب الحسيني من لبنان، وغيرهما.
وتوجد أمثلة عديدة، تكشف متابعتُها عن النتيجة ذاتها:
مروة الشربيني رحمها الله كانت إنسانة مسلمة من عامة المسلمين.. صنعت حدثا لا يستهان بأبعاده المستقبلية، ولم تكن فقط ضحية ما، لجريمة عنصرية بشعة، في قاعة محكمة، في مكان ما، من مدينة درسدن شرق ألمانيا!..
هي الضحية التي أثارت الأسى على أوسع نطاق بين المسلمين ممن عرفها مباشرة ومن لم يكن يعرفها، وهي أيضا من سيكون لها -بعد الله عز وجل- فضل كبير على كثير من إخوانها وأخواتها من المسلمين والمسلمات، في ألمانيا وبلدان عديدة سواها، بل سيكون لها فضل كبير على كثير من غير المسلمين أيضا، فالعمل لتحقيق التسامح الحقيقي في تعامل البشر مع بعضهم بعضا، يعود بحصيلته على الجميع، ويجب أن يعمل من أجله الجميع.
نبيل شبيب
20/7/2009