نبيل شبيب

ليس أعوان إبليس من الجنّ وحدهم من يوسوسون لفتاة مسلمة أو امرأة مسلمة بنزع حجابها، بل يبدو من انتشار الحجاب أن هؤلاء لم يعد لهم تأثير كبير، وبات أعداء انتشار الحجاب وخصومه عاجزين عن تحقيق أغراضهم إلاّ باستخدام وسائل القمع، بمختلف أشكالها، بما في ذلك استصدار القوانين والأنظمة المتناقضة مع ما يزعمونه لأنفسهم تحت عنوان "تحرير المرأة"، وفي ذلك دليل إضافي على انعدام "الأثر الكبير" أيضا من وراء جهود من يتولّى مهمة الوسوسة من الإنس، فنسبة ما يحقّقونه من أغراضهم المنحرفة لا تكاد تُذكر بالمقارنة مع ما نعايشه من إقبال على أداء فريضة من الفرائض الربانية، تتحقق بها مصلحة المرأة أولا، ومصلحة الأسرة ثانيا، ومصلحة المجتمع ثالثا. وتقوم مهمة الوسوسة "الإنسية" هذه على ألوان من الخداع، ربما خداع النفس وفي جميع الأحوال مخادعة المرأة في الدرجة الأولى، ومن ذلك ما تتناوله السطور التالية بإيجاز شديد، يركّز على صنوف التضليل التي لا تستهدف فريضة الحجاب فقط، بل تتجاوزها إلى ما يمسّ العقيدة والتصوّر، ويمكن أن يؤثّر على التزامات المسلمة أو المسلم في ميادين أخرى، أي من خلال تجاوز حكم الفريضة التي تسري على الحجاب إلى ما يمسّ أركان الإسلام والإيمان، ومن خلال تجاوز حكم "التحريم" الساري على الحجاب، إلى ما هو من الكبائر وأكبر الكبائر.. وهذا ما يدفع إلى الحديث في الفقرات التالية عن تلك "المداخل" التي يسلكها من يمارسون "الوسوسة الإنسية" في المجتمعات الإسلامية.

مداخل الوسوسة الإنسية

يصعب استخدام تعبير آخر غير "الوسوسة" في وصف ما لا يقتصر على مسألة "الحجاب والمرأة"، وإن تركّز على ذلك، ممّا يصنعه فريق من الإنس، من المسلمين وغير المسلمين، ولادة أو هوية أو عقيدة وفق ما يرون، فليس هذا موضع الحديث، إنّما القصد منه هو ما يقولون ويكتبون.
ولا يمكن حصر جميع مداخل تلك الوسوسة، لا سيما وأنّها متقلّبة بين زمن وآخر، وظروف وأخرى، ومكان ومكان، وإن لم تكن شديدة التقلّب بين فرد منهم وآخر، إذ تلتقي وسوستهم على قواسم مشتركة، وإن تفاوتوا في إبراز بعضها على حسب ما يرونه "أنسب" لتحقيق أغراضهم.. وهذا أحد الأسباب الجوهرية التي تنزع عن مقولاتهم صبغة "نتيجة البحث المنهجي"، إذ لا ينطلقون أصلا من موقف علمي حيادي في البحث ليصلوا إلى "نتيجة" غير موضوعة سلفا، بل يضعون النتيجة مسبقا، اي يضعون "أحكاما مسبقة"، ثمّ يبحثون عما يمكن أن يبرهن عليها، فإن وجدوا ما يبرهن على نقيضها تجاهلوه، وإن كان التجاهل عسيرا أو فاضحا، دخلوا بها في مداخل الوسوسة الإنسية المعنية، إنكارا أو تأويلا أو تمييما.
في مقدمة تلك المداخل.. أو القواسم المشتركة:
1- العبث اللغوي.. تارة حول كلمات اصطلاحية وشبه اصطلاحية، مثل الحجاب والخمار والنقاب وما شابه ذلك.. وتارة أخرى حول مفاهيم شرعية مثل الاجتهاد واجتهاد الأقدمين والإصلاح والمصلحين والتجديد والمجدّدين وما شابه ذلك، ناهيك عن عبث لا ينقطع عبر كلمات الإسلام، والإسلام السياسي، والأصولية، والظلامية، وغير ذلك ممّا ابتُكر ولا يزال يبتكر، وتلوّن وما يزال يتلوّن، واستُهلك وما يزال يستهلك، وتراكمت من خلاله تناقضات لا نهاية لها، ولا تزال تتراكم.
2- العبث التأريخي.. وهو مدخل لإنكار المصدر الربّاني للوحي، فمن يزعم أن ما نزل من القرآن الكريم قبل بضعة عشر قرنا، أو بعضه دون بعضه الآخر، لا يمكن فهمه -اليوم- إلا من خلال حصره في مدلوله وقت نزوله فقط (ولمن نزل عليهم فحسب) إنما يزعم ذلك من أجل إنكار سريان مفعول كلمة الله الخالق البارئ المصوّر علاّم الغيوب، سريان مطلقا، من الأزل إلى الأبد، أي سريان مفعول الأحكام التشريعية الثابتة القطعية ورودا ودلالة، من لحظة نزولها إلى يوم القيامة. نعلم ويعلمون أنّه لا يستطيع إنسان من قبل عهد فلاسفتهم الإغريقيين إلى ما بعد رحيلهم هم عن الدنيا وما فيها، أن يشرّع تشريعا "أبديا"، فكلامه البشري مرتبط فعلا بعناصر الزمان والمكان والحال، أمّا كلام الله تعالى، فعندما يربطونه هم، أو يحاولون ربطه عبثا، بعناصر "الزمان والمكان والحال"، فهم لا يقصدون بذلك فهما ولا إصلاحا ولا تجديدا، بل يقصدون التعامل البشري مع كلام الله جلّ وعل، وفق وسوسة الإنس، مثل التعامل البشري مع كلام الإنس، وهذا بالذات ما يعني إنكارَ الوحي، فإن استخدموا كلمة الوحي رغم ذلك، فإنّما يستخدمونها بغير مدلولها القطعي الثابت.. وحي ربّاني ساري المفعول على الدوام، فيعطونها مدلولا مزوّرا لا علاقة له بالإسلام وأحكامه، بما في ذلك ما يتعلّق بالرجل والمرأة، وبالحجاب وغير الحجاب.
3- العبث الفلسفي.. هو قريب من العبث التأريخي أو جزء منه، فالانطلاق من الوحي الربّاني، كما صنع ابن رشد رحمه الله مثلا، جعله يقول عن الفلسفة المشروعة، إنّها "الحكمة، والحكمة هي الإصابة في غير النبوة"، فيثبّت مصدر الوحي أوّلا، ويثبّت الحكمة -بضوابطها كما وردت في القرآن الكريم- مصدرا تاليا، وهؤلاء القوم من الإنس المعاصرين، ينطلقون من فلسفة الفلاسفة، من الإغريق قبل ألوف السنين (وليس بضعة عشر قرنا فقط) ومن غيرهم من بعدهم أو قبلهم، ليعطوا ما قالوا به أولئك وتبنّوه تقليدا، غالبا ما كان مشوّها.. ليعطوه الأولويةَ تجاه "الوحي"، ومن ذلك مثلا حديثهم عن "لوجوس" ومطالبتهم تطبيق فلسفته على فهم الإسلام، وهم يعلمون أنّه المصطلح الذي لعب دورا جوهريا في انتشار عقيدة التثليث مثلا، أو حديثهم مثلا آخر عن "فلسفة اللغة" غير عابئين بتناقضهم هم أنفسهم مع بعضهم بعضا ما بين فلسفتها التركيبية وفلسفتها التفكيكية، أو حديثهم مثلا ثالثا عن مقولات التنويريين والحديثيين، وإن ابتعدت بُعد الثرى عن الثريا عن بعضها بعضا، كالواقعية عن المثالية، والجدلية الحتمية عن الجدلية المثالية، والإلحاد المطلق عن "الدين" بمفهوم فلسفي يجعل الأديان السماوية وغير السماوية من صنع البشر.. وهكذا ينطلقون عابثين من تلك المتناقضات وسواها، وسواها كثير، ليعطي بعضُهم بعضَها (أي مختلفين فيما بينهم أيضا) الأولويةَ على الوحي، أي لتفسير ما نزل وحيا من لدن الله تعالى، بناء عليها، وليس الحكم عليها انكلاقا ممّا يقول به كلام الله تعالى، خالق الفلاسفة وسواهم.
4- العبث السفسطائي.. وهو عبث لا يوجد وصف "قويم" لتصنيفه، يعتمد غالبا على مقولةٍ سليمة في الأصل، ولكن مع تطبيقها حيث لا تتوافر شروط سلامة التطبيق.. من ذلك مثلا قولهم: أولئك علماء ونحن علماء.. أولئك علماء: أي المفسّرون والمجتهدون من علماء المسلمين على مرّ العصور الماضية حتى اليوم، ونحن علماء: أي المتفلسفون وشبه المتفلسفين والمستشرقون وأتباع المستشرقين وأدعياء الاجتهاد فيما يروق لهم مع هَجْر كلّ ما لا يروق لهم من الإسلام الذي يريدون زعم حقّ "الاجتهاد" باسمه، على غرار رأسمالي يزعم تطوير الشيوعية أو شيوعي يزعم تطوير الرأسمالية!.. إنّ العلماء المحدثين الذين يحقّ لهم الاجتهاد باسم الإسلام وإن خالفوا بما يرونه اجتهاد أسلافهم من العلماء، تجمعهم جميعا أرضية مشتركة هي أرضيّة الإسلام نفسه، وشروط مشتركة هي شروط الأهليّة للاجتهاد باسم الإسلام نفسه. وهؤلاء جميعا لا يخلطون بين "الثوابت" اعتمادا على قاعدة قطعي الورود وحيا قرآنا أو حديثا صحيحا، وقطعي الدلالة لغة، وبين "الاجتهادات الفقهية"، فما ثبت وحيا يقتصر "دورهم" بصدده على تعداده تعدادا وبيانه تصنيفا، وكلّ مسلم على جانب كافٍ من الارتباط بدينه وبعض العلم المفروض به، يستطيع أن يميّز تلك الثوابت، فلا يستطيع أحد أن ينكر -وهو مسلم- شيئا من أركان الإسلام، وسواها ممّا فُرض بوضوح بنص الوحي، ولا يُلزَم المسلم من بعد ذلك باجتهاد عالمٍ بعينه، يتعلّق بحكم اجتهادي، بل يمكن أن يقبل أو يرفض، وفق ما يعرفه بنفسه عن ثوابت إسلامه، ولا يلومه العلماء الأقدمون ولا المحدثون في ذلك.. أمّا ما يصنعه أولئك القوم بعبثهم "السفسطائي"، فهو (1) زعم أهليّتهم هم لبيان الثوابت أو استنباط أحكام اجتهادية، وليس لهم تلك الأهليّة جملة وتفصيلا، وهو (2) خلطهم المتعمّد بين الثوابت وحيا وما سوى ذلك من اجتهادات، وهنا تبدو صلة الوصل بين ما يصنعون وبين إنكارهم حقيقة الوحي الربّاني نفسه.
5- العبث بمنهج البحث العلمي.. لم يُعرف البحث المنهجي العلمي قبل ظهور الإسلام وعلماء المسلمين، من مختلف الميادين المصنّفة تحت عنوان دينية ودنيوية، ولم يُعتمد على التجربة "الحسيّة" في استنباط القواعد العلمية في مختلف الميادين قبل ظهور من عُرف من علماء المسلمين في الفلك والطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والبصريات وغيرها. وبدأت قواعد البحث المنهجي العلمي بالانتقال إلى أوروبا في عصر التنوير بعد ظلمة عصورها الوسطى، فبدأ عصر الاكتشافات والاختراعات الأولى في عصر النهضة الأوروبية، ثم بدأ في وقت لاحق الانحراف بتلك القواعد في العلوم الطبيعية والإنسانية مع ظهور دعاة الحداثة الإلحادية بعد التنوير، عبر ما سمّوه "الإمبريقية" مثلا، وهي في الأصل اعتماد التجربة الحسية (التي اعتمدها المسلمون من قبل) إنّما أضافوا إليها كلمة "فقط" أي أضافوا إنكارَ الوحي الرباني مصدرا للمعلومة البشرية، ثمّ عبر ما اشتهر بوصف "الوجودية" مثلا آخر، أي إنكار ما وراء الوجود المحسوس، وبالتالي إنكار الألوهية والربوبية والوحي ابتداء. ومنذ ظهور هذا العنصر الإلحادي في الحداثة بدأ التدهور في مسيرة التنوير الأوروبية الأولى وفلسفتها "الإنسانية" لحساب هيمنة المادة على حساب الإنسان، فكان ما أسماه فلاسفةُ ما بعد الحداثة -مثل فوكو- أغلالا أرهقت "الحريات" التنويرية. إن ما يزعمه أدعياء التنوير والحداثة اليوم لأنفسهم من التزام البحث المنهجي العلمي ووصم سواهم من الباحثين المسلمين بمخالفته، إنما هو التزام بنظرة إلحادية منحرفة عن البحث العلمي الذي تبنّته مسيرة النهضة الأوروبية بعد أن تبنّته النهضة الإسلامية، وهو تشويه للتاريخ الأوروبي والتاريخ البشري، فلم ينطلق جاليليو في علام الفلك ولا جوتنبيرج في عالم الطباعة ولا أديسون في عالم الفيزياء من وجودية سارتر ولا حتمية ماركس، ومن يربط بين هذا وذاك ينتهك حقائق التاريخ وحقائق البحث المنهجي العلمي معا.


الحجاب والنقاب والخمار.. مثلا

أين العلاقة بين ما سبق ووسوسة فريق من الإنس بصدد الحجاب والنقاب والخمار والمرأة وما يتصل بذلك؟..
لقد أخفقت حملات التغريب إلى حدّ كبير في تحقيق كثير من أهدافها (ولا يعني ذلك الاستهانة بما لا يزال قائما من آثارها) لا سيما على صعيد العجز عن تحويل المرأة في الدائرة الحضارية الإسلامية كلية إلى امرأة غربية، رغم تقليدها على نطاق واسع لفترة من الزمن، تجاوزتها الشعوب في بعض البلدان كمصر وسوريا، ويراد أن تتكرّر بعد هذا الإخفاق في بلدان أخرى، كبلدان الخليج!..
وازداد ظهور معالم إخفاق تلك الحملات مع إسهام تطوّر تقنيات الاتصال الحديثة في الكشف عن واقع المرأة الغربية التي يراد جعلها نموذجا للمرأة المسلمة (عقيدة وحضارة.. أو حضارة وتاريخا على الأقل) فمهما قيل عن إيجابيات "تحرّر" المرأة الغربية، لم تعد تلك الإيجابيات توازن ولو حدّا أدنى من السلبيات التي تعاني منها في الغرب المرأة والأسرة والمجتمع، سواء قيل إن هذا من صنع "مجتمع ذكوري غربي" أو قيل إنّ هذا من "ثمن التقدّم التقني والصناعي" والذي لا بدّ من تسديده، أو قيل سوى ذلك من الذرائع الواهية.. فالحصيلة هي الحصيلة المشهودة على كل حال، بغضّ النظر عن أساليب التعليل والتسويغ.
إخفاق تلك الحملات ساهم في التركيز على اعتماد مَن سبق "تغريبهم" فكرا وتصوّرا للتعامل مع المرأة وحجابها من داخل نطاق المجتمعات الإسلامية، وهنا لا نجد فارقا يستحقّ الذكر عند مقارنة ما يصنعون وما يُصنع في المجتمعات الغربية نفسها تجاه المرأة وحجابها مع انتشار الإقبال على الإسلام بين المسلمين في الغرب، من أهل البلاد الأصليين ومن مواليد الوافدين قديما المستوطنين في الغرب.
هنا تظهر العلاقةُ موضع السؤال آنفا.. إذ يقوم مدخل الوسوسة الأوّل على ما ينبغي تسميته دون تردّد: العبث بالألفاظ، مع تجاهل مقصودٍ عند كثير ممّن يتعمّد الوسوسة، وربما بعض الجهل لدى كثير من ضحاياها، لحقيقة ما تعنيه الألفاظ العربية لغويا، وكيفية التعامل معها في نطاق السائد اجتماعيا، ممّا يسري عليه أحيانا وصف "الخطأ الشائع"، نتيجة إقصاء العربية الفصحى في ميادين التعليم والتربية والفكر والترفيه، ومن ذلك فيما يتعلق بهذا الموضوع العبث اللغوي حول كلمات الخمار والحجاب والنقاب.
إنّ كلمة الخمار تعني لغويا غطاء الرأس، وبهذا المعنى وردت في القرآن الكريم، وعلى وجه التحديد في آية فرض الحجاب (وليلقين بخمرهنّ على جيوبهن) فهي تحدّد مباشرة أن غطاء الرأس يجب أن يشمله ويشمل ما دونه، فالجيب في الآية هو فتحة الثوب عند الصدر حتى العنق.
أمّا كلمة الحجاب فتعني لغويا الساتر بين أمرين، وبهذا المعنى وردت في القرآن الكريم، وعلى وجه التحديد فيما يتعلّق بالحديث مع أمّهات المؤمنين، أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم، وسؤالهنّ من وراء حجاب، وهو مقتصر على الحديث إليهنّ وهنّ داخل بيوتهن، كما يدلّ على ذلك تطبيق الآية في العهد النبوي وعهد الصحابة من بعده، فما انقطع الحديث المباشر معهنّ فيما عدا ذلك.
في الوقت الحاضر انتشر الخطأ اللغوي الشائع من خلال استخدام كلمة "الحجاب" مكان "الخمار"، وليس في هذا ما يغيّر قيد أنملة من أصل الحكم الشرعي بشأن الفريضة بحدّ ذاتها. عندما تقول المسلمة: "الحجاب" فرض، إنّما تعني بوضوح الخمار الذي يغطّي الرأس والأذنين والعنق، وتعني اللباس الذي لا يصف ولا يشفّ، وفق ما ورد في الحديث الصحيح.
إنّما يمارس الموسوسون استغلالا محضا، يقوم على عبث لغوي ظاهر، جهلا أو تجاهلا.. سيّان، عندما يقولون كتابةً فيما ينشرون، ومشافهةً فيما يتحدّثون، للمرأة المسلمة، لا سيما المسلمات الشابات عموما وفي الغرب تخصيصا، إنّ آية الحجاب خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن تعميمها على سواهنّ إلاّ من جانب العلماء الأقدمين، وما دامت العصمة للنبي وحده، فلا مانع -كما يزعمون- أن يخالفهم علماء محدثون.. وهذا أيضا من ألوان العبث المذكورة آنفا، فالذين يقصدونهم ليسوا من العلماء، بل "دون أشباه العلماء منزلة"، ليس من باب التحقير أو الإهانة، إنّما -بكل بساطة- من حيث أنّهم لا يلتزمون بعموم ما يقول به الإسلام، فقد يصحّ وصفهم بأنهم علماء في "الكلام" و"اللغات" و"المنطق" والفلسفة" على أساس مقاييس غربية وتغريبية، ولكن لا يمكن وصفهم قطعا بأنهم "علماء الإسلام" المحدثون، وفق معايير كلمة "علماء" في الإسلام. وهم لا يمثلون على كلّ حال سوى قلّة معدودة، لا يعتدّ بمقولاتها أصلا، لا سيّما وأن جميع ما تقول به "رأي واحد"، ينقله بعضها عن بعضها الآخر، وينقلون جميعا، أكثر من ذلك، عن المستشرقين من غير المسلمين، وعن الفلاسفة الغربيين، وقد يمكن "احترام" مكانتهم في تلك الحدود فقط، أي بمعنى سعة اطّلاعهم على رؤى غير المسلمين، ولكن لا يمكن "احترام" تعدّيهم على دَوْر العلم والعلماء بالمعيار الإسلامي، وليس في هذا تشدّد ولا تسييب، ولا حديث عاطفي أو حماسي، إنما هو ذات ما نعرفه -ويعرفونه هم- في أي ميدان آخر، فلا يمكن القول مثلا، انطلاقا من معايير إسلامية وتأويلات لغوية، إن كارل ماركس لم يتحدّث عن "جدلية الحتمية التاريخية" وإنما قصد شيئا آخر، بل تحدّث عن ذلك قطعا وفق معايير فلسفية غربية ووفق المعاني اللغوية التي استخدمها، وجلّ ما يمكن قوله من منطلق إسلامي إنّه أخطأ خطأ ذريعا فاحشا، ولن يعتدّ الماركسيون بذلك، لأنّه رأي صدر عن منطلق إسلامي، كذلك لا يمكن لمسلم -أو مسلمة- أن يعتدّ بما يقوله أولئك عن "الحجاب.." وسواه، لأنهم ينطلقون من منطلق غربي، استشراقي، فلسفي، سفسطائي لغوي، لا علاقة له بالإسلام نفسه وبمصطلحاته وباللغة العربية التي تعتمد تلك المصطلحات عليها.
أمّا العلماء المسلمون المحدثون بمعنى الكلمة، فما قال أي منهم بمثل ما يقول به هؤلاء، ولا يمكن أن يقولوا به، إذ ليس في الإمكان أصلا الاجتهاد عبر "اللعب بالألفاظ"، لا سيما المصطلحات، وتجاهل معانيها اللغوية المحضة.
ويمضي "العبث اللغوي" شوطا آخر عندما يخلط ممارسوه عمدا ما بين الحجاب، بمعنى الكلمة الشائع، أي الخمار، وبين النقاب.. وسواه ممّا انتشر من ألبسة بين المسلمين كالشادور في إيران، والعباءة في شبه الجزيرة العربية، وهو خلط مقصود، إذ يتحدّث ممارسوه عن حكم شرعي من جهة وعادات اللباس المباحة لأن أصل الأمور الإباحة من جهة أخرى، ليس من باب دراسة منهجية ناهيك عن اجتهادٍ لا يملكون أيّ شرط معتبر من شروطه، بل من باب الاستغلال المحض، أي الزعم أنّ العلماء مختلفون حول "الفريضة" بحدّ ذاتها، وليس هذا صحيحا، فالخلاف يقتصر حول من يرى الفريضة "الثابتة" شاملة لتغطية الوجه واليدين كما ترى نسبة من العلماء، أو ليست شاملة، كما يرى أغلبهم. ولا يمكن اعتماد ذلك تفسيرا ولا تأويلا ولا تعليلا ولا تسويغا لقول من يقول من غير العلماء، ولا سيما من لم يبلغ منزلة أشباه العلماء أصلا، بعدم شمول الفرضية لشعر الرأس أو الذراعين أو سوى ذلك من غير الوجه واليدين.
والوسوسة في الأصل هي "التشكيك الخفيّ" ويتخفّى هؤلاء مثلا، أو يظنّون أنفسهم قادرين على التخفّي، وراء ما يستخدمونه من مزاعم، كزعم الغيرة على المرأة وتحريرها، أو زعم الغيرة على الإسلام نفسه، ولا تتجاوز مقولاتهم تلك حدود التشكيك، لأنّ هذا الزعم زعم كاذب بلا حدود، وظهر ذلك مع انتشار إقبال المرأة وفق "قرارها الحرّ" بشأن الحجاب/ الخمار، حتى إذا انتشر أوسع انتشار، صاروا يؤيدون "تقييدها" -وليس تحرير إرادتها وقرارها وسلوكها وملبسها- بقوانين جائرة منحرفة، وإعلام أشدّ جورا وانحرافا.. ولأن زعم الغيرة على الإسلام يتناقض بصورة مباشرة مع ممارساتهم الأبعد هدفا ووسيلة ومضمونا، عن الإسلام نفسه، ليس من حيث ما هو موضع احتلاف اجتهادي مشروع فيه، بل من حيث ما هو معروف من الدين بالضرورة.. من ثوابت الإسلام وحيا، فمن يشكّك في المصدر الرباني للوحي، وأولويته على سواه، يشكّك في مقتضى قوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) ومن يشكّك في ذلك لا يبقى من غيرته على الإسلام سوى "الغيرة" على هدم عرى الإسلام.. لو استطاع، ولن يستطيع بإذن الله.

 

مداد القلم

JoomShaper