محققاً المساواة العادلة
بقلم
أ . د . علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ونائب رئيس المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد
فلا توجد قضية أثيرت في عالمنا الإسلامي بقدر قضايا المرأة، وهي بلا شك تستحق أكثر، ولكن المشكلة أن معظم الطروحات هي بين الإفراط والتفريط ، والغلو والتقصير، كما أنها استغلت للتأثير في المنظومة الأخلاقية التي تتحكم في الأسرة ، وتحكم روابطها، وتقوي أواصرها، وتشد من أزرها.

وقد نجحت هذه المحاولات في معظم البلاد غير الإسلامية ونجمت منها مشاكل أسرية أثرت على الأطفال وترتب عليها آثار خطيرة على المجتمع.
وإذا كان الاعتدال والتوسط هو الحل الأمثل في جميع الأنشطة الإنسانية ، فإنه بلا شك يكون الحل الأفضل في هذه القضية ايضاً، ولذلك أقترح أن يكون مبدأ (التوازن) الحل الأوسط المحقق للمساواة العادلة ، لأن المساواة المطلقة قد لا تحقق العدالة بالعقل والطبع، بالإضافة إلى الشرع، ولكنها قد تحققها ، فمبدأ العدل يجب أن يكون قاضياً على المساواة كما هو الحاكم على غيرها باتفاق العقلاء ، وبالنصوص الشرعية القاضية .
وهذا التوازن هو موضوع بحثي، حيث يبدأ أولاً بالتعريف بالتوازن ، ومجالات التوازن، وانه هو الأساس في الكون المادي ، وهو كتاب الله المفتوح، وشريعته القائمة على كتاب الله المنزل المقروء، وهو الأساس أيضاً في الإنسان جسماً وروحاً ، وفي البيئة والحيوانات ، ثم بعد ذلك نبدأ بتطبيق مبدأ التوازن بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات .
والله تعالى أسأل أن يُلبس أعمالنا ثوب الإخلاص والتقوى، ويكتب لنا التوفيق والسداد ، وأن يعصمنا من الخطإ والزلل في العقيدة والقول والعمل وأن يتقبّل منا بفضله ومنّه إنه حسبناً ومولانا فنعم المولى ونعم النصير.
كتبه الفقير الى ربه
على محيى الدين القره داغى
الدوحة 18 جمادى الآخر 1437هـ
تمهيد
إن البشرية اليوم، وبخاصة المجتمعات الغربية أو الشرقية البعيدة عن منهج الوحي الإلهي تعاني أشد المعاناة من الخواء الروحي، ومن التفكك الأسري، ومن الصراعات الداخلية، داخل الإنسان نفسه، بين الفطرة السليمة والضمير الحي، وبين هيمنة الشهوات الحيوانية التي تبحث عن إشباع الرغبات التي لا تتناهي، فترتكب الجرائم في حق نفسه، وحق الأولاد ، والأسرة، فقد حذرت منظمة الصحة العالمية من زيادة معدلات الإجهاض الخطر على صحة النساء، فمثلا بلغت حالات الإجهاض المتعمد في العالم (46) مليون حالة في العام، ففي السويد وحدها 38 الف حالة، وفي روسيا 62,6% .
ومع الأسف الشديد وصلت هذه العدوى إلى بعض بلادنا، حيث بلغت حالات الإجهاض في تونس 14000 حالة سنوياً، وهذا يعني أنه يقتل في كل عام 46 مليون طفل، هذا هو المسجل دولياً، وما خفي أعظم.
وفي مجال التفكك الأسري، نجد أنه قد بلغ منتهاه بسبب الأفكار الهدامة، حين نادت رائدات النساء في الغرب منذ فترة بأن الزواج مؤسسة لمنفعة الرجل، وأنه وسيلة للسيطرة على النساء، وعلينا أن نعمل على تدميرها، لأن في تدميرها تحريراً للمرأة، وقلن ايضاً: "ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة، وخرافة الأمومة، والغريزة الأبوية" وروجت هذه الأفكار إلى أن تم فعلاً تدمير الأسرة، ومؤسسة الزواج، والأمومة، فمنذ الستينات تراجع معدل الزواج بنسبة 33%، في حين تضاعفت نسبة الطلاق لتصل إلى 50%، ونسبة النساء اللاتي لم يتزوجن بلغت عام 1970 الى 68%، والإحصائيات تشير الى عزوف النساء عن انجاب الأطفال، حيث إن 20% من النساء اللاتي بلغن 45 لم ينجبن اطفالاً، وظهرت ظاهرة الأطفال غير الشرعيين، حيث بلغت في عام 1994 في أمريكا إلى 50%، وبين السود إلى 70% وفي 15 مدينة من المدن الأمريكية وصلت إلى 90%، كما أن هناك 5 ملايين ونصف يعيشون مع النساء دون أي عقد زواج، ناهيك عن ازدياد نسبة الشذوذ والزواج المثلي المناقض للفطرة.
ومع الأسف الشديد تدعم الأمم المتحدة معظم هذه التوجهات من خلال مؤتمراتها الخاصة بالسكان، وبالمرأة بالقاهرة ، وبكين، واتفاقية سيداو عام 1979، ومن خلال لجنتها الخاصة بها، والمواثيق التي تريد فرضها على الدول، حتى كشفت سارة فلود بويران، الممثلة الدائمة السابقة لمجموعة الكاريبي بالأمم المتحدة، عن المؤامرات التي تدبر بأروقة الأمم المتحدة ضد قيم الأسرة واستقرارها بدعوى الحرية والعولمة.
كانت الأمم المتحدة في عام 1948 أقرت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تنص مادته 16 على أن الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والاساسية للمجتمع، وأن الرجال والنساء البالغين لهم حق الزواج وتكوين الأسرة. ولكنها مع الأسف الشديد تركزت وثائقها في العقود الأخيرة على الجندرة ، والمنظور الانثوي الراديكالي، وهو المنظور الذي يطرح الشذوذ الجنسي حقاً من حقوق الإنسان، وأن الأسرة المرتبطة بالزواج الشرعي تقف في طريق الحداثة، وأنها لم يعد لها وجود إلا في العالم الإسلامي، وأنها - أي الأسرة الشرعية - يجب تغييرها إلى النموذج المتحضر الإبداعي - اي عدم اشتراط الزواج، وطالبت الدول بتغيير تشريعاتها.
إذن نحن المسلمين نقف أمام مخاطر كبيرة تصطدم مع الفطرة والشريعة
وقد اكد العقلاء من جميع الأمم أن الدين والقيم الدينية، هي صمام الأمان للمجتمع والأسرة من التفكك، وأن الأزمات التي تعيشها المجتمعات الغربية هي بسبب القيم الليبرالية والابتعاد عن القيم الدينية، فقد أكد الرئيس الأمريكي الأسبق جون أدمز: أن الدين والمبادئ الأخلاقية هي وحدها صمامات الأمان، وأن الدولة لن تكون قادرة على كبح جماح الأهواء والنزوات غير المنضبطة.
وهناك كثيرون من المصلحين والمفكرين الغربيين والشرقيين من غير المسلمين، يُحسّون بخطورة ما وصلت إليه المجتمعات البشرية، وآثارها المدمرة حتى على بقاء الإنسان على ظهر كوكبنا، ناهيك عن السعادة والاستقرار، حيث عمّ القلق والاضطرابات وعدم الشعور بالسعادة، بل الشعور بالإحباط الذي من نتائجه الزيادة المطردة في نسبة الانتحار في العالم.
فلننظر الى العالم كيف يتعامل مع المرأة في ظل غياب نور الوحي بين الإفراط والتفريط، فكانت المرأة في المجتمعات القديمة اليونانية والرومانية والهندية والصينية والجاهلية العربية بمثابة المتاع والبضاعة وكانت محتقرة، حتى عبر عن ذلك خطيب الفلاسفة اليونان "ديمو ستين" فقال: " إننا نتخذ العاهرات للذة، والخليلات للعناية بأجسامنا، والزوجات للولادة" فمن هذه المواقف المتطرفة في كبت المرأة إلى المواقف المتطرفة في فتح أبواب حريتها التى نراها من الحضارة الغربية المعاصرة، وهذا دليل على أن الأهواء الانسانية مثل الرياح العاتية التي تدفع بالإنسان إلى أقصى اليمين من التطرف ثم تدفعه إلى أقصى الشمال.
في حين أن أنوار الوحي ثابتة فقال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فقد أخرج الإسلام المرأة من ظلمات الظلم، والجهل، والذل، والمهانة، وانعدام الحقوق، إلى أنوار الكرامة والعدل، والعلم، والمكانة التي تستحقها.
التعريف بالتوازن:
التوازن لغة مصدر باب التفاعل ، من توازن توازناً ، وأصله من وَزَنَ الشيء يزن وزناً، وزنه، أي قدّره بواسطة الميزان وعرف وزنه، والوزن هو ثقل الشيء بشيء مثله، والميزان المادي معروف .
والتوازن لغة يدل على المشاركة المتساوية ، وعلى التوسط والاعتدال ، وإعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقصان من إفراد او تفريط ، وعلى المساواة العادلة بين شيئين.
وفي الاصطلاح :
نحن نقصد بالتوازن هذه المعاني اللغوية الجميلة مع تقييده بحقوق المرأة والرجل.
إذن فالتوازن هو : المساواة العادلة بين حقوق المرأة وواجباتها وبين حقوق الرجل وواجباته.
فالتعريف يدل بوضوح على أنه حينما نتحدث عن حقوق المرأة وواجباتها، لا بد أن نقابلها بحقوق الرجل وواجباته دون إفراط أو تفريط ، وبنظرة شمولية واحدة تجمع بين الحقوق والواجبات للطرفين ، دون النظرة الأحادية أو الانتقائية حتى يكون حكمنا عادلاً موزوناً بميزان العدل.
فلفظ (التوازن) يفهم منه ان العدالة إنما تتحقق إذا وجدت معايير وموازين تزن بها الأشياء والأنشطة والحقوق والواجبات .
ومن المعلوم ان لكل شيء ميزانه الخاص، فميزان الذهب والفضة هو غير ميزان الشعير والحنطة، وهو غير ميزان الماء والكهرباء.
تأصيل التوازن في حقوق المرأة :
أولاً – أن التوازن هو الأصل والمبدأ العام والأساس لجميع ما خلقه الله تعالى ، ولما أنزله ، وأن جميع الناس مكلفون بتحقيقه في أنفسهم، وفي تعاملهم مع الناس.
فقد ورد لفظ (الوزن) ومشتقاته في القرآن الكريم 23 مرة ، أريد بها ما يأتي :
1- أن الكون كله (بسمائه وأرضه، وما بينهما) قائم على الميزان الدقيق في مكوناته فقال تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) وقال تعالى : (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) .
فقد ذكر المفسرون والعلماء بان الله تعالى جعل لكل مكونات الأرض من أحجارها ، وجبالها ويابستها وبحارها، بل وذراتها دورها في تحقيق التوازن، وأنها بهذا التوازن أصبحت صالحة للتعايش ، وأن لجميع الأجزاء المختلفة حجماً ، وحركة وصفة ، شكلاً ولوناً دوراً بحيث إذا ما زاد جزء أو نقص اختل النظام ، وان هذا التوازن ناتج أيضاً عن مجموعة من القوى الرابطة من قوى الجذب ، وقوى النبذ بين الكواكب ، وهما قوتان متساويتان تؤثران في الحفاظ على استقرار الأرض وبقائها في مدارها، وكذلك فهناك توازن عجيب بين طبقات الغلاف الجوي ، وهذا التوازن مستمر بين عمليات التفكك للذرات والجزيئات الموجودة فيها والمتولدة بفعل الأشعة السينية ، والفوق البنفسجية ذات الطاقات العالية القادمة من الشمس ، والمتمثلة بالأشعة الكهرومغناطيسية ، وبين إعادة الاتحاد لهذه الأيونات المتولدة ، وهكذا.
وقد ذكر القرآن الكريم في سورة الرحمن ان الله تعالى خلق كونه بإبداع، وبدقة متناهية قائمة على التوازن ، ثم طلب من الناس ان يحافظوا على توازن النشطة والأعمال والحقوق والواجبات، فقال تعالى : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) .
وقد أكد القرآن الكريم على إن كل شيء عند الله في هذا الكون والإنسان بمقدار معلوم فقال تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) وان كل شيء خلقه الله بإتقان فقال تعالى : (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) .
وقصدي من ذلك انه إذا كان الكون الصامد قائماً على التوازن الدقيق فكيف لا يكون كتاب الله المنزل لأجل تحقيق المصالح والمنافع والطيبات ، ودرء المفاسد والمضار والخبائث قائماً على التوازن الدقيق المحقق لمساواة العادلة ، والميزان الدقيق الذي يحقق القسط وقد قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ).
2- أن الوزن عند الله تعالى للأشياء والأعمال في الدنيا والاخرة حق وعدل فقا لتعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
3- وقد اكد القرآن الكريم على أن هذه الموازين دقيقة جداً وموضوعية وأنها لا تفرق بين شخص وآخر إلا على أساس الموزون فقال تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ).
4- وقد أمر الله تعالى الناس المكلفين جميعاً بتحقيق العدالة من خلال إقامة الموازين المادية والمعنوية بالقسط فقال تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) وقال سبحانه : (فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) كما حرّم الله تعالى الطغيان ، وتجاوز الحق والعدل من خلال عدم إقامة الميزان بالقسط فقال تعالى : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).
5- ان ازدواجية المعايير والموازين ، والعمل بميزانين مختلفين حرام وطغيان يستحق الويل وعذاب جهنم حيث سماهم الله المطففين فقال تعالى : (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
كل هذه الآيات تدل بحق على أهمية التوازن المادي والمعنوي في كل شيء ، وتدل على وجوب التعامل في الإسلام على هذا التوازن الدقيق القائم على الحق ، والمحقق للعدل والمساواة العادلة.
ومن أهم هذه الأنشطة حقوق المرأة وواجباتها مع حقوق الرجل وواجباته.
ثانياً – أن الإنسان في جميع مكوناته قائم على التوازن البديع الدقيق ، ثم جعل مركز التوازن داخل أذنيه من خلال القنوات نصف الدائرية (شبه الهلال) حيث تأخذ كل قناة منها اتجاهاً لضبط التوازن، فقناة في وضع أفقي لكي تضبط توازن الإنسان في وصفه الأفقي، والثانية في وضع رأسي لتضبط توازن الانسان وحركاته وهو واقف على قدميه ، والثالثة في وضع خلفي لتمنع الإنسان من السقوط على ظهره، او على وجهه، وكل قناة فيها من السوائل بمقدار ، فإذا ازدادت كمية السائل في إحداها او في كلها عن معدله ولو بنصف قطرة ماء فسوف يختل توازنه، كأنه تدور به السماء والأرض، وما حوله، وتزداد نبضات قلبه، ويتدفق العرق، ويسقط على الأرض، ولذلك فإن السمع هو الجزء الذي يكتمل في الجنين ، وأنه لا ينام مع نوم الإنسان مطلقاً وكذلك فإن للمخيخ دوراً في تحقيق التوازن للإنسان حيث يحتوي على جهاز التوازن المسؤول عن اتزان الجسم.
وكذلك فهناك توازن دقيق أيضاً بين مكونات الانسان من السوائل التي تصل إلى حدود الثلثين، والمواد الصلبة التي في حدود الثلث، ثم إن نصف السوائل تقريباً داخل الخلايا، ونصفه الاخر خارجها، ففي جسم الانسان حوالي مائة تريليون خلية، وهي جميعاً محاطة بالسوائل الرقيقة المنسجمة والمتجانسة المحققة للتوازن البدني العام ، يقول أ.د. عمر عارف آغا اوغلي: (إن أيّ نقص، أو زيادة في المقادير الصغيرة التي تدور حول المعدل... لا بدّ من استمراره في حالة مثالية... ومن هذا المنطلق فإن هذا الاتزان البدني مهم جداً ، لأن بقاءنا أحياء مرتبط باستمرار هذا التوازن حول المعدلات الثابتة المحددة، وعند اختلال التوازن الديناميكي الحساس....، فإن ذلك يسبب المرض ...
إن كل الخلايا والأنسجة والأعضاء والأنظمة تعمل من أجل استمرارية التوازن والاتزان بين العناصر المختلفة للكائن الحيّ ، إن الأوكسجين والمواد الغذائية في الوسط الخارجي للخلية تستخدم بصفة مستمرة من قبل الخلايا... وفي حالة حدوث أي خلل او نقص يتم أولاً إعلام النظام وإخباره، فتصدر الأوامر إلى الأعضاء المختصة مثل المعدة والأمعاء والرئة للتحرك الفوري ، فيتم تأمين القيام بعملية دفع الغذاء والأوكسجين اللازم ، ولعدم الإخلال او إفساد الاتزان بين العناصر المختلفة في الكائن الحي يتم إعطاء الأوكسجين اللازم للوسط الخارجي للخلية بالتشغيل المستمر للرئتين)، وتكلف الأمعاء أيضاً بتقديم المادة الغذائية للوسط الداخلي)، وكذلك يتم التوازن الدقيق بين طرح الفضلات من ثاني أوكسيد الكاربون والبول والغائط ونحوها، وبين ما يأخذه الجسم من الأوكسجين والمواد الغذائية بشكل عجيب معجز.
ثم إن علاقة الانسان بالبيئة من حيث الأخذ والعطاء علاقة توازنية تكاملية ، بل إنه في كل جزء من الإنسان آية على ان الله خالق واحد .
تعليق :
فإذا كان التوازن هو الحقيقة الأساسية لصنع الله تعالى في الكون ، والإنسان فإن شريعته أيضاً تقوم على التوازن والاعتدال والمساواة العادلة المتزنة ، لأن الجميع لله تعالى ذلك ملكه، وهذا عبده، وتلك شريعته المنزلة التي تنسجم مع خلقه، ويؤكد ذلك أن نسبة السوائل في الأرض في حدود 70%، وان اليابسة هي في حدود 30% وهكذا شريعته فيها الثوابت والنصوص القطعية في حدود الثلث ، وان ما يقبل التغير في الحكم والاجتهاد في حدود الثلثين ، ولذلك فإن جعل (مبدأ التوازن) هو الحاكم في تحديد العلاقات والحقوق والواجبات منسجم مع الكون ومجوعة نصوص الشريعة .
مبدأ التوازن هو الحل
لقد عشت في كنف القران العظيم متدبراً في الحل الجذري لمشاكلنا، وبخاصة قضايا الأسرة، فوجدت أن كل الحلول التي تقوم على الفكر الغربي أو الشرقي لن تحقق السعادة، والخير، والنهوض، وكذلك النظريات التي تحاول أن تجعل الأفكار الغربية من المساواة بين الرجل والمرأة اساساً لفكرنا الإسلامي المعاصر بلّي عنق النصوص، ومحاولة العصرنة، حيث فقدت هذه النظريات اصالتها، وهويتها، فلا هي إسلامية، ولا غربية في معظمها.
ولذلك وجدت ان المبدأ الشامل الذي يمثل الحل الإسلامي لقضايا الأسرة، هو مبدأ "التوازن"، وهو مبدأ يقوم عليه الكون كله، كما يقول الله تعالى (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ).
إن التوازن: هو تحقيق التعادل بين أمرين متقابلين، بحيث يوزن كل واحد منهما بما له قيمة وثقل مع الآخر، بحيث يعطي كل واحد منهما حقه بالكامل دون زيادة، أو نقصان (أو افراط وتفريط)، والتوازن في الإسلام ليس إلغاءً لأحد الشيئين، أو مزجهما فيخرج منهما منتج ثالث، وإنما بتشغيل طاقة كل واحد منهما وتوجيهها نحو الخير وتوزيع الأدوار، ليقوم كل واحد منهما بدوره المنشود ضمن حركة الحياة الدائبة، كما هو الحال في التوازن بين مكونات الإنسان نفسه، فلكل منها وزنه، ودوره، وطاقته.
فالتوازن بين الرجل والمرأة يعني أن يعرف لكل واحد منهما دوره، ووزنه، ومكانه، ومكانته بدقة، فيعطى لكل واحد منهما حسب ما ذكر حقه، ودوره بالكامل، وهكذا التوازن بين كل أمرين متقابلين مثل التوازن بين متطلبات الدنيا والآخرة، والحق والواجب، وبين مصالح الشخص ومصالح الآخر، وبين مصالح الفرد ومصالح الجماعة والدولة، وبين العقل والعاطفة، وهكذا...
فالتوازن في جوهره هو تحقيق العدل بين المتقابلين، والوسطية منهجاً في التنظير والسلوك، ورعاية الحقوق المتقابلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والإنسان والحيوان، والإنسان والبيئة، ثم الإنسان وأنشطته المتقابلة داخلياً، أو بين اي نشاط ونشاط متقابل لآخر...
إن القران الكريم أكد على أن الكون كله موزون (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) وأن الإسلام جاء لتحقيق الانسجام والتناغم بين الإنسان والكون من خلال التوازن نفسه، حتى يكون الإنسان متزناً ومتوازناً في أنشطته، وبذلك يكون قادراً على تعمير الكون وفق ما يريده الله تعالى من التعمير المتوازن المحقق لتوازن البيئة، فقال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
وأن الوسطية الحقيقية للأمة لن تتحقق إلا من خلال المنهج المتوازن فقال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وهذه الوسطية هي وسطية التصور والاعتقاد ، لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الارتكاس المادي، وإنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح.. أمة وسط في التفكير والشعور، .. وفي التنظيم والتنسيق... وفي الارتباطات والعلاقات، لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تُلاشي شخصيته في شخصية الجماعة، أو الدولة...)
فالتوازن هو المقابلة بين وزن الشيء ومقابله، اي بين وزنه الحقيقي دون زيادة أو نقصان، ثم يعطى حقه وما يستحقه ليتحقق التوازن الحقيقي، ولذلك سمي الميزان ميزاناً، ولكن ميزان الحقوق والواجبات، والأنشطة الإنسانية يختلف عن ميزان الماديات، وأنه بهذا التوازن والميزان يتحقق العنصر الأول للعدل والاعتدال، والمنهج الوسط، والحق والقسطاس المستقيم، وأما العنصر الثاني فهو القران الكريم والسنة النبوية الصحيحة، حيث بهما يتحقق المرجعية، ولذلك ربط الله تعالى العدل بهذين العنصرين فقال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
وقد تكرر هذا الربط في سورة الرحمن حيث يقول تعالى (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).
فهذه الآيات الكريمات أكدت على الربط بين القرآن والميزان بالنسبة لسعادة الإنسان وكرامته وحياته في هذه الدنيا حياة سعيدة، ثم بينت أن الله تعالى هو الذي وضع الميزان الدقيق لكل شيء بما فيه الكون كله والإنسان، وأن على الإنسان إذا أراد حياة موزونة أن يحافظ على وزن كل شيء بدقة وعدم الظلم والطغيان في الميزان، وأن ينطلق من مبدأ الرحمة، ومبدأ أن الأرض خلقها الله تعالى لجميع البشر ذكرا أو أنثى بل لجميع المخلوقات (والأرض وضعها للأنام).
إن مبدأ التوازن في العلاقات الأسرية يجب تحقيقه في جميع الجوانب الفكرية والنظرية والتطبيقية والعلاقات الاجتماعية والأسرية والاقتصادية، ومن حيث الرؤية والفلسفة، ومن حيث الأهداف والمقاصد والغايات، ومن حيث الوسائل والأدوات.
أولاً: الجانب العقدي والفكري والفلسفي والمقاصدي هو: أن العقيدة الإسلامية تفرض أن تكون نظرة المسلم إلى كل شأن وبخاصة إلى جزئه الثاني، وشريكة حياته، نظرة قائمة على هذا التوازن الذي يحقق العدل والإنصاف، وذلك من خلال ما يأتي:
1- إن المرأة هي أصل عظيم كما أن الرجل أصل عظيم لبداية الخلق ولاستمراره، فكل إنسان مبدؤه إلى آدم وحواء ، وهما من الأرض القائمة على الزوجية، وكذلك استمرار الحياة حيث يتكون الجنين من 23 كروموسوماً من الزوج، و23 كروموسوماً من الزوجة ، فلا يمكن أن تستمر الحياة بأحدهما فقال تعالى (إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ).
2- إن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تستقر وتزدهر إلا بالذكر والأنثى، وبتوزيع الأدوار عليهما، وهذا لا يتحقق إلا بالتوازن.
3- إن التصور الإسلامي يقوم فعلاً على أن الذكر ليس كالأنثى، والأنثى كذلك ليست مثل الذكر، فقال تعالى (وَلَيــْسَ الذَّكــَرُ كَالْأُنْثــَى)وهي حقيقة طبيعية وعقلية كما أنها حقيقة شرعية، فالأنثى تخلق من XX من حيث الجينات والكروموسومات والذكر تخلق من YX كما أن معظم المكونات الأساسية الجسدية مختلفة بالضرورة والبداهة، فالله تعالى اراد ذلك للتكامل وتوزيع الأدوار، ولو كانا متساويين لكانت المرأة نسخة من الرجل أو بالعكس، وحينئذ لما تحققت الغايات والمقاصد المرجوة من خلقهما.
4- إن مقاصد الشريعة من خلق الذكر والأنثى هو تحقيق العبودية لله تعالى، وتحقيق الاستخلاف والتعمير والبناء والحضارة من خلال التكامل الحقيقي بين الرجل والمرأة، وتوزيع الأدوار بينهما في الحياة الدنيا حتى يتحقق السعادة والمودة والرحمة، وحتى تكون العلاقة بينهما على أساس التآلف والتكامل وليست على اساس الصراع والغلبة والقهر والمغالبة فقال تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ويقول سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، كما أن من أهم مقاصد الزوجية التآلف والتعارف فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .
5- إن رؤية الإسلام في التوازن بين الناس هي أن تصل الإنسانية إلى مرحلة النضج في توزيع الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء بعيداً عن الظلم ، والإفراط والتفريط، وبعيداً عن الازدواجية في المعايير، والحقوق والتطبيق.
6- إن حقوق المرأة المتوازنة مع حقوق الرجل هي التي تصنع المجتمع المتوازن دون تصارع ولا تصادم، في حين أن الوضع التصادمي يجعل آثاره واضحة على الفرد، والأسرة والمجتمع، ويؤدي إلى إبطال طاقة الآخر أو جزء منها على الأقل.
7- إن التوازن الحقيقي يقتضي أن يقر التساوي بين الرجل والمرأة في أصل الخلق، وفي كل نشاط أو صفة لا يكون للذكورة أو الأنوثة دور، أو تأثير كما هو الحال في الكرامة، والحقوق العامة من حرية العقيدة والرأي والفكر، ونحوها، وكذلك الحال في الأجر والثواب على العمل الصالح، وثمراته الدنيوية والآخروية، والعقوبات على الأعمال الإجرامية، مع ملاحظة أن بعض الواجبات، أو العقوبات مخففة على المرأة بسبب طبيعة المرأة، أو مدرأة عن المرأة. وكذلك المساواة الكاملة في الملكية، والأهلية الكاملة، فلا فرق بينهما، وبذلك سبق التشريع الإسلامي كل التشريعات الوضعية التي تأخرت كثيراً عن الإسلام في الاعتراف بحق الملكية التامة للمرأة، والأهلية التامة لها اذا توافرت شروطها المطلوبة في الرجل وكذلك الاعتراف بالذمة المستقلة للزوجة، في حين أن القوانين الغربية لم تصل إلى هذه النقاط الثلاث إلا في القرن العشرين.
ثانياً: إن التوازن الذي شرعه الله تعالى في الاسرة تكويناً وإستمراراً وانتهاءً وحقوقاً وواجبات هو ما يأتي:
1- تحقيق التوازن عند الاختيار بحيث يكون اختيار الطيبين للطيبات، واختيار الطيبات للطيبين، اي تكون رعاية الدين والأخلاق والقيم في سلّم الأولوية، ثم تأتي بقية المواصفات المطلوبة باختيار الطرفين ايضاً.
2- عند التعاقد فإن التوازن يتحقق بالاختيار المتبادل، وأن يتم تراضي الزوج والزوجة بإرادتين حرتين دون إكراه ولا غش ولا تدليس ولا تقرير ولا غلط من الطرفين، حيث العقد لن يتحقق إلا بهذا التراضي حسب النصوص الشرعية.
3- بعد التعاقد تتكون مؤسسة الأسرة من الزوج والزوجة، ويديرها الزوج، ولكن بالتشاور التام مع الزوجة، فقال تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)علماً بأن هذه القوامة ليست استبداداً، ولا بالتغلب والمغالبة والقهر، وإنما يجب أن تكون بالتراضي والتشاور، حتى أن صوت الزوج مع أنه مدير، ليس مرجحاً على صوت الزوجة، وهذا ما أكده القران الكريم حيث يقول تعالى (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) فهذه الآية الكريمة تضع مبدأ عظيماً لإدارة شؤون الأسرة، وهو أن جميع القرارات، حتى التي يتعلق بفطام الولد عن الرضاعة، يجب أن تكون وفقاً للتراضي والتشاور والتوافق التام. وذلك لأن الله تعالى اشترط لعدم الجناح على الزوجين أن يتم إدارة الاسرة بالتراضي، والتشاور، وإلا فيقع الإثم عليهما أو على الممتنع عن التشاور والتراضي، وبخاصة أن الله تعالى استعمل لفظة "تراض" و "تشاور" وهما من باب التفاعل الذي يدل على المشاركة المتساوية بين الطرفين، على عكس باب المفاعلة الذي يدل على غلبة الفاعل على المفعول به، وهذا يعني أن صوت المرأة ورضاها متساوٍ تماماً لصوت الرجل ورضاه دون زيادة.
4- وبعد التعاقد بحكم الشرع، أو في العقد لا بد من تنظيم مؤسسة الأسرة، وتوزيع الأدوار من خلال توزيع الالتزامات والحقوق على الطرفين، وقد أعطيت للرجل درجة القوامة فقط، ولكن وفق الشرط الذي ذكرته في البند 4 وهي وظيفة تشريفية مقيدة بالتشاور مع الطرف الآخر - كما سبق - وليست سلطة استبدادية أو دكتاتورية.
ومن هنا يقتضي مفهوم التوازن، العلم الكامل من الزوج والزوجة بجميع الحقوق والالتزامات، ووجوب الحرص على تطبيقها من الطرفين، والسعي الجاد لتحقيقها بكل صدق وصفاء وإخلاص، ولا شك أن من أهم الرسالة الاساسية في الحياة هي قيام الأم بأمومتها بحيث تكون لها الأولوية على الأمور الأخرى.
وقد سعى الإسلام سعياً كبيراً لتنظيم هذه العلاقة بين مكونات الأسرة وحمايتها بجميع الوسائل، واستعمل لأجلها جميع الوسائل المتاحة من التقوى والرقابة الإلهية والدخول في التفاصيل حتى إننا لا نجد أن القران فصّل في شيء مثل ما فصّل في قضايا الأسرة والمرأة، حتى بلغ علاج الحالات الفردية فقال تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً).
5- أوجبت الشريعة أن تكون العلاقة قائمة على الود والمحبة والرحمة، والوئام والانسجام والإمساك بالمعروف، أو التسريح بإحسان بعد استعمال جميع الخطوات المطلوبة.
وبيّنت الشريعة بأن الحلّ الأمثل عند الخلاف هو التحاور بالحكمة (والله يسمع تحاوركما) والجدال بالتي هي أحسن، فإن لم يجد فالوعظ والإرشاد، ثم التحكيم، وعند التحكيم أوجب الإسلام التوازن من خلال (حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا).
6- إن التوازن الأسري يتحقق بأن يقوم كل واحد من الزوجين بواجبهما ومسؤوليتهما التي فرضها الله تعالى عليهما فقال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
ثالثاً: إن اسس التوازن في الإسلام بالنسبة للأسرة وغيرها هي :
1- العدل من خلال رعاية الحقوق المتقابلة، أو الحقوق والواجبات.
2- التفاهم من الطرفين في جميع الأمور.
3- التعارف على البعض من خلال التعرف على الصفات والأخلاق والطبائع لدى الآخر.
4- الاعتراف بحق كل واحد من الطرفين، وبفضله.
5- التعاون البناء على البر والتقوى.
6- التراضي والتشاور في كل ما يتعلق بشؤون الأسرة.
7- النظر إلى الأسرة بأنها المؤسسة التي يبني عليها المجتمع والأمة، وبالتالي الاتفاق على التخطيط والتنظيم والتنسيق والإدارة الناضجة، والاهتمام بالخطط المستقبلية للأسرة والأولاد، وبيان الأهداف والرؤية والوسائل والمشاريع والبرامج.
رابعاً: أن التوازن متحقق تماماً في الميراث حيث تبين الدراسات العلمية أن النسب المالية في الفرائض مرتبطة بعدة عوامل اقتصادية واجتماعية ولذلك نرى أن الرجل يأخذ أكثر من المرأة في عدة مواضع، ولكن المرأة تأخذ أكثر منها في مواضع أخرى تزيد عن 30 موضعاً، كل ذلك لتحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي.
وأخيراً فهذا المبدأ المأخوذ من القرآن والسنة هو الحل في عالم اختلت فيه الموازين، والامل في العلماء والمفكرين والمسلمين أن يقدموا للآخرين الرحمة التي أنزلها الله تعالى .
التوازن يقتضي المساواة ولكنها المساواة العادلة :
إن مشكلة الحضارات السابقة والمعاصرة هي في الإفراط والتفريط، فالحضارات القديمة الفرعونية ، والرومانية ، والاغريقية، والفارسية والجاهلية العربية لم تكن تعطي وزناً للمرأة ، ويعتبرها بعضها شراً لا بد منها، وعاراً يجب ان تدفن ، وهكذا ، فجاء الإسلام بهذا التشريع العظيم الذي جعل الأصل هو المساواة ، واستثنى بعض الأمور مراعاة لطبيعة المرأة ، وتحقيقاً للتوازن العادل من خلال منهجية دقيقة .
نحو منهجية دقيقة في بحث هذا الموضوع :
وإذا نظرنا إلى التأريخ الإنساني وتجاربه نرى أن أكبر المشاكل والمصائب تكمن بين طرفي الأمر الافراط والتفريط ، فإما أن يفتح الباب على مصراعيه دون قيود ولا ضوابط فيؤدي ذلك إلى الفوضى الشاملة ، أو يغلق الباب غلقاً محكماً ، ويسدّ بالمسمار لمنع أي تسرب حتى للهواء الطلق ، فيفسد ما في داخله .
ومن جانب آخر فإن الافراط ، أو التفريط نفسه إنما يحدث لدى التحقيق وفي معظم الأحيان بسبب النظرة الأحادية إلى الشيء ، والانحسار في دائرة واحدة أو زاوية واحد أو حتى مجموعة من الزوايا ، ولكن دون نظرة شمولية جامعة تحيط بذات الشيء وواقعه ومقاصده ، ووسائله ، وبما يترتب عليه من نتائج أو ما يسمى بفقه الواقع ، وفقه المآلات ، وسد الذرائع .
المنهجية العلمية تقتضي توافر شروطها عند الحديث عن المرأة:
إن المنهجية العلمية تقتضي توافر شروطها المطلوبة عند البحث عن حقوق المرأة، ومن أهم شروطها ما يأتي:
الاعتماد على الثوابت الإسلامية في قضية المرأة، المتمثلة في النصوص قطعية الدلالة، وقطعية الثبوت.
وأما ما عداها من النصوص الظنية بجميع أنواعها فهي قابلة للاجتهادات، وبالتالي تغيير الاجتهاد فيها حسب المؤيدات الشرعية وبخاصة مقاصد الشريعة، وتحقيق المناط.
أن جميع الاجتهادات الظنية السابقة – ما عدا المجمع عليها – يمكن إعادة النظر فيها، لأنها كانت متأثرة بالبيئة والأعراف والتقاليد، ومن المعروف فقهاً وأصولاً أن الاجتهادات المبنية على المصالح الأعراف تتغير بتغيّر مبناها حتى ولو كانت مجمعاً عليها، ومن القواعد الحاكمة أن الفتاوى الاجتهادية تتغير بتغير الزمان والمكان، والأشخاص
ضرورة التفرقة بين العادات والتقاليد التي تحكمت في المرأة تحت ظلال الأعراف وين ما ثبت بالنص

JoomShaper