نجلاء جبروني
الحُرِّية قيمة عُلْيَا، يسعى إليها كلُّ البشر، لكنهم يختلفون في فَهْمِها، فبعض المثقفين يَرَوْنَ الحرِّية في عدم وضع أَيِّ قيود في التعبير عن الرأي، حتى لو كان هذا الرأي يمسُّ مقدسات شرعية أو كان يعيب في الذات الإلهية.
وبعض المفكرين يَرَوْنَ الحرِّية في إطلاق العنان للأفكار والتصورات، وينادون بحرية الفكر بلا ضابط من شرع أو عُرْف، بما يهدم القيم الأخلاقية ويصدم المشاعر الإنسانية.
وأنصار تحرير المرأة يَرَوْنَ الحرِّية في التحلُّل مما يفرضه عليها الدين من أحكام، ويصوِّرون للمرأة أن الحجاب والزواج وقوامة الرجل وولاية الأب عبوديةٌ وقهرٌ، لا تليق بزمن التحرُّر، ويطالبون بمزيد من الحقوق والحريات حتى تنال المرأة حريتها الكاملة في اختيار ملابسها- حتى لو وصل الأمر إلى حدِّ التعرِّي- وحريتها الكاملة في علاقاتها (العاطفية أو الجنسية)، وحريتها في اختيار الأماكن التي ترتادها وأوقات خروجها ودخولها إلى بيت أبيها أو زوجها، وحريتها في السفر وحدها وإقامتها بعيدًا عن أهلها...إلى آخر هذه المطالب.
والسؤال الآن: هل الحرِّية التي يطمح إليها البشر يجب أن تكون حرِّية مطلقة بلا حدود؟ أم حرِّية مقيدة لها سقف؟
- لو قال قائل: الحرية بلا حدود، قلنا: هذا خيال غير موجود على أرض الواقع، فجميع بلاد العالم تضع قوانين منظمة لسير الحياة في هذا البلد، هذه القوانين تُقيِّد الحريات حفاظًا على المصلحة العامة، مثل قوانين المرور التي يجب على الجميع أن يلتزم بها تجَنُّبًا للحوادث والأضرار، فنرى بعض اللافتات في الشوارع مكتوبًا عليها: (ممنوع المرور)، (ممنوع الوقوف)، (ممنوع تجاوُز السرعة حدَّ كذا).
فليس هناك ما يسمى بالحرية المطلقة، الحرية لا بد أن يكون لها سقف وإلا ستؤدي إلى الفوضى.
والسؤال الآخر الأهم: من الذي له الحق في أن يضع سقفًا للحريَّات حتى لا تكون مطلقة بلا قيد؟
وما المعايير التي يمكن من خلالها ضبط هذه الحريَّات؟
هل هي آراء البشر جميعًا؟ أم آراء الفلاسفة والمفكرين وأصحاب العقول؟
وإذا كانت العقول مختلفة، والآراء متباينة، أليس خالق البشر هو الأحق بالتشريع؟ أليس هو الذي خلق وهو الأعلم بمصلحة الخلق؟
أليس التشريع حق لله وحده، ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
خلق الله بني آدم أحرارًا، وهذا هو الأصل فيهم، وأعطى اللهُ عز وجل الإنسانَ إرادةً ومشيئة واختيارًا، وبِناءً على هذه الحرية يحاسبه الله، فلو كان العبدُ مجبرًا أو مكروهًا على فعل، فإن الله لا يؤاخذه على هذا الفعل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ تعالى وضع عن أُمَّتي الخطأَ والنسيانَ وما اسْتُكرِهوا عليه))[1].
ومن الحرية التي أعطاها الله للإنسان أن يختار ما يشاء من المباحات، فيأكل ما يشاء، ويشرب ما يشاء، ويلبس ما يشاء، ويمتهن ما يشاء من الأعمال، ويشتري ما يشاء، ويبيع ما يشاء، ويتزوَّج بمن يشاء، ويتكَلَّم بما في نفسِه، ويُعبِّر عن رأيه، كل هذا في ضوء الشرع وأحكام الله عز وجل، فلا يمكن أن يُقال: إن هناك حرية في إنكار وجود الله عز وجل، أو التنقُّص من أنبيائِه ورسلِه، أو التطاول على أحكام دينِه وشرعه.
فلا يمكن أن يكون الزنا مباحًا إذا كان من يفعله راضيًا بفعله، ولا أن يكون الرِّبا حلالًا إذا كان آكله وموكله راضيَيْن به، ولا يمكن أن تكون المرأة حرة في لباسِها وعلاقاتِها تفعل ما تشاء بحجة أنها حرية شخصية إذا تعدَّتْ في ذلك أحكام الشرع وضوابط الدين.
فلا يعني إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط؛ لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلى الفوضى التي يثيرها الهوى والشهوة، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].
البعض يفهم أن ضابط الحرية هو هذا الشعار: (أنت حُرٌّ ما لم تضُرَّ)؛ أي: إن حرِّيتَه تقف عند حرِّية الآخرين، وأنه ما دام هو يضرُّ نفسه فقط فله أن يفعل ما يشاء، وهذا من أكبر مكايد الشيطان؛ لأنه بِناءً على ذلك إذا أغلق عليه بَابَه وتعاطى المخدِّرات وبقي في بيته لا يؤذي أحدًا حتى يذهب مفعول المخدِّر، فهل هو حرٌّ في ذلك؟ وهل الإنسان حرٌّ أن يفعل المعصية ما دام كان وحدَه؟
وفي الحقيقة لا توجد معصية لا تتعدَّى إلى الآخرين؛ بل لا بُدَّ أن يكون في قلبه نكتة سوداء من أثر المعصية، يظهر أثرها في معاملة الآخرين، وفي حصول البلاءات والمصائب والغلاء ومنع القطر من السماء.
إنَّ الحرية في الإسلام حرية مقيدة بضوابط الشرع، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ))[2].
لا ضرر: بالنفس، ولا إضرار بالغير.
- وبعض الناس يفهم النصف الثاني فقط ويريد الحرية المطلقة.
إن الحرية في الإسلام مقيدة بضوابط العبودية لله عز جل، ولن تستقيم حياة الإنسان إلا إذا كان عبدًا لله وحده، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وعندما يصبح الإنسان عبدًا لله وحده يتحَرَّر من أسْرِ عبوديةِ ما سواه، وهذه هي غاية الحرية ومنتهى الشرف؛ ولهذا لما خرج الصحابة - رضي الله عنهم - ينشرون الإسلام ويفتحون البلدان، قال قائلهم: ((الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام))[3]، ونهى الله تعالى أهلَ الكتاب أن يكونوا عبيدًا لأحبارهم ورهبانهم؛ وذلك بطاعتهم في التحليل والتحريم والتشريع من دون الله عز وجل ﴿ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64]، وقال تعالى عنهم: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 31].
وقد فسَّرها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عندما قال لعديِّ بنِ حاتمٍ- رضي الله عنه-: ((أليسَ يحرمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه))، قال عديٌّ: قلتُ: بلى، قال: ((فتلك عبادتُهم))[4].
فتحقيق العبودية لله وحده والاستسلام والخضوع له هو أعلى مراتب الحرية؛ ولهذا كان أفضل البشر وهم الأنبياء، وقد مدحهم الله بالعبودية له عز وجل ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45]، وذكر عبده داود، فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17]، وقال عن أيوب عليه السلام: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
وخيرهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى عنه: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، وقال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
ومن فوائد العبودية لله: أنها تحرر الإنسان من هذه العبوديات لغير الله، فإذا صار عبدًا لله تحرَّر من عبودية الشهوة، ومن عبودية الهوى والشيطان، والدرهم والدينار، ومن الآراء والمناهج والأفكار المنحرفة المخالفة لمنهج الله الواحد القهار، فالحرية بالمفهوم الصحيح تساوي العبودية لله وحده، كن عبدًا تكون حرًّا، قال صلى الله عليه وسلم: ((تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ))[5]، فمن لم يكن عبدًا لله كان عبدًا لسواه، وصدق الإمامُ ابنُ القيم -رحمه الله- حينما قال في نونيته:
هَربوا من الرِّقِّ الذي خُلقوا له
فبُلُوا برِقّ النفسِ والشيطانِ
فيا من تنادون بالحرية المطلقة للمرأة، (هل معنى الحرية أن تصبح المرأة مجرد متعة؟ زينة مكتب؟ أو سلعة للعرض؟ أو خليلة تُقضَى معها الأوقات ثم تُرمى على قارعة الطريق كما تُرمى السيجارة لتدوسها الأقدام؟ هذا ما جَنَتْهُ المرأةُ الغربية من الحرِّيةِ المزعومة، اكتشفت المرأة الغربية أن حصاد هذه الحرية المطلقة أن فقدت سعادَتها البَيْتِيَّة، وأمومَتها الحانية، وشرفها وكرامتها، حتى صارت جسدًا بلا روح، ومخلوقًا بلا هدف، وتجرَّعت الذلَّ والهوان بسبب هذه الشعارات التي يرفعها دعاةُ النسوية حتى الآن؛ دعاة التحرر والفساد، ولن يقرَّ لهم قرار حتى تصبح بنات المسلمين ونساء المسلمين بين متحررات ومترجلات وعوانس ومطلقات[6]، فهل تقبلين هذه الشعارات أيتها المرأة المسلمة؟ وهل تقبلين هذه النهايات المؤسفة؟
إذ ليس معنى الحرية الانفلات وتجاوز كل القيود والضوابط، هذه باختصار حرية باطلة زائفة، يتم تسويقها بدعاوى كثيرة، هدفها ضرب القيم المجتمعية والثوابت التي تنهض عليها مجتمعاتنا العربية الإسلامية، حيث إن حرية الفكر يجب أن تبقى تحت مظلة استقامة الدين والذي هو منبع الحرية باعتبارها قيمةً عاليةً وفضيلةً ساميةً.
[1] رواه ابن ماجه (2043)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (1731).
[2] رواه ابن ماجه (2341)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (7517).
[3] قالها ربعي بن عامر – رضي الله عنه – لرستم قائد الفرس، في معركة القادسية (البداية والنهاية لابن كثير) الجزء التاسع، ص 619.
[4] صحيح الترمذي (3095).
[5] صحيح البخاري (6435).
[6] ما الذي يريده دعاة التحرير؟ حرية المرأة أم حرية الوصول إليها؛ الشروق أونلاين.