نجيب الخنيزي
نشوء الرأسمالية في أوربا إبان ثورتها الصناعية الأولى اعتمد بشكل كبير على استغلال قوة العمل الرخيصة في ظل ظروف غير إنسانية وفي مقدمة من استغلتهم بشكل بشع النساء والأطفال. مع أن الرأسمالية مثلت تاريخياً مرحلة تقدمية وثورية إلى الأمام من خلال القضاء على التشكيل الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ السياسي الإقطاعي القديم وتشييدها نمطاً (برجوازياً) مغايرا حديثاً، كما فرضت هيمنتها السياسية والأيدلوجية التي مكنتها من تحرير قوة العمل بما في ذلك عمل النساء والأطفال. وإزاء تفجر الصراعات الاجتماعية والسياسية، وتنامي الحركة المطلبية والنضالية والثقافية للمرأة في الغرب من ناحية، وتطور الإنتاجية وإدخال المكنة من ناحية أخرى أمكن تعديل وتطوير كثير من الأنظمة والإجراءات والتشريعات والقوانين في البلدان الصناعية (الرأسمالية) المتطورة التي تكفل الحقوق العامة للمواطنين ومن ضمنهم النساء، ومساواتها (في فترات متباينة) مع الرجل في المجالات كافة.

غير أن حياة الغالبية الساحقة من سكان العالم (الجنوب) وفي مقدمتهم النساء والأطفال ما تزال مهددة، يطحنها الفقر والجوع والمرض وانعدام الأمل في المستقبل، وفي ظل العولمة فإن حدة الفوارق بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء أخذة تزداد اتساعاً وعمقاً.
جاء في تقرير أصدرته منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) عن وضع الأطفال والنساء في العالم، إن البشرية ستتعرض للخطر طالما بقيت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأطفال والنساء، وطالما بقيت الظروف التي تجعل تلك الانتهاكات موجودة وتزيد منها من دون تغيير. وذكر التقرير أنه مع بدايات القرن الحادي والعشرين أصبح الأطفال والنساء يشكلون الغالبية الساحقة من فقراء العالم كما أنهم يشكلون السواد الأعظم من المدنيين الذين يلاقون حتفهم أو يصبحون مشوهين أو مقعدين جراء الصراعات المستمرة وحقول الألغام المنتشرة في مناطق النزاع، وهم أيضاً أكثر المجموعات عرضة للعدوى بفيروس نقص المناعة (الإيدز). أما حقوقهم المنصوص عليها في اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة فهي تتعرض للانتهاكات كل يوم بطرق وأساليب يصعب حصرها.
تضمن تقرير اليونسيف: إن ما يزيد على 30500 طفل وطفلة دون الخامسة يموتون كل يوم لأسباب يمكن الوقاية منها، في حين يصاب 250 ألف طفل وشاب بعدوى فيروس الإيدز شهرياً ،وفي كل عام تلقى نحو 600 ألف امرأة حتفها نتيجة مضاعفات الحمل والولادة التي كان بالإمكان تفاديها، كما يحرم مئات الملايين من الأطفال والنساء في البلدان النامية من المياه والمرافق الصحية والمدارس. وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن ما يقارب الـ250 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5ـ14 سنة في البلدان النامية يعملون في ظروف خطرة.. وأنه في الفترة الممتدة من العام 1989م حين تم إقرار حقوق الطفل وحتى نهاية 1999م قتل أكثر من مليوني طفل وجرح وأعيق أكثر من 6 ملايين وآخرين بسبب النزاعات وانتشار الألغام الأرضية، كما يجبر عشرات الملايين من الأطفال والنساء في العالم وخصوصاً في بلدان الجنوب تحت وطأة الفقر والحاجة على ممارسة أعمال تتسم بالخطورة على حياتهم وصحتهم بما في ذلك الانخراط في الميليشيات والجماعات المسلحة أو ضمن عصابات الإجرام المنظمة التي تمارس نشاطات غير مشروعة مثل تجارة المخدرات والسرقة والسوق السوداء والدعارة. على الصعيد العربي، نشير هنا إلى ما أحدثه عدوان وجرائم إسرائيل المستمرة منذ قيامها وحتى الآن ضد البلدان والشعوب العربية بما في ذلك عدوانها الأخير على لبنان في شهر يوليو/ تموز ,2006 وما ارتكبته قواتها من مجازر بشعة، وتهجير قسري طال مئات الآلاف من المدنيين اللبنانيين وجلهم من النساء والأطفال. ويندرج في هذا السياق ما تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي يومياً من مجازر وقتل بحق المدنيين، ومن تدمير وحصار وتهديم للمنازل وجرف ومصادرة الأراضي والمزارع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ناهيك عن حروبها العدوانية السابقة (منذ قيامها وحتى اليوم) ضد الفلسطينيين والعرب، وآخرها عدوانها الهمجي على قطاع غزة في مطلع العام الماضي ,2009 والذي كشف تقرير غولدستون بعض تفاصيله ونتائجه المخيفة. الأمر ذاته ينطبق على ما يجري يومياً في العراق القابع تحت هيمنة الاحتلال، وما قامت به قوات التحالف وخصوصاً القوات الأميركية وجماعات المرتزقة (وتر بلاك) من قصف وتعديات وقتل وعقاب جماعي بحق المدنيين، وما يحدثه تصاعد وتيرة العنف والإرهاب (الديني والطائفي والاثني) من قبل المليشيات الطائفية والجماعات الأصولية التكفيرية، والذي نجم عنه مقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين من المدنيين العراقيين في الداخل والخارج في الآن معاً.
لقد سلطت الكثير من التقارير العراقية والدولية الضوء على ظروفهم الحياتية المفزعة وخصوصاً اليتامى والمعاقين في مقرهم ببغداد وغيرها من المدن العراقية، ناهيك عن اتساع نطاق الفقر والبطالة وتردي الخدمات، وانتشار الجريمة المنظمة وتجارة الجنس، والتي يأتي في مقدمة ضحاياها نساء وأطفال العراق الجريح والمنكوب بالاحتلال ونظام المحاصصة الطائفية وشيوع الفقر والبطالة وتردي الخدمات. وقد لوحظ لجوء المجموعات الإرهابية إثر تقلص إمكاناتها اللوجستية وقدرتها على التحرك بحرية نسبية إلى تجنيد النساء والأطفال في تنفيذ عملياتها.
هناك أوضاع مشابهة كما يحدث في الصومال، السودان، أفغانستان، اليمن، وغيرها من المناطق الساخنة. إضافة إلى ما يحدثه انتشار مخلفات حقول الألغام والقنابل العنقودية المنتشرة في مناطق النزاع والحروب من الضحايا كل يوم، بل إن إسرائيل إمعانا في ساديتها لم تتردد في إلقاء القنابل العنقودية والفتاكة وبعضها على هيئة لعب للأطفال. وفي كل تلك الحالات كان النساء والأطفال في مقدمة الضحايا. تلك الانتهاكات الصارخة لمبادئ حقوق الإنسان الأساسية في الحياة والعمل والصحة والكرامة والعدالة الإنسانية تحدث تحت سمع وبصر عتاة العولمة المتوحشة.

 

 

صحيفة الوقت

JoomShaper