العنود المهيري
جلسنا بأحداقنا المتسعة لنتابع مشتركةً محجّبةً في أحد برامج استكشاف المواهب الغنائية. أسرتنا هذه التي كانت تبدو "مثلنا" على غير العادة: بحجابها، بملابسها التي تستر كل إنشٍ فيه، بطول تنورتها.
اتفقنا جميعا على أنها مذهلةٌ ومثيرةٌ للدهشة.
ولم نفق إلا على صوت صديقتنا وهي تضيف: "ولكن ليتها احترمت الحجاب، فأن تخلعه كالأخريات أهون عندي من أن تعتلي به المسارح!".


بصراحةٍ، لم تأتِ صديقتي شيئاً إداً. فمنذ السنوات الأولى للإسلام، نجد بأن الحجاب كان أداةً لتمييز امرأةٍ عن أخرى، وتحديداً الحرة عن الجارية. فها هو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يضرب أمةً محجبةً بدرته الشهيرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها، ويقول: "فيم الإماء يتشبهن بالحرائر؟". بل وروى ابن حفص بأن "عمر كان لا يدع أمةً تقنع في خلافته".
لقد مثّل الحجاب آنذاك تمييزاً إيجابياً لصالح الحرة التي ترتديه، إذ يدل على مكانتها الاجتماعية فيعصمها من الأذى الذي يطاول الإماء والجواري على أيدي الراغبين في امتلاكهن، أو حتى المنافقين في مجتمع المدينة.
وظل التمييز. ولكنه لم يعد إيجابياً سوى في المخيلات.
فسنتغاضى عن كونهم يسقطون علينا بشكلٍ مضحكٍ صورة المجتمع العربي في القرن السابع الميلادي. وسنسلم جدلاً بأن للمحجبة - كالحرة من قبلها - مكانتها التي تسمو بها عن الأخريات، أي غير المحجبات. وأعتذر لهن مسبقاً على اعتبارهن الإماء في هذا السيناريو المؤسف.
فلأنهم قرروا أن المحجبة "ليست كغيرها من النساء"، فهم بالضرورة أيضاً لا يطيقون رؤيتها تمارس الحياة مثلهم!
ستكفهّر وجوههم لمنظر محجبةٍ تغني، تمثّل، ترقص، تسهر، تدخّن، تجري، تقود الدراجة الهوائية. حتى حينما لا ترتكب المحرمات والموبقات الشرعية، سيتبرمون من كل ما "لا يليق بها" فعله، ومن "الشبهات" المزعومة التي عليها تفاديها.
بل من تجاربنا كنساءٍ خليجياتٍ، فالمُلاحظ ازدياد انتقادات أفراد المجتمع لنا حينما نجرؤ - مثلاً - على ارتياد الأماكن المختلطة بالحجاب والعباءة السوداء مقارنةً ببرود ردود أفعالهم عند سفورنا، وكأنما هبط المعيار الذي يحاكموننا به.
فبالنسبة إليهم، تختفي الإنسانة الحقيقية الماثلة تحت قطعة القماش. تُمحى شخصيتها وتفردها، ويصيّرها الحجاب -بحسب فهمهم الضيق له- "طوطماً" بشرياً رغماً عن إرادتها، ومثالاً أعلى لما يفترض -في رأيهم- بالمرأة المسلمة أن تكون عليه.
وكأنما يُستبدل العهد بين المُحجبة وربها -وفقاً لقناعتها بفرضية الحجاب- بعهدٍ بينها وبين المجتمع على أن تصير رمزاً حياً ناطقاً، لا يُستساغ منه حتى الاختلاف، ناهيك عن الزلة.
بل حتى من فُرض عليها الحجاب فرضاً ستجد نفسها تُحاسب بتشددٍ مضاعفٍ، فمن تضع هذه الخوذة القماشية على رأسها كالبطل الخارق في الأفلام الهوليوودية لا بد أن تستحيل بدورها إلى مسلمةٍ خارقةٍ، طبعاً.
فمن المضحك المبكي إذاً أن التمييز الإيجابي الذي يعتقد هؤلاء بأنهم يختصون به المحجبة قد صيّرها أمةً مملوكةً للمزيد من القيود.

JoomShaper