السبيل
يعتقد الكثيرون أن أفلام ديزني الكلاسيكية جسدت قصص الأميرات العالمية بطريقة ساحرة خلابة تظهر فيها شخصية الأميرة بشكلها الرقيق الطيب الحالم، ومن ذلك أن باكورة أفلام ديزني للأميرات (بياض الثلج) محفوظ في السجل الوطني للأفلام بعد أن اعتبرته مكتبة الكونجرس الأمريكية عملًا هامًّا يستحق الاحتفاظ به، إلا أنّ التيار النسوي لم ينظر يومًا لهذه الأفلام بنفس الطريقة التي ينظر إليها هؤلاء؛ فقد كان -وما زال- يمقتها ويعمل حثيثًا على تغييرها لتتماشى مع أجندته.


بدأت معضلة أميرات ديزني مع النسويات عندما خرجت تلك الأفلام الموجهة للأطفال لتمثّل الصفات المثالية للفتاة حتى تصبح أميرة حقيقية يتنافس عليها الأمراء للزواج بها، لكنها جسّدت صورة نمطية مرفوضة لدى النسويات عن دور المرأة في المجتمع في ذلك الوقت، ففي حين ترى أنت الأميرة فتاة رقيقة مرهفة الحس والأنوثة، فإنهم يرون فتاة كل آمالها في الحياة أن تعتمد على شاب أمير ووسيم، وبين أن ترى فتاة طيبة لا تؤذي مخلوقًا، فإنهم يرون فتاة بلا مهارات أو قدرات ومحل تقديرها فحسب جمالها الذي يتحدث عنه الجميع، وبين أن تكون فتاة تستحق تضحية فارسها الشجاع من أجلها، في حين أنهم يرونها ضعيفة مستسلمة لقدرها بأنها امرأة وتنتظر من ينقذها، لذلك ليس غريبًا أن تحارب النسويات من أجل قلب صورة الأميرة في قلوب الكثيرات لتعكس الكيفية التي يرين المرأة من خلالها -كما سأبين لاحقًا-.
أفلام أميرات ديزني بين الطبيعي والنسويّ!
في دراسة كمية أجرتها المتخصصتان في اللغويات (كارين آيزنهاور) و(كارين فاوت) عام 2016 على أفلام ديزني للأميرات، وجدتا أنه يمكن تقسيم الحقبة التي أنتجت فيها بحسب التغير الطارئ على شخصية الأميرات ودورهن في القصص. قيل إن الدراسة كانت بهدف بحث تأثير الأميرات في طريقة كلام الأطفال كل بحسب جنسه –جندر-؛ إلا أن البحث كشف عن إحصائية مثيرة للسخرية فيما يخص دور المرأة ومقارنته بدور الرجل في قصة تدور بالأصل عن المرأة.
أطلقت الدراسة على البداية مسمى الحقبة الكلاسيكية بين عامي (1937 -1959) والتي أخرجت (بياض الثلج) و(سندريلا) و(الجميلة النائمة). وجدت الدراسة أن نصيب النساء من الحوار في هذه الأفلام مساوٍ أو أكثر من نصيب الرجال لكنها أشارت إلى الدور المحدود للمرأة بالتأثير في مجريات الأحداث، إلى جانب تركيز الفيلم أكثر على صنائع الرجال في القوة والشجاعة والتصدي للأشرار والعبث المضحك. وأكثر من ذلك، فإن نسبة توجيه الرجل للمرأة في القصص (سواء كان أمرًا أو طلبًا أو نصحًا) مرتفعة جدًّا مقارنة بنسبة توجيه المرأة للرجل. وهو أمر استهجنته الدراسة في قصة تدور عن فتاة لكن يتصدر الأحداث الشيقة والمضحكة الرجل ويتحكم بمجرياتها.
بياض الثلج
ثم جاءت حقبة النهضة (1980-1999) عبر دور الأميرات في أفلام (الحورية الصغيرة)، (الجميلة والوحش)، (علاء الدين)، (بوكاهانتوس) و(مولان)، حيث ظهرت صفات جديدة للأميرات مثل التفكير باستقلالية والتمرّد على التوجيهات بتصرفات معاكسة وهو ما نال مباركة النقاد في حينها. لكن الدراسة أظهرت تراجع النصيب الكلامي للنساء في الحوار بدرجة كبيرة لحساب الرجال، كما ظلّت المرأة تبحث عمن يتزوّجها دون أن توجّه أحدًا أو تقود أحدًا أو حتى تخترع شيئًا.
وتشير (آيزنهاور) أن جزء من المشكلة في ذلك هو الشخصيات العاملة في هذه الأفلام غالبًا من الذكور، وأدى ذلك إلى أن تظهر أمثلة أنثوية قليلة عن طاقة النساء وقدرتهن ونفعهن في المجتمع. وفي حين توضح الدراسة نسبة تفوق 55% في إطراء النساء على مظهرهن في الأفلام الكلاسيكية وبالكاد تتجاوز نسبة 11% لقدراتهن، تراجعت نسبة إطراء مظهر النساء إلى 38% في أفلام النهضة مقابل زيادة إلى 25% لقدراتهن. وهو ما عدته الدراسة مؤشرًا جيدًا على تحسن شخصية الأميرات عن الصور السابقة.
مولان
أما الحقبة الأخيرة فهي الحقبة التي حُطِّمت فيها الصورة النمطية للأميرة للأبد، حقبة العصر الجديد والتي ابتدأت في 2009 بـ(الأميرة والضفدع)، مرورا ب(متشابكة) و(شجاعة) وأخيرًا (متجمّدة)، حيث إن هذه الأفلام قلبت الموازين في النص، وأظهرت نسبةً عاليةً لإطراء المرأة على قدراتها ومهاراتها وإنجازاتها بنسبة 40% وتراجع الإطراء على الشكل بنسبة 22%. الفضل في ذلك يعود إلى أن فكرة قصص الأفلام في كتابتها وإخراجها جميعها جرى تحت إشراف طاقم نسائي بالمجمل كما نشرت صحيفة واشنطن بوست في مقال تكلم عن نتائج أبحاث (آيزنهاور وفاوت) وقد أضاف إلى ذلك ما صرحت به الكاتبة (بريندا تشابمان) مسبقًا بأن شخصية الأميرة (ميريدا) في فيلم (شجاعة) قد صممت خصيصًا لتحطيم الصورة النمطية عن أميرات ديزني. (ميريدا) التي خالفت الأعراف بتصرفاتها الصبيانية ورفضت أن ينحصر دورها في الزواج والإنجاب والتربية كأمها، ونزلت ميادين الرجال لتنافسهم في الشجاعة وقوة الرمي وغيرها مما يفعله ضخام الأبدان، قد أعطت نموذجا آخر للصغار عن شخصية الأميرة الجامحة والمستقلة بقدراتها عن الرجل. ثم أتت أميرة الثلوج (إلسا) لتتوج ذلك بقيادتها وتوجيهاتها الحكيمة لقومها.
الأميرات والأمراء، هيّا لنسخّف القضيّة!
بعد أن تحقق الإنجاز المشار إليه، لم يكن هناك مانع من احتفال بسيط للنسويات عبر جمع كل النسخ السابقة من الأميرات والاستهزاء بقصصهن في أحد المشاهد من فيلم ديزني (رالف يكسر الإنترنت). فقد أشار كاتبا الفيلم (فيل جونستون وباميلا ريبون) عن فكرة هذا المشهد وتحدثا بأنهما أرادا تفكيك شخصيات الأميرات وابتكار مشهد نسوي تقدمي في إطار مضحك.
يبدأ المشهد بظهور الشخصية الرئيسية في الفيلم (بينولبي) والتي تطلق على نفسها أميرة لكنها لا تشبه الأميرات في شيء، تظهر في غرفة تجمع الأميرات الاثنتي عشر بفساتينهن الشهيرة، وهنا تتأهب جميع الأميرات في وقفة قتالية مع تعابير الوجه الغاضبة مستخدمات أسلحة رمزية من قصصهن، أما الأميرة (كاثرين – من فيلم الجميلة والوحش) فتحمل كتابها التي علّمت عنه أميرها لتضرب به، والأميرة (ياسمين – من فيلم علاء الدين) تحمل مصباحها دون الاستعانة بالجنّي الذي ساعد أميرها للوصول إليها، أما (سندريلا) فتمسكك بحذائها الزجاجي الذي كان يوما ما أملها الوحيد في تعرف الأمير عليها وتكسره بشكل حاد ليتحول إلى سلاح قاطع، وهنا تحاول (بينولبي) إقناع الأميرات أنها أميرة مثلهن، لينهال وابل من الأسئلة السخيفة تطرح فيه كل أميرة مقارنة عن واقعها السابق لتقابله (بينولبي) باستغراب شديد. لكن الجميع يتفق على أنها أميرة عندما يُطرَح عليها سؤال المليون كما يقال (هل يفترض الناس أن جميع مشاكلك ستحل لمجرد ظهور رجل ضخم قوي في حياتك؟) وتجيب (بينولبي) باستنكار: (نعم ما بال هؤلاء!).
ويستمر تسخيف تصرفات الأميرات السابقة خلال المشهد من تأملات الطبيعة والشدو بالغناء لبث همومهن. وبعد أن تستبدل الأميرات ملابسهن التقليدية لتشابهن (بينولبي) بملابسها العصرية، تقوم الأميرة (أورورا – الجميلة النائمة) بالارتماء على فراش حديث واصفة هذا الرقاد المريح بأنه الحب الحقيقي وكأنها تستغني عن حب من حارب الشريرة لأجلها وأيقظها من غيبوبتها.
أما الأميرة (بياض الثلج) فتلبس قميصا مطبوع عليه التفاحة المسمومة على هيئة جمجمة، وكأنها أصبحت قادرة على التلاعب بهذا الخطر الذي هدد حياتها يوما وأحوجها لإنقاذ أميرها. أي أن جميع الأميرات لم يعد يحتجن حب الرجال وتضحياتهم فهن قادرات على التكفل بأمرهن دون عون، بل أثبتن أنهن من ينقذن الرجال كما يأتي في مشهد لاحق من الفيلم نفسه، يتجلى فيه ازدراء دور الرجل المتهم بتحجيم دور المرأة سابقا. فها هو (رالف) الرجل الضخم يسقط من برج شاهق لتصيح إحدى الأميرات (رجل ضخم قوي يحتاج للإنقاذ!) فتظهر كل أميرة مهارتها في الإغاثة لينتهي (رالف) لابسًا فستان (بياض الثلج) وغائبا عن الوعي في سرير. وكأن النسويات يقلن (نم أنت أيها الرجل فلا حاجة لك بعد اليوم).
ديزني وطغيان التمركزُ الأنثوي
قد تظن أن الأمر توقف هنا، لكن يؤسفني إخبارك أن الأمر ليس كذلك! فما زالت عملية تصيّد شخصيات النساء في الأعمال الناجحة السابقة لأفلام ديزني وإظهار أدوارهن في أجزاء لاحقة بطريقة فوقية على الرجال تهمش دورهم. هن أصحاب القرار، هن محركات الأحداث، وهن من يصنعن الحلول عندما يعجز الرجال.
لنقف على سبيل المثال عند شخصية راعية الأغنام (بو-بيب) الهادئة اللطيفة في فيلم (حكاية لعبة 1995)، حيث تظهر في الأجزاء الأولى متعلقة بالشرطي (الشريف وودي)، تخشى عليه دائمًا وتعتبره حلال المشاكل، وتشجعه دائمًا وتدفعه للخير، لكنها لم تبق كذلك في الجزء الرابع من الفيلم عام 2020، حيث تنزع تنورتها وصدّارها الريفي وتظهر بالملابس الأساسية تحتها، واضعة رباطا طبيا على ذراعها وقد حولت عصاها من رعي الغنم لسلاح تحارب به.
يلتقي (وودي) بـ (بو-بيب) فيندهش من جرأتها ومهارتها، وبعد أن يعجز (وودي) في اقتحام محل خردوات لينقذ صديقه، تقوم (بو-بيب) بتنفيذ مجازفة خطيرة لإدخاله ومساعدته في حل مشكلته.
ولنقف عند مثال شخصية المرأة المطاطية في فيلم (الخارقون 2004)، حيث كانت في الجزء الأول الزوجة التي تعتني بالمنزل والأولاد وتحاول حل مشاكلهم، وتضطر حينها لخوض القتال بعد أن تجرّها غيرتها على زوجها، وتحاول طوال الوقت حماية عائلتها بينما زوجها يقارع الشرير، أما في الجزء الثاني عام 2018 فإن الصورة تنقلب إلى الضد، فتصبح هي البطلة التي تحارب الجريمة وزوجها يجالس الأطفال في المنزل ليساعدهم في واجباتهم ويتدبر أمور حياتهم المعيشية.
وبينما تتفانى المطاطية في تتبع الأشرار بحرفة وذكاء وتحل ألغازهم دون عناء، يزول غرور زوجها السيد الخارق سريعا في المنزل ليظهر مُجْهَدًا مُتعَبًا بعد ليلتين فقط، فيطلب المساعدة من العمة (إدنا) في رعاية الطفل (جاك) كي تخفف عنه عبء مسؤوليات المنزل.
وثمة مثال أخير في شخصيات ديزني النسوية، ففي فيلم عائلة (كرودز 2013) حيث الحبكة الأساسية تكمن في تعارض قوة الأب (جورج) وخياره في الاختباء في كهف بحنكة الشاب (جاي) وتطلّعه لمكان أفضل للعيش، ولم يكن هناك دور للنساء في القرار سوى الاتباع والاعتماد على قوة المجموعة للبقاء، إلا أن في الجزء الثاني عام 2020، تفشل قوة (جورج) وتنتهي حنكة (جاي) ويُختطَفُ الرجال جميعًا ويعجزون حتى عن الفرار، لتأتي عصبة نسائهن (أخوات الرعد) كما أطلقن على أنفسهن، ليقمن حرفيًّا بكل شيء من تتبع أثر الرهائن وهزيمة جيش القردة، ودحر البابون العملاق وتحرير الرجال قبل أن يصبحوا طعام موز، ويختتم الفيلم بمشهد الرجال وهم يخبزون للنساء.
ثم ماذا؟ مخاطرُ وآثار!
ربما كان هناك حاجة فعلًا للتغيير وإظهار الدور الفعال للمرأة في المجتمع، لكن لماذا حصل ذلك على حساب الصفات الحميدة الموافقة لفطرة المرأة؟ ولماذا يجب أن يكون دورها الفعال منافِسًا للرجل ومستقلًّا عنه؟ أليس جزًءا من المشكلة هو شذوذ بعض النسويات ودفعهن في هذا الاتجاه المنفصل؟ إلى أين سينتهي المطاف في هذه التغيرات التي يشاهدها الأطفال ويعالجون تصرفات الشخصيات ويستنتجون منها الفروقات بين الجنسين؟
هناك عدة دراسات تبين أن ديزني في طريقها للوصول إلى نسخة أكثر وضوحًا من الأميرة (الأندروجية– المخنثة التي تجمع بين العضلات والأنوثة)، وهي نتيجة بديهية إذا ما أخدنا في الاعتبار التطورات المستمرة على دور المرأة، فقد انحرفت لمجاراتها الرجل في كل شيء بدعوى نيل حقوق المرأة، وفي ذات الوقت صادقت على اعتراف ضمني بحقوق الجندر في تقرير مصيره الجنسي.
كما تبحث تلك الدراسات ما يطلق عليه ترميز الشذوذ في بعض شخصيات أفلام ديزني الشريرة بحيث لا يكون جنس الشخصية واضحًا أو طبعه غير متفق مع جنسه. وبالرغم من جميع هذه الدراسات فإنه ليس هناك عدد وافٍ من الدراسات التي تبحث تأثير شخصيات هذه الأفلام في هوية الطفل الجنسية. لكن من الواضح أنه لن يصعب على الولد في المستقبل القريب بعد مشاهدة فيلم ديزني أن يقول: “أريد أن أصبح قويًّا كتلك الفتاة”، أو تقول بنت: “أريد أن أصبح فاتنة مثل ذاك الشاب”.
وقد لا يبدو في ذلك مشكلة إطلاقًا لدى الغرب الداعم لحقوق الشواذ، بل هو في رأيه الحق المطلوب اليوم للأطفال في تحديد هويتهم الجنسية عند المتحررين من الدين، لكن ماذا عن أطفال أمة الإسلام التي غمرتهم منتجات ديزني في بلادنا بشخصياتها الخيالية على الملابس والألعاب والأدوات المدرسية؟
نحتاج لوقفة مطولة مع الجهود اللازمة لتوعية أطفالنا عن أفلام قيّمت بأنها صالحة لمشاهدة جميع العائلة، وربما توعية الكبار قبل الصغار.

JoomShaper