جوائز سنوية لـ«الأم المثالية»، وحالة عامة مشتركة بين الأمهات الشابات من الشعور بالذنب وجلد الذات والضياع في آن، مع صوت داخلي يكرر بلا توقف «لست جيدة كفاية، لست أمًّا مثالية»، لكن من قال إنك حين تكونين مثالية قد تقدمين خدمة لأطفالك؟ السؤال الأهم في رحلة الأمومة، هل يجب أن تكون المثالية هدفًا من الأساس؟
أجيال المثالية المفرطة
«في جميع أنحاء العالم، تعمل الأمهات فوق طاقتهن، ويتقاضين أجورًا زهيدة، وغالبًا ما يشعرن بالوحدة والذنب حيال كل شيء، بدءًا من التخدير أثناء الولادة إلى الرضاعة الصناعية بدلًا من الطبيعية» *إليان جلاسر – صحافية بجريدة الجارديان
لن تصدق بعض الأمهات أن سعيهن المتواصل نحو المثالية خاضع للأجيال التي ينتمين إليها في المقام الأول، نتحدث هنا عن أجيال الأمهات في فترة ما بعد الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الآن، هذا ما أثبتته دراسة نشرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس، تشير إلى أن السعي إلى الكمال بين الشباب قد ازداد بشكل ملحوظ منذ الثمانينيات، وأن الرغبة المفرطة في النجاح والتميز مقارنة بالآخرين صارت تؤثر بشكل سلبي في الصحة النفسية للشباب، ومن بينهم الأمهات بطبيعة الحال.
فهناك دائمًا سعي متواصل للكمال الذي وصفه مؤلفا الدراسة بأنه «رغبة غير عقلانية في الإنجاز جنبًا إلى جنب مع النقد المفرط للذات والآخرين»، وذلك نتيجة ضغوط عديدة أشارت البيانات الأولية إلى أنها تتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي، ما جعل هناك دافعًا مستمرًّا لكسب المال والحصول على تعليم جيد بصفته هدفًا لا نهائيًّا ينهك العقول باستمرار.
ليس ثمة أم تشعر بالرضا عن أدائها مع أطفالها، دائمًا هناك أفضل يمكن تقديمه برأيهن، في الدراسة هناك مدرسة أفضل، وهناك أيضًا لحظات أفضل تظن أن بإمكانها تقديمها للطفل لكنها لا تفعل، حتى بكاء الطفل عقب نهاية جولته في الملاهي يشعِر أمه بذنب لا نهائي في أنها ربما أخفقت في أمر ما جعله يعود إلى البيت باكيًا، بدلًا من أن يكون سعيدًا.
عن هذا كله تقول الكاتبة والشاعرة المصرية إيمان مرسال، في كتابها «كيف تلتئم – عن الأمومة وأشباحها»: «إن الشعور بالذنب يبدو وكأنه الشعور الذي يوحِّد الأمهات على اختلافهن»، تتفق إليان جلاسر معها في مقالها المنشور بـ«الجارديان»، والذي تروي فيه تجربتها حول سعيها المحموم نحو المثالية، مقابل شعورها العارم بانعدام السيطرة على أمور أطفالها داخل المنزل، حيث تصرخ حتى بح صوتها، دون فرصة للشكوى؛ إذ تواجه مثل كل لأمهات الجملة الشهيرة «لست أول شخص ينجب طفلًا».
ترى جلاسر أن مهمة الأمهات صارت أكثر صعوبة وسط عالم تنافسي خاضع للتدقيق في كافة التفاصيل، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، التي صارت تفرض على الأمهات مهمة تحسين كل جانب من جوانب حياة الأطفال؛ لتصير نسخة من تلك الصور المثالية التي تراها الأمهات باستمرار عقب تعديلها بالفلاتر والبرامج العديدة عبر منصة «إنستجرام».
في الواقع دحضت جلاسر الفكرة الكلاسيكية التي أشارت إلى أن كل شيء يتعلق بالأمومة كان على ما يرام حتى دخلت الأمهات إلى مجال العمل، مشيرة إلى أنه قبل 50 عامًا كان يجري اصطحاب الأطفال إلى العمل أو وضعهم في سلة معلقة في المصانع، أو حتى يجري إطلاقهم قبالة المنزل في حال ربات البيوت؛ إذ لم تكن العناية بالأطفال كما هي عليه الآن، في الواقع لم يكن لدى الأمهات هذا القدر من الرعاية المنمقة والبحث المحموم عن المثالية والكمال في تربيتهن لأطفالهن!
احذري.. المثالية قد تقتلك وتقود طفلك للانتحار!
«الأمهات يمتن مبكرًا.. حتى إن امتد بهن العمر إلى الثمانين!» *رضوى عاشور – قطعة من أوروبا
يقول بول هيويت، عالم النفس الإكلينيكي، في جامعة كولومبيا البريطانية، في كتاب «الكمال: النهج والعلاج» إن المثالية أسلوب شخصي قائم على النقد المفرط للذات، يعود لشعور المرء بأنه معيوب بشكل أو بآخر، فيجري تعويض ذلك عبر وضع مجموعة من المعايير العالية جدًّا من الشخص لنفسه، ثم يسعى للتميز فيها.
المشكلة تكمن، بحسب هيويت، في أن السعي للكمال يكلف صاحبه خسائر فادحة تلحق بصحته العقلية وبعلاقاته، بل بنوعية حياته أيضًا؛ مما يتطلب تدخلًا طبيًّا قد يشمل علاجًا فرديًّا وأيضًا نموذجًا للعلاج الجماعي، وذلك الأخير يفضله هيويت وزملاؤه مؤلفو الكتاب. ويرى أيضًا أن السعي نحو المثالية لم يعد مجرد مشكلة محدودة، بل أزمة ينقلها الآباء إلى الأبناء وتستكمل مواقع التواصل الاجتماعي المسيرة مع الأمهات والأبناء على حد سواء.
بالحديث عن الآثار الصحية، وجدت دراسة أن الشعور الدائم بالتقصير والبحث المتواصل عن الكمال مرتبط بالاكتئاب والقلق، واضطرابات الطعام، وإيذاء النفس المتعمد، والوسواس القهري، كذلك يؤدي الضغط المستمر المرتبط بالسعي إلى الكمال والمثالية إلى الإصابة بالإرهاق والتوتر والمعاناة من الصداع والأرق.
يعد الفايبرومالجيا (الألم العضلي الليفي) وأمراض القلب أحد أكثر المشكلات الصحية ارتباطًا بالمثالية الشديدة والرغبة المتواصلة في الكمال، وهذا بحسب ما أثبتته دراسة فحصت العلاقة بين أبعاد الكمال لدى السيدات، سواء كان كمالًا ذاتيًّا أو موجهًا نحو الآخرين أو كمالًا اجتماعيًّا، من خلال دراسة 489 امرأة مصابة بالفيبرومالجيا، خلصت في النهاية إلى تأكيد الارتباط بين السعي المطرد نحو الكمال بأنواعه وبين تدني الأداء الصحي.
يقول البروفيسور جوردون فليت، أستاذ علم النفس بجامعة يورك بكندا وأحد مؤلفي الورقة البحثية، إن المثالية الشديدة والشعور المتواصل بالتقصير يرتبط بشدة مع مشكلات صحية وعاطفية مزمنة مثل الفيبروماليجا وكذلك مشاكل القلب، فواحد من كل أربعة مصابين بهذه الأمراض يتوقعون باستمرار أنهم مثاليون، مؤكدًا «إنه أمر صعب حقًّا حين ترتفع التوقعات إلى ما هو أبعد باستمرار، مع إحساس متصاعد بالضغط».
ربما يخيل للبعض أن المشكلة قد تحل مع الوقت، خاصة مع نضوج الأطفال وتراجع حالة التطلب المرتبطة بالطفولة، لكنه وبحسب دراسة مُحكَّمة بعنوان «الكمال ونموذج العوامل الخمس» حول الكمالية والمثالية؛ وجد مجموعة من الباحثين أن الأمر يزداد سوءًا مع الوقت، فيقول مارتن سميث الباحث في جامعة يورك سان جون بالمملكة المتحدة إن التقدم في العمر يرتبط لدى الشخصيات المثالية بمجموعة من المشاعر مثل الغضب والقلق والتهيج، والأغرب من ذلك انعدام الضمير، تلك الأخيرة فسرها سميث قائلًا: «يحدث أنه بمرور الوقت يقصر أصحاب المثالية بشكل متكرر في معاييرهم المستحيلة، معتبرين ذلك إخفاقًا لأنهم نادرًا ما يحققون الكمال الذي يسعون إليه».
يبدو الأمر مرعبًا حقًّا حين ننظر إلى العواقب التالية، الرغبة العارمة في المثالية لدى الأمهات لا ترفع لديهن سقف طموحاتهن من أنفسهن وحسب، ولكنها تجعل أطفالهن بدورهم في حالة من الركض المتواصل للحاق بالصورة المثالية في عقل الأم عن الحياة التي يجب أن يكونوا عليها، والتفوق الذي يجب أن يقدموه على كافة الأصعدة، علمية ورياضية واجتماعية، ما يشكل عبئًا حقيقيًّا ويرتب نتائج مفزعة تكشف عنها الدراسة التي ربطت بين الضغوط التي يمارسها الآباء مع التطلعات العالية وبين انتحار أبنائهم!
إذن كيف نكسر «لعنة» المثالية؟
«إن الأمهات بائسات. لماذا يتسببن في الكآبة لأطفالهن؟ لماذا يشعرن بأنهن يعرفن كل شيء حيال أطفالهن؟ هن لا يعرفن شيئًا» *آجاثا كريستي – ليلة بلا نهاية
ربما يكون التوقف عن المثالية صعبًا، لكن نظرة سريعة إلى الأزمات المترتبة على الأمر تكفي لإعادة النظر بالكامل، ففي دراسة أجرتها مادلين فيراري بالجامعة الأسترالية الكاثوليكية في سيدني وآخرون، وجدت أن التعاطف مع الذات يمكن أن يساعد في الحماية من الاكتئاب لدى الأشخاص ذوي الميول المثالية، فتقول الباحثة: «ممارسة اللطف مع الذات يقلل باستمرار من قوة العلاقة بين المثالية والاكتئاب».
أما إن لم يكن التعاطف مع الذات ممكنًا، أو إذا واجهت صعوبة في أن تكون رفيقًا بنفسك، فتقترح دراسة أخرى أن تبدأ في تعلم التعاطف مع الذات؛ إذ إنه أمر يمكن اكتسابه إن كان تطبيقه ذاتيًّا صعبًا، وذلك عبر عدد من الممارسات العلاجية التي ثبت أنها تعزز اللطف الذاتي إن تمت المهمة بنجاح.
وتعد ممارسة اليوجا أيضًا واحدة من أساليب مواجهة المثالية المفرطة، بحسب ورقة بحثية أجرتها بروفيسورة في علم النفس، بكلية فيلادلفيا للطب التقويمي، عام 2014 حول دور اليوجا في تقليل حدة النقد الذاتي والمثالية المفرطة؛ كذلك تستطيع اليوجا إخماد الصوت الداخلي الناقد باستمرار، وفي حال فشلت تلك التقنيات جميعًا فلا بأس من اللجوء إلى العلاج النفسي بوصفه وسيلة لمجابهة المثالية غير محمودة العواقب على النفس والأبناء، لكن لا تتركي نفسك أسيرة لهذه «اللعنة».