نجوان الليثي
ماذا لو قامت أحد المراكز البحثية باستقصاء حول عمل المرأة، ترى كم هو عدد السيدات اللاتي سيرحبن بالعودة إلى البيت، بعيداً عن كاميرات التصوير ومحاولات بعضهن بالظهور بمظهر المثقفة الواعية التي تعمل لكي تحقق "ذاتها".
صحيح أن تحقيق الذات سيكون هدف السيدة التي تعمل في شركة أجنبية وقد اعتلت أحد المناصب العليا الرفيعة التي تنطق باللغة الإنجليزية حيث تجد صعوبة في ترجمته مباشرة إلى العربية، حيث ترتدي ملابس رسمية وتعقد اجتماعات مع مجموعة من الموظفين ممن تخرجوا في جامعات أجنبية أو ممن حصلوا على ماجيستير في إدارة الأعمال من الولايات المتحدة، وهذا أمر طبيعي أن ترتبط مثل هذه السيدة بعملها حيث المكتب النظيف المكيف والنظام اللطيف المحبب حتى وإن كان صارماً.
لا تقارِن هذه السيدة أبداً ولا تذكر كلمة تحقيق الذات أمام سيدة "تصطبح" بكوب شاي ثقيل مع شطيرتين فول وأخرى طعمية حيث يتكوم مجموعة من الموظفين البؤساء في حجرة ضيقة يزيد من بؤسهم مجموعة من المواطنين المساكين الذين أجبرهم حظم التعس للتعامل مع هذه المصحلة الحكومية أو تلك.
السؤال هنا ورأس المشكلة أننا ندفع المرأة دفعا لسوق العمل حتى ولو لم ترد ذلك، لأنها أصبحت في "حاجة" إلى الحفاظ على البقاء، فأهداف النزول لميدان معركة العمل لم يعد تحقيق الذات، وإنما زوج يضغط عليها لكي تعمل وتأتي بالمال "له ولأولادها" ثم لها -هذا إن تبقى لها شيء-، أو أسرة تلح على ابنتها للخروج لكي تأتي بعريس أو تصبح عروس "لقطة" أو تنفق على احتياجاتها.
وأشق أنواع العمل أن تعمل ليس من أجل نفسك أو لتحقيق أهدافك؛ بل تعمل لإرضاء الآخرين وسد احتياجاتهم لأنه يوقعك تحت ضغط عظيم، فعالم الأشباح يواجه المرأة الآن إذا لم تعمل.. شبح العنوسة وشبح الفقر وشبح الطلاق.
من ناحية أخرى هناك سقف لطموح المرأة، خاصة إذا تجاوزته لاحقتها اتهامات من قبل الكسالى المحيطين بها في مجال العمل على سبيل المثال لا الحصر بأن المرأة الناجحة "مستقوية ومسترجلة"، أو مقصرة في حق بيتها وأطفالها أو عانس لا تجد ما تفعله في الحياة، وفي بعض الأحيان يسألون سؤالاً يبدو بريئاً جداً.. "كيف استطاعت أن تنجح هذا النجاح بدون تنازلات أخلاقية؟!!.
البحث عن مقعد
حتى جمعيات حقوق المرأة وصاحبات الأقلام المناهضة لديكتاتورية ورجعية الرجل وكذلك ضيفات برامج التوك شو تنادين المرأة بانتزاع مقعدها في البرلمان، ويطلقن صرخات عالية لدعوة المرأة للتمرد والوقوف أمام الرجل لانتزاع حقوقها.
ولكنهن لا يعرفن -تقريبا- أن المرأة خرجت بالفعل من بيتها صباحاً لاهثة لكي تنتزع حقها في مقعد الأتوبيس، صحيح أنها تقف أمام الرجل ساعة تقريباً ولكنه لا يلتفت إليها وكأنها كائن غير مرئي.. صحيح أنها تتألم من الوقوف على قدميها طوال النهار والليل، إلا أن الجميع يرون أنها "مستقوية" تستطيع الوقوف في الأتوبيس وفي المطبخ وفي الشارع طالما قبلت العمل.
حتى عندما يقترب منها الكمساري فتتحصن بحقيبتها لكي لا يلمسها وتحاول أن تظهر له بأنها حريصة ألا يقترب منها رجل تجده لا يكترث بها ويمر إلى جوارها في وضع تحرش صريح، وإذا انكمشت أو أعلنت رفضها للموقف يرد عليها الكمساري بوقاحة "في ايه يا ست لدغتك عقربة ؟!"، ولو لم تتردد في انتزاع حقها باحترام الجميع لجسدها وآدميتها ترى نظرات المحيطون بها تستنكر تصرفات تلك المرأة "المسترجلة"!!، ويتسائلون فيما بينهم "كيف تجرؤ على الاعتراض هكذا... أما بجاحة!!.
إن كان للذات معنى!
وقد لا تدرك كثير من رائدات العمل النسائي في مجتمعنا أن فتاة الدبلوم حينما حصلت على شهادتها المتوسطة لم تكن تحلم بالعمل لتحقيق ذاتها، فهي لا تعرف معنى كلمة "الذات" من أساسه، قد تكون سمعت الكلمة من ممثلة شهيرة في مسلسلها الرمضاني الأخير، إلا أن الذات والهدف وكلمات من هذا القبيل لا تعني لها شيئاً.. هي فقط تحاول أن تحافظ على أن تعيش حياتها التي فرضت عليها.
فهي تقف بالساعات في محل ملابس بوسط المدينة تقوم بعرض قطع الملابس على الزبائن و تحاول أن تساعدهن في الاختيار، تعلمت من زميلاتها أن تحاول إقناع الزبونة بأن هذه القطعة أو تلك مناسبة لها للغاية طمعاً في بضعة جنيهات تعطيها لها الزبونة في حالة الشراء، أو حتى ليرضى عنها صاحب المحل ويشعر أنها بائعة "شاطرة".
أما عن أحلامها وأهدافها فهي لا تتعدى بلوزة تعجبها في المحل وتطلب من صاحب المحل شراؤها بالقسط أو بسعر مخفض أو تحلم بشراء موبايل بكاميرا، وأقصى أمانيها أن يتقدم لخطبتها شاب يعمل في محل الأحذية المجاور أو طيار الديلفري في المطعم المقابل، وتبالغ في الحلم بفستان زفاف أبيض غزير التطريز وفرح كبير وأغاني ورقص حتى الصباح.. يقطع حلمها صراخ والدتها بجوارها تطلب منها تجهيز الطعام لشقيقها وتذكرها دائما بأقساط الجمعية والثلاجة بدلاً من إنفاق المرتب على الكلام الفاضي.
كذلك يفسد عليها حياتها شقيقها الذي يتشاجر معها يومياً لتأخرها في العمل وبعدها بساعتين يقترض منها بضعة جنيهات لآخر الشهر و بالطبع لا يردهم.. تحاول أن تعترض.. أن ترفض.. أن تصرخ، يرد عليها الجميع بأن "الفلوس" جعلت منها فتاة مفترية ولا تتحمل المسئولية ولا تشعر بالأعباء الواقعة على أسرتها.
صراع من أجل البقاء!
أما فتاة الجامعة الأنيقة التي ظنت منذ أربع سنوات أنها مخلوق يستحق التقدير لأنها مختلفة ومتميزة عن الآخرين لأنها التحقت بالجامعة؛ تصطدم بواقع مرير بأنها نسخة مكررة من آلاف الفتيات في المجتمع فور تخرجهن في الجامعة سعين للالتحاق بالعمل "ظاهرياً" لتحقيق الذات، وإذا تحدثت مع الواحدة منهن ستجدها أكثر بلاغة وإقناعا من قاسم أمين نفسه، ولكن في أحاديثها التليفونية مع صديقتها الحميمة تخبرها بأنها تعمل لكي يراها العرسان ويتقدموا لخطبتها ذلك لأن ندرة العرسان من ندرة الخروج، وتنصح صديقتها بضرورة العمل حتى ولو كان العمل بلا قيمة معنوية أو مادية، فليس من الطبيعي أن تنفق الفتاة على مظهرها واحتياجاتها اليومية أضعاف ما تحصل عليه من وظيفة حكومية لا تلبي أي طموح حيث تجلس على كرسي، كرسي فقط وليس مكتب، في غرفة تكتظ بالموظفين وتدعي أنها تحقق ذاتها.
وإذا لم تستطع الالتحاق بوظيفة عليها استكمال دراستها العليا إلى حين ميسرة، والميسرة بالتأكيد هي وصول السيد العريس حتى صالون البيت.. حتى هذا النوع من الفتيات يراه المجتمع مدلل ومرفه إلى حد الاستفزاز، حتى حينما تحاول الفتاة أن تظهر بمظهر الفتاة ميسورة الحال التي تعمل بغير هدف مادي يرونها "مفترية " لأنها تخطف فرصة عمل من شاب مسكين .. في الوقت الذي تناضل فيه الفتاة الجامعية من أجل "البقاء على وجه الدنيا ...الدنيا التي لم تستمتع بها بعد ..
واحد تحرير ..تحرير!
قد تكون هذه النوعية من الفتيات أقلهن حاجة مادية للعمل، وحاجتها للعمل تكمن في شغل وقت الفراغ لكن الحاجة سعاد مديرة الإدارة المتخصصة في "كلكعة" الأمور وتوقيف المراكب السائرة، فهي ليست سوى امرأة أخرى مقهورة وليست "مفترية "على الإطلاق، صحيح أنك إذا نظرت إليها ستتعجب لماذا يطلق على هذا المخلوق اسم "أنثى" ذلك لأن الهموم نحتت في وجهها تعاريج وصبغت على وجهها حنق وسخط من الدنيا وما فعلته بها.
هذه المرأة لا تخجل من أن يتفوه أمامها رجل بكلمة بذيئة لأنها فقدت مشاعرها الأنثوية تماما، ولماذا لا تفقدها! فهي تجري وراء الميكروباص عدة أمتار وتنحشر فيه وسط رجال من كل ناحية، تتشاجر مع سائق الميكروباص الذي يرفع الأجرة ربع جنيه، وتفاصل مع البائع حتى تزهق روحه في الفصال لكي تنتصر بأن تخفض من سعر الطماطم نص جنيه في الاثنين كيلو.. تعود إلى بيتها فتجد زوجها الكئيب يجلس في الصالة بفانلته الداخلية المهترئة وشعره المجعد ولحيته التي أعلنت عن وجودها رغماً عن الجميع، ورائحة عرقه المقززة التي اعتادت عليها على أية حال، هذا الرجل الذي أبدع في فنون النكد حتى أصبحت حياتها معه جحيم لا يحتمل، عادت لتسخين ما تبقى من غذاء الأمس.. وضعت الطعام في صمت وكأن كل شيء يتم من خلال آلة صامتة.
مباديء تفصيل
نعم الحاجة سعاد ترى نفسها امرأة قوية ليس فقط لأنها استطاعت تلبية احتياجات أولادها وانفاق جزء كبير من مرتبها على الدروس الخصوصية للأبناء، أو لأنها نجحت في ترتيب أولويات الإنفاق في البيت وفي نفس الوقت إسعاد الأولاد بطعام وملابس وكروت شحن للموبايل، ولكن لأنها لم تجد رجل قوي تستند عليه في حياتها فزوجها "حريقة سجاير"، بخيل إلى حد لا يغتفر، يرى أن الرجل خلق في الدنيا لكي يكون له الحق في كل شيء وأي شيء ولا يقبل من أحد أن يعارضه في البيت لأن الكلمة كلمته ذلك تطبيقا لمبدأ "المركب ذات الرئيسين.. تغرق"، أما في مسألة مصروف البيت ومتطلبات الأبناء فهو يطبق مبدأ آخر تماماً وهو "القفة اللي بودنين..لازم يشيلها اتنين"!!.
مشاجرة بداية الشهر أصبحت مقدسة تعطيها قوة غير طبيعية على مواجهة الجميع.. ترى أن التحدي الحقيقي هو الحفاظ على البيت مع قليل من المساعدة من قبل الزوج.. طلبت من زوجها منذ سنوات تسوية معاشها لكنه رفض بشدة وظل يسرد عليها واجباتها نحو بيتها.. دروس خصوصية للثانوية العامة، جهاز الإبنة الكبرى، ومصروفات جامعة وكتب للصغرى، تكاليف علاجها وأعباء الحياة وغلاء الأسعار المستمر.. جميعا أمور تجعل من التفكير في الراحة أمر سخيف للغاية ورفاهية لا تستحق الطرح.
لم تنس أبدا أنها امرأة، ولكن الجميع يذكرونها دائما بأن تنسى مثل هذه الأمور التافهة.. تشاهد في التليفزيون سيدات أنيقات يرتدين الذهب والألماظ وقد صبغن شعورهن بدرجات مختلفة للون الأصفر يتحدثن عن حقوق المرأة وضرورة نزولها إلى ميدان العمل لتعتلي أرقى المناصب القيادية، وهي بالطبع فرصة مناسبة لزوجها لمعايرتها بعمرها واختفاء مظاهر أنوثتها "شايفة الستات !!".. فتخبره أنها "مش شايفة كويس" لأنها طلبت منه نظارة لكنه رفض وأخبرها أن "مفيش فلوس"، فتغمض عينيها لتعود مرة أخرى لتأدية دورها الآلي الصامت حتى ولو اتهمتموها بالاستقواء فإنها لا تعبأ بذلك أبدا.
نحن الآن لسنا بحاجة إلى وجود مدافعات عن حقوق المرأة، ولكننا بحاجة كبيرة إلى جمعيات أو مجلس قومي للرجل يذكره بواجباته تجاه مخلوق اسمه المرأة.
إسلام أون لاين